يروي الراحل عبد الوهاب المسيري، رائد الدراسات في الصهيونية واليهودية في العالم العربي وصاحب الموسوعة الشهيرة، في كتابه “رحلتي الفكرية – في البذور والجذور والثمر: سيرة غير ذاتية غير موضوعية”، أنه خلال إقامته في الولايات المتحدة الأمريكية صودف أن صدم ابنه سيارة أحد الأمريكيين، فاحتج هذا الأخير، وحضر المسيري إلى عين المكان فعرض على الشخص، وكان يهوديا أمريكيا، إصلاح الخطأ وشراء أحد المصابيح التي تضررت بسيارته، وتم الاتفاق على ذلك، ولكن الشخص في ما بعد رجع إلى المسيري وطلب منه مبلغا أقل مما تم الاتفاق عليه، ولما سأله عن السبب قال إنه وجد مصباحا أقل ثمنا في السوق السوداء، وأصر المسيري على أن يعطيه المبلغ كاملا، وفق تسعيرة السوق الحقيقية، لكن الرجل بقي متشبثا بموقفه ورفض أن يأخذ أي مبلغ آخر.
واستنتج المسيري من تلك الحكاية أن الناس تفكر وفق الأنساق الثقافية التي تعيش فيها، وأن أخلاقيات المعاملة والسلوك الإنساني تبقى واحدة في كل مكان وفي كل ثقافة، لأنها فوق جميع الأنساق الثقافية، ويضيف الخبير الراحل أن حاجة المجتمع العربي إلى تلك الأخلاقيات، خصوصا في المجالين الثقافي والإعلامي، حاجة ملحة بسبب ما يطبع حياتنا من ترد أخلاقي يضبط سلوك الفرد والجماعة، مؤكدا على الترابط القوي والمتين بين الأخلاق والتنمية.
وما من سبب قوي يربك المجال الثقافي والإعلامي في حياتنا مثل غياب الضوابط الأخلاقية والمحددات القيمية في سلوكنا اليومي. يكاد المواطن العربي يعيش بثلاثة أبعاد كامنة في شخصيته الواحدة، في انقسام شيزوفريني غريب. وقد درس محمود حجازي في كتابه الشهير”سيكولوجية الإنسان المقهور” هذا الانقسام في داخل الشخصية العربية واستطاع، إلى حد، أن يصل إلى أن المواطن العربي يخفي بداخله شخصيات متنافرة ومتضاربة في العديد من الحالات، حسب الأوضاع والمواقع الاجتماعية وحسب الظروف الخارجية. في غالب الأحيان يلعب الإعلامي العربي دور الواعظ ومقدم الدروس للآخرين حول الديمقراطية والسلوك الأخلاقي والمواطنة، ولكنه في حياته اليومية يكون شخصا آخر يخفي في باطنه رجلا متعطشا للبطش والسلطوية والإعجاب المرضي بالذات، ويتستر على أخطائه بينما لا يتوانى في الكشف عن عورات الآخرين. وعلى المنبر يلعب المثقف دور الداعية الذي لا يكف عن إسداء الدروس وتحديد مكامن الخلل في مجتمعه، لكنه في حياته الواقعية يعيش شخصية أخرى لا علاقة لها بوضعية الوقوف على المنابر والندوات واللقاءات التي لا تتطلب سوى لعبة التقمص، في عملية مسرحية مثيرة للغثيان. يشبه هذا الوضع حالة بطل إحدى مسرحيات الكاتب الألماني برتولد بريخت. كان بطل بريخت صاحب معمل كثير السكر، وعندما يكون مخمورا يعامل عماله بكثير من الأدب وحسن السلوك والتهذيب، وحينما يصحو من السكْرة تذهب الفكر ويعود إلى شخصيته الحقيقية، الرجل الحقود الذي يبطش بكل شخص، حتى أصبح عمال المعمل يتمنون أن يظل سكران طيلة الليل والنهار.
وقد اهتم الكثير من المفكرين والباحثين العرب بدراسة أسباب وعوامل تأخر الإصلاح والتنمية في العالم العربي، على الرغم من كثرة المشروعات الفكرية التي طرحت طيلة قرن كامل، والتي فشلت في أن تجد لها مصداقا على الأرض، منذ محمد عبده وجمال الدين الأفغاني وعبد الرحمان الكواكبي وسواهم، وصولا إلى محمد عابد الجابري وبرهان غليون وعبد الله العروي وغيرهم كثير، ووجد هؤلاء عاملين أساسيين وراء الخلل، غياب التواصل بين المثقف والسلطة التي يمكنها أن تعتمد تلك المشروعات الفكرية في إنتاج أنماط سياسية من الحكم يمكن أن تؤدي إلى خلق مناخ ديمقراطي وتكريس التنمية، ثم غياب القناعة الكافية بتلك المشاريع، ليس لدى المواطن فحسب، بل لدى المثقف نفسه الذي يقف وراء تلك المشروعات ويحاول أن يبشر بها. ظل الجميع منذ بداية القرن العشرين يضع لبنة على ما وضعه سابقوه، ولكن البيت لم يكتمل، لأن النسق الثقافي والأخلاقي الذي يتحدث عنه الراحل المسيري، الأساس الذي يبنى عليه، نسق مهدوم.