في ترشيد العلاقة بين السياسة والدين

الرئيسية » الأعمدة » تأملات فكرية » في ترشيد العلاقة بين السياسة والدين

إن المقاربة العقائدية للعلاقة بين الدين والسياسة؛ إذ تنطلق من أن الدين هو مصدر فساد السياسة والدولة والمجتمع، تبدو معركة بالغة التمويه؛ لأنها تظهر وكأنها محاولة لحرف الانتباه عن موطن الإشكال، وتحول، بذلك، دون معرفة الأهداف التي  ينبغي أن يتركز عليها الوسع التاريخي لإنجاز مشروع الإصلاح، كما تفوت فرصة تحديد المسؤوليات الاجتماعية بكل وضوح كشرط لنجاح هذا الاصلاح.

فليس للدين أية مسؤولية، من حيث هو دين، عن فشل السياسات التنموية في مجتمعاتنا وما تفضي إليه من حركات احتجاج، وإنما المسؤولية تقع على عاتق السياسة والنخب التي أخذت على عاتقها مهام التنظيم والتوزيع والاستثمار والإدارة في المجتمع، بما في ذلك إدارة المرافق الدينية والرأسمال الروحي.

إن السياسات العامة هي المسؤولة عن تأزم الأوضاع الدينية والسياسية على حد سواء بما في ذلك إعاقة حركة التجديد الديني، وحرمان الدين من إمكانيات التطور العقلاني والروحي..

إن عمق الأزمة، وهول الفراغ على صعيد الفاعلية التاريخية للأمة ككل هو الذي يفسر، إلى حد كبير، الرهان على الحركة الإسلامية للخروج من الأزمة الحضارية شبه الشاملة التي تعانيها المجتمعات العربية الإسلامية وليس قوة وفعالية هذه الحركات..

وتفسير ذلك أن تحول النظام الديني إلى الملجأ الأول لمطالب العدالة عبر شتى صيغ الاحتجاج والانتقام  يعد بمثابة رد الفعل الطبيعي لانسداد آليات العمل السياسي، كما أن التوظيف الاجتماعي والسياسي للدين ما هو إلا انعكاس لطبيعة السياسات المدنية، بحيث ما أن تتغير هذه السياسات حتى يتغير مسار هذا التوظيف الاجتماعي للدين فكراً وقيماً وطقوساً.

وهو ما يبرز أهمية وحيوية مؤسسة تاريخية من طراز مؤسسة إمارة المؤمنين، المنضبطة بضوابط الشرع، في حفظ الدين من كل هذه التوظيفات المغرضة..

 فكما أن توظيف الدين في السياسة، وليس استلهامه كمنظومة قيم موجهة، يمكن أن يسعى إلى تعميق التعبئة الاجتماعية وتدعيم المثل الأخلاقية في سبيل الإصلاح، فقد يؤدي، بالمقابل، إلى إلغاء العقل والحرية وتكريس التخلف والاستبداد.. ذلك أن التوظيف السياسي المبالغ فيه للدين قد ينقلب على الجهات التي تسعى إلى توظيفه، بقدر ما يدفع الخوف الذي يثيره في قسم من المجتمع إلى تكوين معسكر معاد للدين نفسه.

والواقع أن التيار الإسلامي عادة ما يغفل أن توظيفه السياسي للإسلام، ومحاولة فرض نفسه قوة وحيدة محتكر لتأويله، إنما يحول الإسلام من عقيدة اجتماعية جماعية للأمة، إلى إيديولوجية سياسية خاصة بفريق سياسي دون غيره من مكونات الأمة.. وبذلك يتم الإجهاز على وحدته ومرجعيته العامة..

ووجه المفارقة أن استخدام الدين في السياسة لا ينشئ، بالضرورة إجماعاً سياسياً، بقدر ما يهدد بتمزيق الإجماع الديني نفسه؛ إذ كيف يستقيم القول أن الاسلام يمثل عامل توحيد للشعوب، وهو لعمري كذلك، في حين أن الذين يجعلون منه عقيدتهم السياسية يختلفون فيما بينهم إلى حد الاحتراب؟ بفعل الامعان في جعل الدين محض عقيدة سياسية يجري استخدامها في غمار الصراع الاجتماعي على السلطة بدل أن يشكل عنصر إغناء أخلاقي وتوجيه قيمي، وبدل أن يمثل الملاذ الحقيقي الوحيد للفرد كما للجماعة، ورمز وحدة الأمة وملهم سياستها العميقة والبعيدة المدى..

الأمر الذي يستدعي عدم الزج بالإسلام في خضم المعارك السياسية اليومية حتى يظل ذخراً  للمجتمع ككل، وملاذه الأخير في المحن الكبرى، وإلا فسوف يستهلك المجتمع أهم رأسمال لديه، لتحقيق مطالب وأهداف يستطيع تحقيقها بوسائل أدنى وأبسط.

 خاصة وأن الدين لا يملك القدرة على تلبية كل هذه الطلبات دون أن يخسر حقيقته ويدخل في فوضي عارمة وانشقاقات وتفسيرات وتأويلات لا حد لها؛ لأن ازدياد وثيرة الضغط على الإسلام، وجعله ساحة للصراع السياسي والإيديولوجي سوف لن تؤدى إلا إلى إرهاقه وحرف رسالته عن مقصديتها الأصلية..

أما السبيل إلى وقف هذا الاستنـزاف للقيم الروحية والإنسانية فيتمثل في العمل على تحويل الدين، من جديد، إلى نبع تواصل إنساني وأخلاقي حي، وتخليصه من الاستقطاب الحاد بين منـزع سياسي يريد أن يذهب به إلى أبعد حد في التوظيف الدنيوي، ومنـزع روحي طقوسي  يفرغه من كل رهان اجتماعي وزمني.

 فكما أن الدين لا يمكن إقصاؤه بعيداً عن الرهانات الاجتماعية وإلا تحول إلى عقيدة لا روح فيها.. وجب في المقابل عدم إقحامه في كل رهان اجتماعي، مهما خف وزنه وحجمه، وإلا تحول إلى عقيدة حزبية وفقد عموميته: أي جوهره وروحه..

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *