تلك القارة الجديدة التي وصل إليها الإنسان، والتي تدل على أنه كائن متحرك على الدوام لا يعرف توقفا، مجبول على الكشف عن المستور المحتجب، ومطبوع باكتشاف النائي و البعيد.
الجديد في هذه القارة السادسة هي أنها من صنعه وإبداعه واختراعه، وخلاف تجاربه السابقة التي كانت عبارة عن رحلات “جسدية”، أعدت العدة والعتاد من حيث التأهيل العلمي والتقني وتوفير الموارد البشرية القادرة على اقتحام بحار الظلمات…، وأصبح هذا جزءا من تاريخ الإنسانية، بغض النظر عما صاحب ذلك من الجدل حول حقوق ملكية هذا الاكتشاف… فالمهم أن مثل هذا الإنجاز شكل لحظة انتقال حضارية لم تكن لتتحقق لولا توفر منظومة متكاملة العناصر ومتضافرة الحوافز، يحذوها كلها طلب الظفر بالسبق أو السيطرة.
لحظة القارة السادسة الجديدة هي الأخرى لم تكن محض صدفة ساقت رياحُ التاريخ الإنسانَ إليها، بل كانت استمرارا يعبر عن تنامي الوعي الإنساني وشغفه بتحقيق أكبر قدر ممكن من امتلاك العالم والهيمنة عليه، فكانت الثورة المعلوماية التي غيرت معالم العالم ووجوه رؤيته كلها، إذ ما أصبح يسمى بالقرية الصغيرة والمتميزة بمواصفات تواصلية وأنماط اجتماعية وعلائق اقتصادية وسياسية جديدة، هو الذي بدأ البعض من المحللين يطلقون عليه مصطلح القارة السادسة، تلك القارة بخلاف سابقاتها، الإنسانُ هو من يرسم معالمها، ويحدد تضاريسها ونوعية الحياة فيها، بعد أن تهيأت لها شروط التحقق والتحقيق التي تعبر عنها الثورات الرقمية الهائلة، وما يرافقها من تطورات هائلة تعد بولادة إنسان جديد يسكن هذه القارة الرقمية الجديدة.
إن مثل هذه التوصيفات لزمننا الحالي، والتي تتصارع حول المفاهيم وتتصالح من أجل التنبيه على مزالقه ومخاطره التي تهدد هوية الإنسان باعتباره إنسانا له بنيته الوجدانية والنفسية والاجتماعية. تدعونا إلى مطارحة السؤال عن مآلات هذه الاكتشافات، وهو سؤال يستلزم بالضرورة تجديد المنهجيات والمقاربات خصوصا مجال الدراسات الإنسانية في بلداننا، والتي مازالت في أغلبها الأعم -إلا ما ندر- تقتات على إشكالات اندرست أسبابُ طرحها، ومنظورات لم تتخلص من أنساق ورُؤى القرن الماضي، لأن إشكالات اليوم والغد تستوجب التسلح بالجديد والمفيد من المفاهيم والمناهج، واستيعاب سياقات العصر من أجل فهم أتم يقتدر على حسن الاستماع والتفهم والتمثل لذكاءات الطلائع من الشباب الباحث في مختلف المجالات، ذلكم الفهم الأتم الذي أعتقد أنه سيفيد أكثر في فهم حاضرنا واستشراف مستقبلنا، لأنهم هم من سيتحمل المسؤولية، ويكون من سبقهم أكثر انفتاحا على التقويم، وكفى من ترديد مقولة “ليس في الإمكان أبدع مما كان”. ففضيلة التقويم والنقد الذاتي والتربية على طلب الحقيقة هي القادرة على فتح الجسور بين الأجيال، والممهدة لانتقال الخبرات واغتنائها، وليس الجمود على الماضي وتمجيد الفردانيات، لأننا في زمان العمل الجماعي، إذ ليس لأحد أن يدعي أنه هو من اخترع القارة السادسة.