جائزة أدبية لشاعر إسباني مجهول المكان

الرئيسية » إبداع وتنمية » جائزة أدبية لشاعر إسباني مجهول المكان

لا يتعلق الأمر بواحد من الشعراء الصعاليك الذين كانوا يعيشون مع شُذاذ الآفاق في العصر الجاهلي أو العباسي، ويبوؤون بسخط القبيلة التي تخرجهم منها وتسحب منهم بطاقة الهوية، بل بشاعر إسباني معاصر نشر عشرات الأعمال الأدبية بين الشعر والقصة والقراءات النقدية وأدب الأطفال، نال عليها جوائز أدبية عدة، لكنه يعيش في مكان مجهول مدة ربع قرن.

الشبه بين الشاعر الإسباني خوسيبا ساريونانديا والشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي العربي ليس بعيدا، فهو أيضا شاعر منشق عن السلطة المركزية في إسبانيا، كما كان الشعراء الصعاليك ينشقون عن القبيلة ويعيشون بعيدا عنها. أطلق عليه بعض النقاد لقب”الشاعر المتخفي”، ولقبه البعض بشيرلوك هولمز، المحقق الشهير الذي اشتهر بمهارته في التخفي في القرن التاسع عشر وخلده الكاتب والطبيب آرثر كونان دويل في أدبه وأصبح واحدا من أشهر الشخصيات الأدبية المعروفة في العالم. وعندما أعلن عن فوزه في شهر أكتوبر 2011 بجائزة اللغة الباسكية للشعر عن سنة 2010 عن ديوانه”هل نحن مورو في السحابة؟”، أعيد الجدل مجددا حول شخصية هذا الشاعر المجهول الذي يشكل واحدا من كبار الشعراء في إقليم الباسك الإسباني، ويتصدر كبريات المجلات الأدبية في الإقليم ويقرأ له الجميع لكن لا يعرفه أحد.

ولد ساريونانديا عام 1958 بإقليم الباسك جنوب إسبانيا، الذي يطالب بالاستقلال الذاتي عن السلطة المركزية في مدريد، ودرس الفلسفة وعلوم اللغة ثم عمل أستاذا لهذه المادة، لكن المناخ السياسي السائد في عقد السبعينات في إسبانيا، والذي كان معبأ لجهة المطالبة باستقلال إقليم الباسك دفع ساريونانديا إلى الانضمام إلى حركة إيتا الانفصالية المتطرفة التي تعتمد العنف كوسيلة وحيدة للحصول على مطالبها، والتي أنشئت في نفس السنة التي ولد فيها ساريو، في ظل حكم الجنرال فرانسيسكو فرانكو.

لكن رحلة التيه بالنسبة لساريو لم تبدأ إلا في مستهل الثمانينات من القرن الماضي، وهي الرحلة نفسها التي قادته إلى الشعر والكتابة الأدبية. في عام 1980 تم اعتقاله إلى جانب عدد من أعضاء إيتا بتهمة احتجاز رجل أعمال إسباني، فحكم عليه بالسجن لمدة إثنين وعشرين عاما، وأودع سجن مارتوتيني الشهير بمدينة سان سيباستيان جنوب إسبانيا،المطل على نهر أوروميا.

بدأ ساريو النشر داخل السجن لأول مرة، ووجد في الكتابة فرصة للتعبير عن مشاعره ومواقفه السياسية أيضا، ووسيلة لمكافحة عزلة الاعتقال وإيصال صوته إلى الخارج، وفي هذا الإطار يقول في إحدى مقالاته التي جمعها في كتاب:”لم يسبق أبدا أن كانت لدي نية أن أصبح كاتبا، وعندما قمت بالخطوات الأولى في طريق الكتابة لم أكن أنوي أن أتخذ من الكتابة مهنة لي. كنت طالبا، لكن الكتابة بدت لي في ذلك الوقت كأداة إضافية في النضال خلال تلك المرحلة التي كانت فيها العلاقة بين السياسة والثقافة علاقة وطيدة، وبعد ذلك تابعت الكتابة داخل السجن. كنت أكتب لكي أنسى قليلا ظروف الاعتقال، وبعد أن أصبحت حرا، أو حرا بطريقة معينة، لم أحد من وسيلة أخرى سوى العيش في حالة فرار، لقد أصبح الفرار مهنتي، ولا شيء يوجد في حياتي غير الكتابة”.

لم تمض سوى أشهر قليلة، في نفس السنة التي اعتقل فيها، حتى حصل على جائزة مدينة”بلباو” للشعر على ديوانه”في ملاجئ الخوف” الذي رأى النور في نفس الفترة، وقد اضطرت لجنة الجائزة للانتقال إلى السجن لتسليمه الجائزة، كما حصل على جائزتين أخريين في نفس السنة، مما لفت الأنظار إليه، وبات واحدا من كبار الشعراء في إقليم الباسك المنضوين ضمن جماعة”بوت باندا” الأدبية، إلى جانب برناردو أتشاغا وجون خواريستي ومانو إرتزيا.

في عام 1985، بعد خمس سنوات من اعتقاله، دبر ساريو طريقة للهرب من السجن برفقة أحد زملائه، فاستغلا حفلا موسيقيا نظمته فرقة فنية إسبانية داخل السجن، وحالة التسامح الأمني، وهربا من السجن داخل مكبر صوت للفرقة، منذ ذلك الوقت وهو يعيش في مكان مجهول بينما يستمر بحث السلطات الأمنية الإسبانية عنه، فيما يقول البعض إنه يعيش في كوبا. غير أنه استمر في نشر كتاباته، التي تجاوزت حتى الآن العشرين كتابا، في مختلف الأجناس الأدبية، وتشمل قائمة أعماله ثمانية دواوين شعرية منها”أنا لست من هنا” الذي نشره في نفس السنة التي فر فيها من السجن، و”قصائد من السجن” الذي ظهر عام 1992، كما أصدر سبع مجموعات قصصية من بينها “أصدقاء الليالي السود”، وثمانية كتب أخرى في التأملات والقراءات النقدية، وأربعة كتب للأطفال أولها عام 1989 بعنوان”حكايات الخالة مارياسون”، وآخرها عام 2008 بعنوان”حكايات الجهات السبع للعالم”، وفي مجال الترجمة لديه سبعة أعمال مترجمة إلى الباسكية والغاليسية، من بينها ترجمة قصيدتين مطولتين للشاعر الإنجليزي إليوت إلى الباسكية (الأوزكادي)، وقصائد للبرتغالي فرناندو بيسوا، إضافة إلى أنطولوجيا الشعر الإسباني في القرن العشرين. وحصل على عدة جوائز أدبية، من بينها جائزة النقد التي حصل عليها عام 1986 عن كتابه “الطبل والمطر”،وهي أرفع الجوائز الأدبية في الأدب المكتوب باللغة الباسكية أنشأتها عام 1976″الجمعية الإسبانية للنقاد الأدبيين”، وترجمت أعماله إلى الإنجليزية والألمانية والإيطالية، وطبعا اللغة الإسبانية.

تدور قصائد ساريو حول عالم السجن والغربة والعزلة، لكن قضية الحصول على الحرية للشعب الباسكي تظل القضية الأبرز في جميع كتاباته، والديوان الأخير تحت عنوان”هل نحن مورو في السحابة؟” الذي نال به الجائزة الأخيرة يحاول فيه أن يقارن بين حالة العرب في إسبانيا الذين يعانون من العنصرية والتمييز، بسبب الخلفيات الدينية والحضارية في المتخيل الإسباني المترسبة منذ مرحلة الأندلس العربية، وبين الشعب الباسكي. ويقول في واحدة من قصائد هذا الديوان:

كل من كان معتقلا لديه فكرة واحدة تقض مضجعه

هي العودة إلى السجن،

ففي الشارع يصطدم كل يوم

بقضاة ووكلاء عامين ومحامين

ورجال شرطة

ورغم أنهم لا يعرفونه

فإنهم ينظرون إليه بغير الطريقة

التي ينظرون بها إلى الآخرين،

لأن خطوته ليست هادئة

أو لأن خطوته أكثر هدوءا،

وفي قلبه يسكن للأبد

شخص مدان.

إدريس الكنبوري

@@

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *