المجتمعات العربية الإسلامية وتدافع المرجعيات

الرئيسية » الأعمدة » تأملات فكرية » المجتمعات العربية الإسلامية وتدافع المرجعيات

لن نجاوز الحقيقة إذا  ما سجلنا أنه فيما وراء السجال الحاد بين المشاريع والخطابات السياسية حول إشكالية الدولة بوجه عام، وما يرتبط بها من نقاش حول الدولة الدينية، والدولة الإسلامية من جهة، وبين الدولة العلمانية، والدولة المدنية الديمقراطية من جهة أخرى، يكمن صراع إيديولوجي أعمق بين المرجعيات؛ يتمترس من خلاله وفي أتونه كل فريق بعدته الإيديولوجية ورهاناته المصلحية تكريسا لمذهبيته المرجعية الخاصة كمرجعية سياسية شاملة.. ومن هنا يتفجر النـزاع والاحتراب وتغيب السياسة فكرا وممارسة؟

ففي سعي مجتمعاتنا إلى التخلص من حالة التمزق والحيرة التي تخترقها تكتشف أهمية الأوبة إلى إرثها الثقافي والديني على أمل أن تجد فيهما ملجأ، أو على الأقل، عزاءً في مواجهة الصدمات النفسية والمآزق السياسية والاجتماعية التي تحاصرها من كل صوب..

غير أنه فيما وراء هذه العودة العامة، وهي عودة تعويضية كثيرا ما تقفز على التاريخ ومتطلباته واستحقاقاته، يبدو أن حركة الأفكار وردود الفعل المعرفية والسياسية والإيديولوجية على الأزمة الراهنة تشير إلى تبلور وترسخ اتجاهين رئيسيين يتنازعان وسوف يتنازعان لفترة طويلة الوعي والمجال السياسي العربي:

الاتجاه الأول: تمثله النخب الاجتماعية التي تربطها بالغرب صلات ثقافية ومادية وطيدة، وتبعا لذلك فهي تحاول أن تبرهن على أن الحل الوحيد لتجاوز المأزق الحضاري للمجتمعات العربية والإسلامية يكمن في “التبني الأعمق لقيم الثقافة الغربية الموسومة بالعالمية، والتي تستطيع وحدها أن تعوض نهائيا الإرث البالي الذي يتحمل وحده مسؤولية إخفاق الثقافة العربية الإسلامية.”

أما الاتجاه الثاني: فيتمثل في النخب الأكثر تحفظا وارتباطا بالثقافة المحلية. وهي التي يجري نعتها بـ”النخب التراثية”؛ نظرا لسعيها “باسم الخصوصية والأصالة والاختلاف، إلى مناهضة خطاب العالمية والقيم المرتبطة به، أو إلى نقض مفهوم عالمية القيم وواحديتها بالنسبة إلى جميع الأمم والمجتمعات”.

رغم صيغة التعميم التي طبعت الحكم على هذا الاتجاه فلن نجانب الحقيقة حينما نعتبر أن التيار الإسلامي برفضه القاطع لنموذج مشروع الحداثة الفكري الذي ظل سائدا منذ نهاية القرن التاسع عشر، يمثل، في أطروحاته ومنطقه، رد الفعل الأكثر تعبيرا عن عمق الأزمة، وهو ما يجعله محور استقطاب وجذب العديد من عناصر الاحتجاج والنقمة في المجتمعات العربية الراهنة. ولذلك فهو أكثر من يعكس أزمة الشرعية العميقة التي أصابت النموذج الفكري للتقدم والتحديث..

إن الحديث عن عقائد وأخلاقيات يشير، في هذا السياق، إلى الإطار المرجعي الذي يلجأ إليه الإنسان في فهم مكانته وموقعه ووجهة حركته في المجتمع والتاريخ، كما يشير إلى منظومة القيم التي ينبغي تمثلها من قبل كل فرد من أفراد الجماعة..

يتصل موضوع “المرجعية الثقافية العامة” أو “الإطار الوطني الجامع” بمسألة بالغة الخطورة والحساسية تتمثل في تحديد نوعية وطبيعة القاعدة الرمزية التي تستند عليها المجتمعات والأمم في إضفاء الشرعية والمعاني الشعورية على منظومة القيم والمفاهيم الحديثة من قبيل العدالة، والحرية، والمساواة وغيرها..

فإذا كان القرن الماضي قد شهد نوعا من الهيمنة للمرجعية الغربية باسم الحداثة؛ وهو ما شكل إيذانا بالعودة إلى التاريخ الحضاري الغربي برموزه الفلسفية والثقافية والعسكرية، بل وحتى الأسطورية كمصدر لإضفاء الشرعية والقيمة على السياسة والفكر والعمل معا، فإن الميل المتزايد اليوم هو، على النقيض من ذلك، نحو إعادة تأصيل هذه القيم والمفاهيم الحديثة في تربة الثقافة العربية الإسلامية وإسنادها إليها. وهو ما يمكن استشفافه من خلال المحدد التاريخي والتراثي للديمقراطية وللمشروع التحديثي بوجه عام وما يتصل بذلك من معايير وقيم.

ومع ذلك، وخلافا للمظاهر التراثية والمحافظة، فإن هناك نـزوعا قويا لدى أنصار المرجعية الإسلامية لاستملاك الحداثة من خلال السعي الحثيث لتأصيلها ثقافيا في أفق استنبات رموزها وقيمها الأساسية بعد أن تغدو “كسبا مشروعا”، ولو أداتيا ووظيفيا، من خلال إخضاعها لشتى عمليات التأصيل والتأويل… 

غير أن حديثنا عن المرجعية الإسلامية والغربية بصيغة التعميم لا يلغي وجود تباينات واختلافات نوعية ضمن كلا المرجعيتين؛ فمثلما لم تحل الهيمنة الإيديولوجية والثقافية الغربية دون وجود حركات وتيارات متباينة ومتنافسة ماركسية واشتراكية ووجودية وليبرالية، وكذلك دون وجود قوى متشددة وأخرى معتدلة، فإن الهيمنة الراهنة للمرجعية العربية الإسلامية على الخطاب السياسي لا تمنع من نشوء تيارات متباينة بل ومتناقضة ضمن نفس الدائرة المرجعية.

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *