سنحاول في هذه المقالة التعريف بأداة معرفية/إجرائية حديثة توفرَ لها قدرٌ هام من “الكفاية العلمية” الضرورية في اللسانيات المعاصرة وعلم الدلالة الحديث، فحققت نجاحا معتبرا في دراسة النصوص على اختلاف أنساقها المعرفية في حقول العلوم الإنسانية المختلفة، وهذه الأداة المنهجية هي “السياق”، وسنحاول ربط هذا المفهوم الإجرائي بأصول علمية إجرائية قال بها علماؤنا القدامى ووظفوها في فهمهم لـ”دلالات اللفظ” في النص العربي عموما وللنص القرآني خصوصا، إثراء للمعرفة الإنسانية عامة وإبرازا لدور علمائنا الأجلاء في تأطير معارف عصرهم، ولأصالة بحثهم، وسنضرب أمثلة تطبيقية من نص الكتاب العزيز تُظهر كيف يكون للسياق دور قوي في فهم معاني الألفاظ القرآنية وضبط دلالاتها.
الإطار المفاهيمي
ولما كان “السياق” مرتبطا ارتباطا قويا بـ”النص” لأنه مجاله الذي يطبق فيه، فإننا نرى أنه من المناسب أن نُعرّف بمفهومين أساسيين تدور عليهما محاور هذه المقالة، وهما: النص والسياق. وسنحاول التبسيط والاختصار الشديد في ذلك نزولا عند مقتضى الحال.
1. النص:
من المعلوم أن المراد بمصطلح “النص” في المعرفة اللسانية المعاصرة غير المراد به في تراثنا العربي الإسلامي؛ فالمعاصرون يعرّفونه بأنه مجموعة من الأحداث الكلامية ذات معنى وغرض تواصلي، تبدأ وجودها من مرسل للحدث اللغوي وتنتهي بمتلق له، ومؤهلة لأن تكون خطابا، أي أن توجَّه إلى شخص بعينه(1)، ومن ثَمَّ فهم يشترطون وحدة موضوع النص ووحدة مقصده(2). و”النص”، في تصور كثير من المعاصرين، يتجاوز الكينونة اللغوية المحدودة ولا ينحصر في مقولات اللغة على الرغم من أنه متشكل منها، بل يراعي الواقع الخارجي، ومن ثَمَّ فإن النص هو المعادل اللغوي للواقع الإنساني والكوني.
أما العلماء العرب المسلمون القدامى – ولا سيما الأصوليين- فقد كان لمصطلح النص عندهم مفهوم آخر فتحدثوا في “النص” بعبارات كثيرة أشهرها ما ذكره الإمام محمد بن إدريس الشافعي (ت 204 هـ) بأنه “هو المستغني بالتنـزيل عن التأويل”(3) أي هو الكلام الذي لا يحتمل تفسيرا أو تأويلا لأن ظاهره يغني عن كل ذلك، وهو الذي أبانه الله لخلقه نصا ظاهرا بينا. ويبدو أن تعريف الشافعي هذا قد لقي قبولا لدى علمائنا القدامى فرددوه من بعده، ولا سيما الإمام الغزالي (ت 505 هـ) وابن حزم (ت 456 هـ) وغيرهما… ولم يخالفوه إلا في بعض الجزئيات(4)… وواضحٌ أننا لا نقصد هنا ما ذهب إليه أسلافنا، وإنما نريد بـ”النص” مفهومه اللساني الحديث كما يطلقه اللسانيون المعاصرون وكما أنضجه لغويو المدرسة الألمانية وغيرها، من أمثال: دراسلر W. Dressler وبتوفي Petôfi ودو بوغراند Robert De Beau وغيرهم.grande وفان دايك T.A Van Dijk
وعليه فإن “لسانيات النص” – Linguistique Textuelle -كما نقول في المغرب الكبير أو /”علم لغة النص”/ كما يقول إخواننا المشارقة- هي علمٌ ناشئٌ وحقلٌ معرفي جديد تكوّن بالتدريج في السبعينيات من القرن العشرين، وبرز بديلا نقديا لنظرية الأدب الكلاسيكية التي توارت في فكر “الحداثة” و”ما بعد الحداثة”، وراح هذا العلم الوليد يطوّر من مناهجه ومقولاته حتى غدا “أهمّ وافدٍ” على ساحة الدراسات اللسانية المعاصرة، وقد نشأ على أنقاض علوم سابقة له كـ”لسانيات الجملة” و”اللسانيات النَّسَـقية” و”الأسلوبية”، ثم انطلق من معطياتها وأسس عليها مقولات جديدة، وهو قريب جدا من صنوه “تحليل الخطاب”، غير أن هذا الفرع الأخير يقوم على أساس التحليل البنيوي، أما فرع “لسانيات النص”- حتى وإن استثمر جميع النظريات اللسانية السابقة عليه- فهو يقوم في الأعم الأغلب على أساس التحليل التداولي، وأهم ملمح في لسانيات النص أنه غني متداخل الاختصاصاتInter-disciplinaire يشكِّل محور ارتكاز عدة علوم، ويتأثر دون شك بالدوافع ووجهات النظر والمناهج والأدوات والمقولات التي تقوم عليها هذه العلوم.
وأما في التراث العربي فقد بحث بعض علمائنا في “النص” ونظّروا له ولم يتوقفوا عند التنظير للجملة كما يحلو لبعضهم أن يردد؛ فمن علمائنا الذين قدموا إسهاما علميا ناضجا (في مجال التنظير والتطبيق النصي) الإمام عبد القاهر الجرجاني (ت 471 هـ) في “نظرية النظم” (كتاب: دلائل الإعجاز)، وتبرز قيمته “النصية” في أنه جمع بين علوم كثيرة كـ”النحو” و”علم المعاني” و”علم البيان” و”التفسير” و”دلالة الألفاظ” و”المعجمية” و”المنطق”… وألّف بين أشتاتها في تناغم عجيب واتخذ منها أدوات معرفية متضافرة على تحقيق هدف واحد هو: خدمة النص القرآني وبيان إعجازه. وقد كانت فكرة “الانسجام النصي” (Cohérence textuelle) واضحة في ذهن عبد القاهر وضوحا متميزا حتى إننا نجده يعبر عنها بقوله: “واعلم أن مَثَلَ واضعِ الكلامِ مَثَلُ من يأخذ قطعا من الذهب أو الفضة فيذيبُ بعضَها في بعض حتى تصير قطعة واحدة…”(5) وهذا يدل على أن بنية النص في تصور عبد القاهر الجرجاني تصل إلى مرتبة “الصهر” الذي هو أعلى درجات “التشكيل”.
ومنهم جمهور علماء أصول الفقه، ولا سيما الذين بحثوا منهم في حقليْ “دلالات الألفاظ” و”معاني الأساليب وما يترتب عليها من قواعد وأحكام”(6)، وتعرضوا للثنائيات الدلالية التي وضعوها تحت عناوين: العام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمفصل، والمحكم والمتشابه(7) … فقد كان السادة الأصوليون جامعين للشروط العلمية والأدوات التحليلية التي تحققت لها “كفاية علمية” ممتازة في البحث النصي. وهذه الثنائيات تشمل الشروط الجوهرية والوظيفية والمعرفية للنص القرآني الكريم… وليس المقام مناسبا لتفصيل الكلام في ذلك. ومنهم صنفٌ آخر، هم المفسرون، والذين قاموا بجهود كبيرة في “تحليل” النص القرآني كلٌّ على طريقته؛ فقد سلكوا إلى فهمه طرائق منهجية شتى أهمها طريقة “السياق” كما سنذكر لاحقا. ولكن المفسرين يتفاوتون في الأدوات المعرفية المعتمدة بين أثرية ولغوية ومنطقية.
وقد أدرج علماؤنا القدامى- ضمن مفاهيم النص- مفهوم “القصد” وهو الغرض الذي يبتغيه المتكلم من الخطاب و”الفائدة” التي يرجو إبلاغها للمخاطَب، فلن يكون هناك “نص” ولا “خطاب” دون “قصد”، وهذا نفسه ما يركز عليه المعاصرون حين يرفعون من شأن “القصدية Intentionnalité” في كلام المتكلم، وخصوصا كما فعل الفيلسوفان المعاصران ج. ل. أوستين Austin وتلميذه ج. سيرل Searle، في “نظرية الأفعال الكلامية” التي هي أهم مفهوم من مفاهيم “التداولية” وأفضل إنجازاتها، وقد استعارا هذا المفهوم من الفيلسوف الظاهراتي إدموند هوسرل. E. Husserl.
2. السياق:
أشار علماؤنا القدامى إلى قاعدة ذهبية مضمونها أن أفضل طريقة للتفسير هي تفسير القرآن بالقرآن(8)، وتعد هذه الملاحظة، في رأينا، إشارة إلى منهج قويم في “علم الدلالة Sémantique” والذي أصبح يعرف اليوم بـ”المنهج السياقي”، وهو المنهج الذي جعل للسياق الدور الحاسم في فهم النصوص وتحديد معاني الألفاظ وضبط دلالاتها، فقد اتفق اللسانيون المعاصرون على أن علاقة الكلمة مع الكلمات الأخرى في “النص/ الخطاب” هي التي تحدد معناها، وصرح زعيم المدرسة السياقية فيرث Firth بأن المعنى لا ينكشف إلا من خلال “تسييق الوحدة اللغوية”(9)، أي وضعها في سياقات مختلفة، وعليه فإن دراسة دلالات الكلمات تتطلب تحليلا للأنماط السياقية والطبقات المقامية التي ترد فيها، فمعنى الكلمة يتحدد وفق السياقات التي ترد فيها(10)
وقد كان علماؤنا القدامى مدرِكين لأهمية السياق في تحديد المعنى وواعين بدوره الحاسم في توجيه دلالات العلامات اللغوية ولا سيما في نص القرآن الكريم؛ فقد صرح ابن قيّم الجوزية (ت 751 هـ) أن السياق “يرشد إلى تبيين المجمل وتعيين المحتمل والقطع بعدم احتمال غير المراد وتخصيص العام وتقييد المطلق، وتنوع الدلالة… وهذه من أكبر القرائن الدالة على مراد المتكلم، فمن أهمله غلط في نظره وغالط في مناظرته”(11). نجد في هذا النص الهام إشارة إلى أمرين:
- مفهوم “السياق الأصغر أو “السياق الخاص” للنص القرآني، ودوره في تحديد الدلالة
- علاقة التكامل الوظيفي/الدلالي بين السياقين “الأصغر والأكبر”، إذ كثيرا ما يفسَّر أحدهما بالآخر، أي يفسّر سياق بسياق،
- والأول (السياق الأصغر) محدود ضمن وحدات دلالية أو تركيبية معينة/ كالآية القرآنية مثلا، أو ما يسبق الآية وما يلحقها من الكلمات أو الآيات، بينما الثاني (السياق الأكبر) شامل لما بين دفتي المصحف لا تحده فواصل الآيات والسور والأجزاء، وهو نوعان:
- الأول يراد به النص القرآني في كينونته الكلية الشاملة، ومراعاةُ هذا النوع أمرٌ هام جدا، وهو الذي أشار إليه علماؤنا بقولهم: فما أُجمِلَ منه في موضع فقد فُسر في موضع آخر
- ونوع يندرج ضمنه ما سموه “علم المناسبة” أي مناسبة أواخر السورة المتقدمة لأوائل السورة التي تليها. والمناسبة هي المشاكلة والمقاربة والشبه، ومرجعها في آيات القرآن إلى معنى رابط بينها، عام أو خاص، عقلي أو حسي أو غير ذلك(12).
ونجد في تراثنا عددا كبيرا من العلماء ممن يعتنون بالسياق الأصغر ويعتدّون به في تحديد الدلالة ويتغافلون عن السياق الأكبر، ولكن الأصل في القرآن أنه منسجم متناسب آخذ بعضه برقاب بعض، وعلى الرغم مما قد يوجد من استثناءات توحي بعدم المناسبة فإنه حقٌّ على المفسر أن يتطلب مناسبات لمواقع الآيات ما وجد إلى ذلك سبيلا موصلا(13)، ولكن عليه أن يتفادى التكلُّف في ذلك.
ومن قبلِ ابنِ القيم بقرون كان الأصوليون والمفسرون قد تنبهوا مبكرا إلى ذلك؛ فالإمام الشافعي ذكر مصطلح “السياق” في “رسالته” وتنبه إلى دوره في تحديد دلالات الألفاظ القرآنية وتفصيل مجملها وتخصيص عامّها، ولعله هو أول من استعمله – من علمائنا القدامى- استعمالا اصطلاحيا مدققا، وقد أحسن الشافعي استثمار هذه الأداة ولا سيما في التفريق بين نمطين نصيين هامين تعبر عنهما الثنائية الدلالية: العام والخاص، وهي من الثنائيات التي جعلوا معرفتها من أجلِّ علوم القرآن كما صرّح الزركشي.
ومما ينم عن فهم علمائنا للسياق ودوره في بيان معنى دقيق أو تخصيص نص مطلق أو تبيان ما أشكل فيه الغرض والقصد أنهم يمتاحون من معطيات السياق ويعتضدون به مطمئنين إلى كفايته الإجرائية حتى قال قائلهم: “من أراد تفسير الكتاب العزيز طلبه أولا من القرآن، فما أُجمل منه في موضع فقد فُسر في موضع آخر”(14) وهي إشارة بليغة “للسياق الأكبر أو العام” للنص القرآني، وهو الإجراء الذي تسمية البنيوية المعاصرة “الناظم المنهجي” أو الذي تسميه بعض مدارسها “الرؤية المنبثقة”، وهذا يقتضي أن المعنى (أو الدلالة) ينبثق من داخل النص ولا يفرض عليه من الخارج.
وقد أخذ بالمنهج السياقي في التفسير جمعٌ من المفسرين في مقدمتهم إمام المفسرين ابن جرير الطبري الذي “جمع بين الرواية والدراية… فهو يسرد الأقوال ويناقشها ويبين أولاها بالصواب، أو يرى رأيا آخر في الآية”(15)، وكثيرا ما يحتكم إلى السياق الخاص أو العام(16)، ومنهم فخر الدين الرازي في “مفاتيح الغيب”، ومنهم جار الله الزمخشري في “تفسير الكشاف”، ومن المحدثين محمد الطاهر ابن عاشور في تفسير “التحرير والتنوير”… ونشير إلى أن حديث علمائنا الأجلاء عن السياق لا يمكن الإحاطة به في هذا المقام لكثرته وغناه. غير أنه قد يؤخَذ على مفسرينا وعلمائنا أنهم لا يلتزمون بالسياق دائما على الرغم من وعيهم بدوره في التفسير، كما قلنا، ولعل ذلك راجع إلى تعدد الأدوات المعرفية التي استخدموها في التحليل، إذ لم يكن السياق هو الأداة المنهجية المهيمنة بل كانت تزاحمها أدوات أخرى من العلوم الأثرية والمنطقية.
3.السياقان: اللغوي وغير اللغوي: هذا، ويقسم السياق إلى نوعين آخرين: لغوي وغير لغوي
أما السياق اللغوي (أو الكلامي) فهو النص/الخطاب ذاته بمستوياته اللغوية المعهودة: النحوية والمعجمية والدلالية، وهو سياق داخلي “منبثق”، لا يخرج عن حدود العبارة اللغوية بكينونتها النصية، وهذا النوع يتضمن من القرائن النصية (اللفظية والمعنوية) ما يرشد إلى مراد المتكلم من الخطاب، ولا يكون في سلّمه الإجرائي أيُّ مكوّن خارجي للمعنى والتأويل.
أما السياق غير اللغوي فيراد به ظروف الخطاب وملابساته الخارجية والتي تشتمل على الطبقات المقامية المختلفة المتباينة التي ينجز ضمنها الخطاب، والتي سماها علماؤنا: سياق الحال، أو المقام، وقالوا: [لكل مقام مقال](17)، ويشمل ذلك الزمان والمكان وحال الأشخاص: المتكلمين والمخاطبين… وهذا النوع يشتمل على القرائن الحالية التي تسهم في الكشف عن المراد، ومنها ما سماه المفسرون: أسباب النزول، ويندرج ضمنها بالطبع “مراعاة حال المخاطَب” و”غرض المتكلم”.
وعليه فإن “البحث النصي” و”البحث السياقي القرائني” ليسا من مبتكرات عصرنا كما يروّج بعض من لا يريدون الخير للثقافة العربية، وإنما هي مفاهيم واردةٌ في كتب أسلافنا من نحاة وبلاغيين وأصوليين ومفسرين… غير أن التطورات المعرفية النوعية التي شهدها عصرنا قد طبعت هذه المفاهيم بطابع علمي صارم وأطرتها ضمن أطر علمية واضحة فخطت خطوة نوعية وانتقلت من مجرد مفاهيم بسيطة إلى إجراءات منهجية دقيقة، وصار البحث فيها مقصودا لذاته، ولم تعد-كما كانت في القديم- مجرد أدوات ومداخل يُراد بها غيرها من العلوم الأخرى.
نحو علمٍ “للنص القرآني”
من الضرورات المعرفية والدعوية الملحّة التي تقع على عاتق القادرين من المسلمين اليوم إعادة تأسيس علم جديد، أو إحيائه ولكن بأدوات معرفية جديدة(18)؛ يمكن تسميته: علم النص القرآني ويكون همه تحديد دلالات الألفاظ القرآنية وفق الخبرات والإمكانات العلمية الجديدة، وضبط المناهج التفسيرية والتأويلية، ومِن ثَمَّ وضع الحدود المفاهيمية للمصطلحات القرآنية ولمنظومة القرآن/الإسلام المعرفية، في عصر يشهد تطورات نوعية أثرت بقوة وعنف على كل المنظومات الفكرية القديمة ومنها دون شك المنظومة المعرفية الإسلامية، ومن خيارات هذا العلم النصي أن يستعين أرقى النماذج التفسيرية/ التحليلية (أو التأويلية) للقرآن ذات التأسيس العلمي الرصين والتي ساهم بها بعض التأويليين القرآنيين المعاصرين ولا يقطع صلته بها.
وهذا العلم النصي القرآني المنشود (الذي ندعو إليه ونرى حاجة الإسلام والمسلمين إليه ماسة) لا يهمل، من الناحية المبدئية، التراث الإسلامي العظيم مثل كثير من مباحث علوم القرآن، والمباحث النحوية والبلاغية والأصولية وحتى الكلامية والفلسفية… ولا يحق له أن يرفضها فينبَتَّ عن أصوله ومصادره التاريخية بل يأخذ من هذا التراث الثري الغزير ما يخدم المنظومة الإسلامية في عصرنا، ولا سيما واجهتها الدعوية التي يخاطَب بها الغربيون، على أن يسعى إلى الفصل بين محليات القرآن وعالمياته، وظنياته وقطعياته، وظرفياته وأبدياته، مع حذره الواعي من محاذير الأخذ بنظريات تأويلية عربية قديمة أثبت علم اللغة المعاصر عدم كفايتها العلمية كـ”نظرية العامل النحوية”، كما لا يُهمل ما أنتجته المعرفة اللسانية المعاصرة (وحتى غير اللسانية)، بل يأخذ بها ولكن لا يتبنى كل مفاهيمها النظرية والإجرائية، وخاصة دلالاتها الفلسفية الوضعية المادية التعسفية.
فنحن نرى أن هذا العلم النصي القرآني كفيل بتشكيل وعي إسلامي هام وصناعة ثقافة إسلامية معاصرة. وإذا نجح المسلمون المعاصرون (أو الأجيال التي تأتي بعدهم) في تأسيس وبلورة مبادئ ومفاهيم هذا العلم القديم الذي من الضروري أن يجدد… وإذا ما قُدّرَ له أن يستقل عن غيره من العلوم الإسلامية التقليدية (مع أنه يمتاح منها)، فإنني آمل أنه ستترتب على ذلك كثير من النتائج الطيبة وأذكر منها:
- أ- بناء منظومة معرفية إسلامية معاصرة تؤطر حركة ونشاط المسلمين المعاصرين على اختلاف طوائفهم وإيديولوجياتهم وتعيد إحياء وعيهم الديني والمعرفي والعلمي والحضاري.
- ب- التقريب بين طوائف المسلمين المختلفة عقائديا على الصعيد العلمي والنفسي، ومن ثَمَّ التشريعي والاجتماعي، وتضييق هوة الخلاف بينهم.
- ت- جعل هذا العلم، في مرحلة لاحقة من مسيرة نضجه، مصدرا يمد الساحة الدعوية والمعرفية والتشريعية بمعطيات جديدة مؤسَّسة علميا ومؤصلة إسلاميا.
- ث- وضع حد لكثير من المحاولات الرديئة الغثة (وهي كثيرة في أيامنا…) التي تمارس تفسير القرآن وتَدَبُّره وتحليله دون استجماع أدواته الأساسية، القديمة والحديثة، وميزة هذه الأدوات أنها متجددة دائما، كما ألمحنا آنفا.
- ج- تحقيق التجديد الديني والحضاري المنشود وإعادة النظر في الأحكام الشرعية الضعيفة والاجتهادات الخاطئة وتخليص الساحة الثقافية الإسلامية من الفوضى الفكرية السائدة فيها.
وعلى الجامعات التي توصف بـ”الإسلامية” في العالمين العربي والإسلامي أن تُدرج هذا العلم القديم/الجديد في برامجها وأن تحرص على الإفادة من معطياته، ولا سيما الأساتذة والطلبة المختصين في علوم القرآن والتفسير والدعوة؛ فحرامٌ ألا تستفيد أجيال المسلمين الحالية والقادمة من التطورات النوعية المعرفية الهائلة التي يشهدها عصرنا وألا توظفها في خدمة الدعوة بما يظهر إنسانية الإسلام وعالمية القرآن وخلوده وثراءه… فالناس الذين ينبغي أن نخاطبهم نحن المسلمين من الآن فصاعدا إنما نخاطبهم بالقرآن الذي يقنعهم ويبهرهم ويستوعب ما لديهم استيعابا يتجاوز موروثاتهم الروحية ويصحح ما فيها(19) ويقوّض بُناهم الدينية المحرَّفة ومنظوماتهم المهترئة، وليس لنا أن نقص عليهم قصص منامات السلف والخلف… بل لا تعيرنا البشرية أسماعها (ونخاف ألا تلتفت إلينا أجيالنا القادمة أيضا!) إذا ما حدّثناها أن أبا حامد الغزالي رُئي في المنام فقيل له: بم غفر لك ربُّك؟ أَبِكُتبك التي ألفتها؟ أم بتلاميذك الذين علّمتهم فصاروا علماء ينيرون ظلام الجهل وينيرون درب الأمة؟ أم بعفَّتك وتقواك؟ فقال: لا هذا ولا ذاك ولا تلك… ولكن غفر لي بأني كنت مرة رحيما بذبابة فتركتها تشرب- وكنت منهمكا في تأليف كتاب ! – من مداد القلم الذي كنت أكتب به ولم أزعجها حتى شبعت، فدخلت بذلك الجنة.
لم يعد في عالم اليوم من يستمع إلى قصص مناماتنا ولا حتى في أجيالنا القادمة، ولذلك نكرر أن الخطاب الذي يشد أبناء المسلمين وغير المسلمين إليه هو ما يلبي حاجة في نفوسهم ويملأ فراغا وجوديا وروحيا ومعرفيا حقيقيا عندهم، ويستجيب لتحديات ومقتضيات الوعي الكوني الراهن.
وهذا العلم المأمول تأسيسه أو تجديده، أيا ما كان ذلك، والذي لا يهمل أدوات الفهم وآلياته الاستكشافية وقواعده المنهجية التي أنجزها العقل البشري في عصوره المختلفة- كما قلنا- لا يجوز له، بل ليس من حقه، أن ينسى أن بعض تلك الخصائص والأدوات والقواعد المنهجية هي من وحي وتوجيه آيات الذكر الحكيم، فقد يكون من هذه الآليات والقواعد المنهجية ما هو توجيهٌ إلهيٌّ خالص في القرآن الكريم ذاته، فليس لدارس القرآن إلا أن يتقيد بها ويقف عندها ويسلّم أمره إليها، والتسليم للنصوص الإلهية القرآنية علمٌ وعِزّ… وهذه خاصية هامة من خصائص القرآن الكريم، فهو “يحدثنا عن نفسه”، أي عن “بعض خصائصه وأدواته المنهجية والمعرفية-الإيبستيمولوجية”، ونذكر أهمها باختصار ودون شرح عسى أن تسنح فرصة أخرى للعودة إليها:
- -كونه من عند الله تبارك وتعالى، وهذا يعني أنه ﴿لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنـزيل من حكيم حميد﴾ (فُصِّلت- 42) وأن من صفاته أن ﴿تمت كلمات ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته﴾ (الأنعام- 115)، وكيف يأذن الله أن تبدّل كلماته والحكمة الإلهية الربانية مودَعة في هذه الكلمات !؟ ومن ثَم تحققت لهذا الكتاب مميزات وخصائص لم تتوفر لكتاب قبله ولا بعده، ومنها هذه الخصائص: “المطلَقِيّة” و”الكونية” و”الإنسانية” و”الإعجاز” بوجوهه المختلفة، ولعل أهمها – في هذا العصر – الوجه “المعرفي الكوني الإنساني العميق” للإعجاز، بما أنه يحمل هدايات الله الخاتمة للبشرية كافة.
- ـ دعوة القرآن المتكررة إلى تدبر آياته، فالتدبر هو المفتاح الناجع الذي به تفتتح مغاليق الكتاب العزيز، وهو واجب على كل من يمتلك أدوات التدبر العلمية وشروطه، إضافة إلى من عنده الاستعداد الروحي/النفسي لمعانقة الآفاق النورانية القرآنية، قال عزّ من قائل: ﴿أفلا يتدبّرون القرآن﴾ (النساء- 82) ﴿أفلم يدّبّروا القول﴾ (المؤمنون- 68).
- ـ توجيه القرآن ذاته إلى أنه يؤخذ في كليته وأن من الخطأ العلمي والديني تجزئته لأن ذلك يحول دون فهمه ودون الإيمان به، وقد يكون ذلك التجْزِيءُ إخفاءً لما أنزل الله: ﴿كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عِضِين﴾ (الحجر- 91)، وتعضين القرآن: تجزيئه وتقطيعه أجزاء ثم الإيمان ببعضه دون بعض. وهذا المعنى قريب من قوله تعالى: ﴿قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا﴾ (الأنعام-91)، إلا أن الآية الثانية مقصودٌ به التوراة، والأولى القرآن.
- – خلوه من الاختلاف والتناقض ﴿ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا﴾ (النساء- 82) مما يدل على انسجامه المعرفي (الاصطلاحي والمفهومي) من أول كلمة فيه إلى آخر كلمة، سواء من جهة ترتيب النزول أو من جهة ترتيب المصحف. وهذه الميزة ناجمة عما قبلها؛ أي أن الذي يأخذ هذا الكتاب العظيم في كليته هو الذي يصل إلى خاصية الانسجام الكلي والتناغم التام الذي يطبعه. …الخ (يتبع).
الهوامش
- 1ـ انظر: روبار دو بوغراند و وولفغانغ دراسلر، النص والخطاب والإجراء، تر: تمام حسان، ص 36. وانظر أيضا: وولفغانغ هاينه من وديتر فيهفايغر، مدخل إلى علم اللغة النصي، تر: فالح بن شبيب العجمي، نشر جامعة الملك سعود، الرياض- المملكة العربية السعودية، 1996، ص 123.
- 2ـ سعيد حسن بحيري، علم لغة النص/المفاهيم والاتجاهات، الشركة المصرية العامة للنشر، القاهرة، 1997، ص 109
- 3ـ محمد بن إدريس الشافعي، الرسالة، تح: أحمد محمد شاكر، المكتبة العلمية، ص 14
- 4ـ انظر: – ابن حزم الظاهري، الإحكام في أصول الأحكام، مج 1، ج 3، ص 391. وأبو حامد الغزالي، المستصفى من علم الأصول، دار الفكر، ج1، ص 14
- 5ـ عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، تح: ياسين الأيوبي، المكتبة العصرية، صيدا، 2000، ص 388
- 6ـ لمن أراد التفصيل يمكن الرجوع إلى: مسعود صحراوي، الأفعال الكلامية عند الأصوليين/ دراسة في ضوء اللسانيات التداولية، بحث ألقي في ملتقى “علم النص والتداولية” المنعقد بتاريخ: 9-10- 11/ ديسمبر 2003، بجامعة الجزائر/ قسم اللغة العربية وآدابها
- 7ـ انظر: مسعود صحراوي، المنحى الوظيفي في التراث اللغوي العربي (مقالة)، نشرت في: مجلة الدراسات اللغوية، إصدار: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات والإسلامية، الرياض، المملكة العربية السعودية، المجلد الخامس/ العدد الأول، 2003، ص 11/44
- 8ـ بدر الدين الزركشي، البرهان في علوم القرآن، دار الجيل بيروت، ج2، ص 175
- 9ـ أحمد مختار عمر، علم الدلالة، مكتبة دار العروبة للنشر والتوزيع، 1982، ص 68
- 10ـ نفس المرجع، ص 68
- 11ـ ابن قيم الجوزية، بدائع الفوائد، دار الكتب العربية، بيروت، ج 4، ص 9-10. ويبدو أنه نقله عن أستاذه ابن تيمية، انظر: أحمد ابن تيمية، أصول التفسير، ص 93
- 12ـ انظر: عبد الجبار توامي، نقد ترجمات القرآن في ضوء المنهج السياقي (مقالة)، نشرت في: مجلة الدراسات اللغوية، إصدار: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات والإسلامية، المجلد الخامس/ العدد الأول، 2003، ص 257/297
- 13ـ انظر: – محمد الطاهر ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر، تونس، 1984، ج 1، ص 81
- 14ـ انظر: جلال الدين السسيوطي، الإتقان في علوم القرآن، مكتبة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، ط4، ج2، ص225
- 15ـ يوسف القرضاوي، كيف نتعامل مع القرآن العظيم؟، دار الشروق، القاهرة، 2000، ص 217
- 16ـ انظر مثلا تفسيره لقوله تعالى: ﴿إن هو إلا وحيٌ يُوحى﴾ (النجم –4).
- 17ـ انظر: مسعود صحراوي، المنحى الوظيفي في التراث اللغوي العربي، ص 5/42
- 18ـ من الذين دعوا إلى إعادة إحياء وتجديد مناهج التفسير بما يتلاءم مع معطيات العصر المعرفية الفيلسوف المرحوم مالك بن نبي في كتابه القيِّم: الظاهرة القرآنية، دار الفكر،1981، الصفحات من 57 إلى 67
- 19ـ أبو القاسم الحاج حمد، العالمية الإسلامية الثانية، دار المسيرة، بيروت، 1995، ج 1، ص135
الدكتور أبو محمد مسعود صحراوي
أستاذ التعليم العالي المساعد بجامعة الاغواط – الجزائر