الزمن

شكل المستقبل ذلك الغيب الذي لا تدركه قنوات اتصال الإنسان الحسية المرتبطة بكل ما هو ملموس ومحسوس، فالحاضر الذي يحياه الإنسان يصير ماضيا، لينطوي الزمان عبر الدخول في حاضر جديد سرعان ما يصير في حكم الماضي، في سلسلة متوالية، حلقاتها كانت هي وعاء ما يعرف بالتاريخ، ولكنه في هذا السياق بالمعنى الشمولي الذي لا يقف عند حدود ما حفظته الذاكرة ورددته الألسن عبر الأجيال، أو ما حظي بالتدوين بتسجيل الأخبار والحوادث وغيرها، بل يضم إلى ذلك كله البعد المستعصي عن الإحاطة في ذاكرة أو كتاب، والذي تم السكوت عنه أو إهماله عن قصد أو ارتياب، إنه مجمل أنفاس الإنسان الذي ترك للخلف خبرات أخذ منها ما أراد وطرح غيرها، إذ ما يظهر في الحاضر لا يطوي الماضي بكليته بل هو مجرد إمكان تيسر له الوجود العيني والبقاء .

إذا كان الإنسان بملموسيته يعيش حاضره، ويحاول الفعل والتصرف فيه والتحكم في تقلباته مستحضرا ماضيه ونصح السابقين الذين سلفوا وخبرتهم، ومجندا ملكاته الإبداعية في مواجهة النوازل الجديدة، ما دامت الحياة بمثابة النهر الذي- وإن تماثلت صورة جريان الماء في مساره- فإن الماء في المصب غير الماء في المنبع وغير الماء في مجراه الذي يقطعه. فالمستقبل كان ذلك القادم الآتي والمنتظر والمؤمل ومصدر الترقب والحذر، تعددت وتنوعت تمثلات الإنسان له ونظرته ورؤيته بحسب تقدم وعيه وسعة معارفه وتلقيه للحقائق التي بها تغلب على هواجسه، ومخاوفه التي تقض مضجعه، واصطنع كثيرا من “المناهج” التي أراد بها استباق الزمان والارتحال إليه، ليكون هذا الإنسان مبادرا ومتحكما يسعى إلى بسط سيادته على أبعاد الزمان كلها حاضرا ومستقبلا.

“ما مضى فات والمؤمل غيب ولك الساعة التي أنت فيها”، حكمة نابعة من خبرة تستدمج كثيرا من الأبعاد التي تسلك بالإنسان من بحر الضنك والمنازعة إلى بر السكينة والمسالمة، وتجعل منه كائنا نافعا إيجابيا يستثمر الأنفاس المتاحة من أجل أن يستغرق جهده كله في صناعة الحاضر بكل مسؤولية ويقظة ضمير.

فالحاضر هو الوعاء الذي يحدد مسار التاريخ ويرسم خارطة طريقه، فمنه يتولد المستقبل الذي يصير حاضرا ومن ثم ماضيا، فلا حقيقة للإنسان إلا وقته، وأنفاسه بها يتحدد وجوده ويتقوم فعله.

يكتب الإنسان تاريخه من خلال حاضره الذي يعيشه ويرسم مساراته ووجهاته، فالحاضر أمانة ثقيلة طوقها الإنسان وعهد إليه بحمله وحسن رعايته، ذلك أن كل فعل أو حركة أو خطوة أو نفس أو لمحة في هذا الحاضر إلا وله أثر أو آثار تمتد في الأزمنة كلها، وهذا الوعي المآلي بالقرارات التي تتخذ في الحياة هو ما يحفظ المستقبل للاحق، كي يرتقي بحاضره إلى آفاق لم تكن في حسبان السابق، ولعل هذا هو سر الحياة في هذا الوجود الذي لا يستطيع أي مخلوق أن يدعي الإحاطة بما يحبل به من عطايا ومنح ونعم.

فالحاضر وجود له القدرة على تقويم الماضي: تصويبا لأخطائه وتصحيحا لغلطاته،كما له الاقتدار على صناعة فعل جديد يجتهد في ضمان مقاصد نافعة في الحال والاستقبال.

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *