المهدي المنجرة ... المفرد حين يكون جمعا (1/3)

الرئيسية » إبداع وتنمية » المهدي المنجرة … المفرد حين يكون جمعا (1/3)

 ولد المهدي المنجرة في 1933 بالرباط، في حي يوجد خارج سور المدينة القديمة كان يحمل إسم حي “مراسا”. هذا البيت يوجد في مكانه اليوم المقر الرئيسي لحزب الاستقلال· كان والد المهدي، امحمد المنجرة، أحد التجار المغاربة في الثلاثينات، والذين كان السفر جزءا من مهنتهم، نشأ المهدي في وسط عائلي تطبعه القيم المسلمة والدعوة السلفية، إذ كان جيران عائلة المنجرة من رجالات الوطنية والسلفية مثل الفقيه محمد بلعربي العلوي والذي كان صديقا لوالد المهدي.

لم تكن مدن مغرب الثلاثينات تشهد الفوارق الاجتماعية الصارخة، كما لم تؤثر هذه الفوارق التي وجدت ككل زمان، على العلاقات بين الناس داخل الأحياء السكنية، وذلك سبب تجذر القيم الأصيلة في نفوس الناس، فهم يختلفون إلى نفس المتجر، ويدخلون أبناءهم إلى نفس المسيد، ويذهبون إلى نفس الحمام، ويسيرون جميعا خلف الجنائز ويحضرون الأعراس جماعات متجانسة. هذا النسيج الاجتماعي هو ما ساعد فيما بعد الحركة الوطنية في مهماتها النضالية والجهادية، لأن النخبة الوطنية لم تنشأ معزولة عن الناس، بل بينهم، واستندت على هذا الرصيد من التماسك الاجتماعي ووجود الإسلام حيا في قلوب الناس كمنظور حضاري وليس فقط كمجرد دين، يقول المنجرة.

في هذا الوسط الشعبي المتحفز ضد “الكولونياليزم”، الكلمة التي كانت شائعة لتسمية الاستعمار الفرنسي وسط المغاربة، فتح الطفل المهدي عينيه على العالم والناس والأشياء، وبدأ يتهجى الحروف الأولى للتواصل مع الآخرين. وبسبب علاقات والده مع رجال الحركة الوطنية وقيادات العمل الوطني احتك الطفل في سنواته الأولى بعالم الوطنية، ورافق والده إلى دار جده المريني حيث كانت تجرى التجمعات التي يقيمها العلماء.

 الحياة في البيضاء

في بداية الأربعينات سيدخل المهدي ليسي غورو لمتابعة تعليمه الابتدائي، كان ذلك في 1941، لكن دراسته في هذا الليسي لم تخل من المصادمات التي يمكن أن تكون طبيعية بالنسبة للفتى الذي تشرب معاني الوطنية ومعاداة الاستعمار داخل البيت قبل الشارع، ولأن والده كان كثير التنقل بين الرباط والدار البيضاء في إطار عمله في عالم الأعمال قرر بعد اندلاع الشرارة الأولى للحرب العالمية الثانية الهجرة إلى البيضاء والاستقرار فيها، لتبدأ مرحلة جديدة في حياة المهدي الصغير.

الدار البيضاء في النصف الأول من الأربعينات مدينة مشتعلة ومتوترة، خليط من الناس والرغبات مع المشاكل الاجتماعية والاقتصادية الجديدة، والمواجهات مع المستعمرين والمعمرين في البوادي والقرى حولها. وهنا سيتابع الطفل المهدي حياته ليكتشف حضور قيم الجوار والتآخي بين المغاربة، تلك المعاني التي يقول المنجرة إنها اليوم افتقدت، ولا أحد أصبح يتحدث عن “الجار قبل الدار”. كان الغني الموسر إذا أعطى الفقير لا يفعل ذلك باعتباره صدقة، بال باعتباره حقا واجبا، وإذا جفف أحد السكان الزيتون أو القديد مثلا، ونشره على سطح البيت ورآه الجيران فلابد أن يوزع ما تيسر. كان مفهوما الإحسان والخير جزءا من حياة المغاربة الأصيلة، كما كان مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مبدأ جماعيا في كل مكان.

وفي الدار البيضاء سيزداد الوعي السياسي للفتى المهدي، وهناك كان عدد من الوطنيين الذين اقترب منهم كالقاضي الزموري والمهدي الصقلي الذي كان صديقا لوالده، وسمى ابنه على اسمه.

تشكل الوعي السياسي المبكر لدى الفتى وفي الجو العام في الأربعينات من خلال كرة القدم والوداد البيضاوي الذي قاده الحاج بنجلون، والذي كان زعيما سياسيا ورياضيا، وحلقة الحسين السلاوي التي كان المهدي يواضب على حضورها في “باب الجديد”، قبل أن يعود إلى درب التازي حيث بيت الأسرة، قرب المعرض الدولي اليوم، والذي كان مسبحا يختلف إليه المهدي مع الأقران، وهناك أيضا كان يحضر مع الآخرين صندوق العجب الذي كان يتفرج عليه الناس بشديد العجب والاندهاش، ويشبهونه بالسحر. كان ذلك صدمة السينما في بدايتها.

التحق المهدي بمدرسة الأعيان بحي موغادور، وفي نفس الوقت كان يتابع تعليمه بالمسيد، وتعليما ثانيا في البيت حيث كان ادريس الكتاني ومصطفى الغرباوي يعلمان المهدي وإخوته الثلاثة، الإخوين الشقيقين والشقيقة نجية، اللغة العربية· بعد حصوله على الشهادة الابتدائية سيلتحق بليسي ليوطي، الذي لم يكن يتجاوز عدد التلاميذ فيه الخمسين، عدد المغاربة بينهم لا يزيد على العشرة· وفي ليسي ليوطي سيشحذ المهدي إحساسه الوطني جيدا، ويتعلم اتخاذ المواقف وتحديد الاختيارات· كانت هناك خليتان حزبيتان في الليسي، الأولى تابعة لحزب الاستقلال يرأسها عبد الرحمان اليوسفي، والثانية تابعة لحزب الشورى والاستقلال يسيرها أحمد بلهاشمي، فكان المهدي يحضر اجتماعات الخليتين معا· بحافز الوطنية ومعاداة الاستعمار الفرنسي، ولكنه لم يفكر في الانخراط بأي منهما أو في أداء قسم الولاء، فقط ظل مستقلا·

وإلى جانب هذا النشاط كان للمهدي الفتى نشاطات أخرى إذ كان يحضر التجمعات الشعبية التي ينظمها الوطنيون في دار بنجلون وغيرها· ويتذكر حضوره للحفل الكبري الذي أقيم هناك بمناسبة عودة علال الفاسي من منفاه بالغابون، ويقول المنجرة إنه وهو فتى كان يرى في علال الفاسي رجلا مثاليا وعالما سخر علمه لخدمة قضايا أمته ومحاربة الجهل والتخلف الفكري·

النموذج التربوي

عاش المهدي المنجرة في وسط عائلي موسر، كانت أسرته من أوائل الأسر التي أدخلت الراديو إلى البيت والسيارة إلى المغرب، وارتبطت بشبكة الهاتف، لذلك لم تكن لديه مشكلة مع المعاصرة منذ البداية· يستعمل المنجرة كلمة المعاصرة أو المدنية ولا ينطق بالحداثة إلا بين قوسين· تلقى تربية سلفية على يد والده ووالدته التي كانت من أوائل النساء اللواتي كن يختلفن إلى «دار المعلمة»، وهي ما يقوم مقام المسيد بالنسبة للرجال.

يقول إن والده رحمه الله شجع أبناءه منذ النشأة على الحرية والتعبير التلقائي والحر عن أفكارهم وآرائهم، ولم يفرض عليهم مواقف من أي نوع، ويقول المنجرة اليوم إن هذه القيم لاتزال جزءا من تكوينه ومن شخصيته، كان الوالد يطالبه فقط بالتمييز بين الأمور الرئيسية والأمور الثانوية، وأدخل في نفسه القدرة على التحليل وعدة اختيارات، وعلمه التركيز على الأولويات والنزاهة ومحاربة الغش، ويدرك المهدي أن والده فهمه جيدا، فلم يأمره يوما بالصلاة أو الصوم مثلا، بل كان يكتفي بإعطاء المثال والقدوة· كان الوالد مثقفا كون نفسه بنفسه، فرضت عليه تجارته التجول في دول أوروبية وإفريقية، كان يتحدث ست أو سبع لغات، لذلك لم يجد المهدي مشكلا مع المعرفة والثقافة داخل الأسرة·

بالنسبة للمنجرة فإن أفضل وسيلة بيداغوجي في تربية الأبناء هي المثال والنموذج· لديه بنتان هما الآن زوجتان وأمان، وله أحفاد منهما، ويقول إنه لم يتدخل أبدا في حياتهما أو في دراستهما أوفي زواجهما، فقد اختارتا حياتهما بحرية، وهو سعيد لأن طريقته في التربية كانت ناجحة· ويقول بأنه لا يمكن أن أكون أكبر مدافع عن الحرية والاختيار ولا أمارس ذلك في بيتي· لكن الأمر أصبح صعبا اليوم، دون أن يفقد هذا النموذج أهميته، فقد أصبح دور الخارج في التربية بنسبة 70%، مقابل 30% فقط هي نسبة الدور الذي يقوم به البيت والمدرسة، لكن بالأمس كانت النسبة بين الاثنين منقلبة· فلسفة المهدي المنجرة في التربية توجد في بضع كلمات : إذا ربيت أبناءك على نمطك وثقافتك الشخصية وعاشوا على نفس قيمك دون أن يضيفوا هم لها شيئا، فإنك تكون قد فشلت في التربية.

 ادريس الكنبوري

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *