الوجهة وجهات

الرئيسية » الأعمدة » حروف » الوجهة وجهات

لاشك أن أي مسار في هذه الحياة كيفما كانت طبيعته وصفته يستلزم وجهة  يوليها السائر ، وقبلة ييمم شطرها السالك، إذ يمكن اعتبار توجه الإنسان نحو قصد أو قيمة معينة خصيصة محددة له باعتباره إنسانا، بل كلما سما هذا القصد وعلا، زادت إنسانيته ونمت، فوصف الإنسانية ليس معطى جاهزا مكتملا تناله يدك كلما امتدت إليه ، بل هو تخلقات مستمرة تطلب كل سني وتطرح الدني، وعلى قدر علو همة الإنسان في هذا الوجود، ترتفع مقاصده ويتميز سيره ويتفرد مساره.

المسار مسارات، وهي ليست إلا اختيارات -بعدد أنفاس الخلائق- تكاد تكون لا متناهية،  ولذلك تفاوتت سِير الأفراد والجماعات ، وعملت ذاكرة التاريخ على تخليد الجميل والجليل منها ، وتحبيب النفوس إليه تعلقا وتشوفا، والاعتبار بما انحرف عن الجادة ، توقيا وتجنبا.

 لم تكن لتتيسرالسير العظيمة سواء تعلقت بالأفراد والأمم، دون أن يكون لأصحابها صبر واصطبار على نحت رؤاها ومنظوراتها الموجهة الشاملة التي بها يتم الاقتدار على الحفاظ على المسار من كل أنواع الزيغ والضلال عن المقصود، والاجتهاد في صياغة الوسائل الناجعة التي تبلغ الهدف المنشود.

و معلوم أن أي مسار لا يتسنى له أن يضمن النجاح، دون الاستثمار لموارده البشرية ، إذ بناء الإنسان وتأهيله وتزويده بمختلف الكفايات التي تضمن له سيرة متزنة تحفظ على المسار وجهته الصحيحة ، كل ذلك يعد الأساس في كل مشروع يروم الرقي والنهوض.

والسير في المسار هو حركة في الوجود وعمل في الميدان وتجربة ومحك وامتحان ، وليس شعارات وأقوالا يكذبها واقع الحال ، مما يجعل من السلوك نوعا من اللامعنى الذي لا يفضي إلا إلى ما نرى من حولنا من ابتكار صنوف وأد الحياة والقضاء على أسبابها ،حيث تعتبر جرائم القتل والانتحار أكبر تجل لها .

لا بد من البوصلة التي تحدد الاتجاه، فالفطرة الإنسانية هي مصدر محبة الخير والنفع والصلاح في هذا الكون، وهي الطاقة الدافعة للأفكار والمواقف والأعمال من أجل الإعمار والعمران والتفنن في تيسير سبل الرفاه للإنسان، مع مراعاة مكونات محيطه من سائر المخلوقات، فلا يختلف اثنان في أبعاد الجهات من شمال وجنوب وشرق وغرب، وتم الاجتهاد طيلة التاريخ الإنساني في الوسائل الكفيلة بتحديد هذه الجهات حتى يتم السير والعبور في أمن وأمان ، وكل زمان أفرز اختراعاته المناسبة لدرجة تطوره الفكري والعلمي، ولكن بعد الجهة يبقى دائما ثابتا محددا وموجها، وهذا ما ينطبق على الوجهات التي تدل على الخير والنفع والعدالة والصلاح للخليقة، فهذه القيم العليا يطلبها الإنسان لنفسه ولغيره وللاحق من الأمم البشرية ، ويختط لذلك مسارات يلحظ المتدبر أنها كلما كانت بالصفة الإنسانية ألصق كانت في التاريخ أخلد وأدوم. وما الاختلاف بين المنظورات الموجهة لسلوك الأفراد والجماعات إلا دليل على غنى التجربة البشرية وذكاء النوع الإنساني القادر على اختراع وسائل النجاة في أرض العبور الدنيوية، كما قد يسقط في ابتداع أشكال الفساد والدمار إذا ما تم الذهول عن الوجهة والمسار.

لا ينفك المسار إذن عن التوجيه والتخطيط والتشريع والتنظيم والتعيين والتمكين والتنزيل والتقويم، لكي يضمن نوعا من النجاح في الحال والمآل، وهي هندسة لطرق الحياة أبدع الكسب الإنساني في مفاهيمها ومناهجها سعيا إلى تحصيل النتائج بشكل علمي ومدروس لا مجال فيه للاعتباط والارتجال، والتربية والتكوين والتأهيل للعنصر البشري وإعلامه وإخباره ، مسائل حيوية ومسؤوليات جسام تستوجب تعيين الوجهات الصالحة وتمكين المقاصد النافعة  وتنزيل الوسائل الناجعة.

شارك:

7 الأفكار حول “الوجهة وجهات

  1. |فدوى ياسين

     السلام عليكم
    أجدت أستاذ في تناولك لهذا الموضوع

  2. الشكر لكل من ساهم في اخراج هذا العمل الى الوجود وشكرا للاستاذ الدكتور على المقالة

  3. |نورس

    أحب أن أضيف دكتور عبد الصمد غازي بأن زمننا بدأ يتحرك حركة قوية، ولكننا لا نعرف – بالضبط – صوب أيِّ اتجاه؟  ها هو زمننا يتحرك حركة قوية، لكن ضمن أيِّ مسار؟ زمننا بدأ الحركة فجأة، بعد أن مرّتَ  سنوات من الانتظار علينا أن نبارك أيَّ خطوة من
    أجل التغيير، لكن الخطوة هذه لن تكتمل إن لم يرافقها “مشروع عمل” أو
    حزمة مبادئ.. فهل سنستوعب الدرس وأوجدنا الرؤية من أجل رؤية مستقبل أفضل؟

  4. |Nourzaki45

    لكي نفهم زمننا يجب علينا ان نتساءل عن ما يجري حولنا من متغيرات العصر لأن زمننا تميز بتطورات عديدة فهل سنستطيع التأقلم والمسايرة فضيلة الدكتور أبو فتيحة     فلم يتطور العقل البشري على مدى تاريخه الطويل إلا من خلال التساؤل الذي يعد المحرك
    الأساس للعقل والوسيلة الفعالة للوصول إلى الحقيقة عن تبصر واقتناع، فمن خلاله
    يتمكن الشخص من التحرر من التفسيرات التقليدية ومن التصورات الشائعة – بالبحث
    بنفسه – عن مصادر الصدق واليقين فيما يبدع من أعمال. والتساؤل
    في حد ذاته لا يعني أننا سنجد الإجابة عن تساؤلاتنا وكفا بل لا بد أن نتساءل حتى نصل
    إلى مسلمات نؤمن بها ثم نبني عليها نظريتنا.. ومع ذلك فلابد أن نظل طوال رحلتنا ونحن
    في حالة تساؤل، فالتساؤل إذن استعداد فطري يولد معنا وهو أداة شك وحيرة فيما هو
    قائم من أجل البحث عن الحقيقة.

  5. |Ghaziidriss

    حقا إنها حروف من ذهب تفتح مسارات الاستبصار و توسع آفاق الاستشراف وتنم عن راسخ الخبرة و عمق التجربة
    بارك الله في “مسارات” مسارات الهدى .. مسارات الخير..
    أبو البركات 

  6. |محمد الطافلي

    موضوع  متميز وطرح أميز 

    التطور التكنولوجي دفع الإنسان دفعا لعوالم حولته من ثابث يسخر مختلف المتغيرات و الوسائل لتلبية حاجياته إلى متغير متطاير يلهث وراء عوالم متقلبة يعتبرها ثابثا لا محيد عنها من أجل التحقق بآدميته و تحديد معالم هويته الضائعة وسط هذا الزخم الفكري المصحوب بزوبعة قيم و مبادئ التي جعلت من الزمن مكونا مبهما يصعب تحديد معالمه نتيجة لسرعة اصطناعية تسخر الإنسان لخدمتها فالتحدي الآن كما تفضلتم استاذي في مقالكم هو إعادة بناء التصور العام للنموذج الحياتي الأمثل الكفيل بتبوء الإنسان موقعه ك””صانع للسرعة”” بعد أن صار “صنيع السرعة”” يرزح تحت رحمتها 
    وفقكم الله مع متمنياتنا لكم بالإزدهار و السداد

  7. |نورس

    دكتور عبد الصمد غازي نشكرك على هذه الكلمة الهادفة والتي تحمل في طياتها عالم من اللمسات وكأنك تضع اليد على قلب كل إنسان وتعلم ما بداخله وتعطي له الداواء الشافي طلما احتجنا إلى كلمات مثل هذه متميزة في اللغة فلغتنا باتت قريبة من الفناء ومن خلال موقعكم مسارات نتمنى إيجاد كلمات تعرج بنا إلى مسارات النجاح وإحياء اللغة من جديد,
    مبروك عليكم المولود الجديد مسارات الذي نتمنى له السير في مسار النحاح حتى يرتقي في سماء النجاح

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *