عندما نتحدث عن استخدام الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء في المجال الزراعي، نحن لا نتحدث عن المستقبل، بل نتحدث عن اليوم والآن. دول عديدة يستخدم المزارعون فيها طائرات دون طيار وجرارات وآلات حصاد وقطف ثمار مبرمجة للعمل وحدها، من البذار إلى مراقبة المحاصيل ووصولا إلى جنيها. وتتيح تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي المطبقة في الزراعة العمودية اليوم إنتاج 100 ضعف ما تنتجه الأساليب التقليدية، دون استخدام مواد كيميائية ودون حاجة إلى ضوء الشمس، وعلى مدار الفصول الأربعة.
أسراب الروبوتات
كل ذلك يتم عن بعد، باستخدام أنظمة جي.بي.أس (GPS) والهاتف الذكي أو شاشة الكمبيوتر. تغيرات ستكون لها آثار اقتصادية واجتماعية وسياسية جذرية وعميقة، فكيف استعدت حكوماتنا لها؟ لننسى الحديث عن فقر التربة وتلوث البيئة والتصحر والزحف العمراني الذي رافقته هجرة اليد العاملة من الريف باتجاه المدن؛ التحدي الأكبر الذي يواجه القطاع الزراعي في الدول العربية اليوم هو الذكاء الاصطناعي.
حتى لو نجحنا بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء وتغلبنا على التحديات البيئية، وهذا لن يحدث على المدى القريب والمتوسط، لن يكون سهلا علينا الدخول في منافسة مع دول تجاوزتنا بمراحل. ولن نستطيع أن نقدم منتجا زراعيا وفلاحيا ينافس نوعية وسعر المنتج الزراعي والفلاحي لدول تعتمد الذكاء الاصطناعي والروبوتات.
لك أن تتخيّل مزارع موصولة بالإنترنت. كل ما تحتاجه هو هاتف ذكي تراقب من خلاله نسبة الرطوبة في التربة واحتمالية إصابة منتجاتك بالآفات والأمراض، وتستطيع من خلال أنظمة متطورة أن تحدد درجة الحرارة المطلوبة ونسبة التهوية ودرجة الإضاءة. لقد غير دخول الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء والطائرات دون طيار والروبوتات، وغيرها من الأنظمة الحديثة من شكل الزراعة.
انتشرت أسراب من الروبوتات الصغيرة في المزارع. ولم تعد وظيفتها تقتصر على إزالة الأعشاب الضارة، بل توسعت وظائفها لتدير الحقول الزراعية بشكل كامل، من الألف إلى الياء. من رسم خرائط الأرض وزراعة البذور ورعاية المحصول، وصولا إلى الحصاد وقطف الثمار وتعبئته وتغليفه وانتهاء بنقله للصوامع. الروبوتات الصغيرة المستقبلية ستطلق الثورة الزراعية الخضراء للأجيال المقبلة. سوف يتخلى مزارعو المستقبل عن أعمالهم، لتخلو المزارع من البشر؛ سيتحول المزارعون إلى تقنيين تقتصر أعمالهم على إدارة الروبوتات وبرمجتها.
حلول فعالة
رغم هذا التطور التقني الكبير الذي حققته البشرية، لا يزال مستقبل الأمن الغذائي في العالم يمثل مصدر قلق كبيرا، لاسيما في ضوء الزيادة الكبيرة في أعداد البشر وبالتزامن مع تناقص مساحة الرقعة الزراعية. وفي ظل هذه المشكلة الملحة، طورت شركات ناشئة تعمل في مجال التكنولوجيا تقنيات ربما تساعد في توفير الحل. لنتخيل منظومة تمكننا من تقليص المساحة التي نحتاجها بنسبة 99 في المئة مما نحتاج إليه في الزراعة التقليدية، وتقلص أيضا استهلاك المياه بنسبة 95 في المئة. لم يعد هذا الطموح مجرد خيال علمي، كما يؤكد نات ستوري، الذي ساهم في تأسيس شركة “بلينتي” ومقرها مدينة سان فرانسيسكو في الولايات المتحدة. وتدور الفكرة حول إقامة حقول رأسية في أجواء مناخية يتم التحكم فيها بشكل اصطناعي. ويوفر حقل رأسي مساحته لا تتجاوز 2 فدان، كمية من الخضراوات والفاكهة تعادل إنتاج حوالي 720 فدانا من الأرض الزراعية، ويتم التحكم في ظروف المناخ والإضاءة والري بواسطة روبوتات تعمل تحت منظومة للذكاء الاصطناعي. وتهدف التجربة إلى أن تتواصل الزراعة في ظروف مثالية على مدار العام، فضلا عن إعادة تدوير الماء الناتج عن عملية التبخر الزراعي واستخدامه في الري مرة أخرى.
وتقوم منظومة الذكاء الاصطناعي بمتابعة نمو المحاصيل وإدخال تعديلات بشكل مستمر على الظروف البيئية المحيطة مثل الحرارة وكمية المياه والضوء من أجل توفير أفضل ظروف لنمو المحصول. استخدام الروبوتات الصغيرة الذكية، التي تستطيع التمييز بين الأعشاب الضارة والمحاصيل الزراعية، سيكون حلا فعالا في تحسين الموارد والمحافظة على البيئة وصحة الإنسان وإنتاج محاصيل زراعية صحية وبجودة عالية. وذلك عن طريق إجراء استئصال ميكانيكي لها، أو التعامل معها بالكهرباء أو بأشعة الليزر، أو استخدام الرش الدقيق من المبيدات الكيميائية على الأعشاب الضارة فقط دون المحاصيل الزراعية. أي التقليل بشكل كبير جدا من المواد الكيميائية التي يرشها المزارعون في الحقل بكامله، بمقدار عشرين مرَّة مما يعني تأثيرا بيئيا سلبيا أقل وانخفاضا كبيرا في إنفاق المزارعين السنوي على مبيدات الأعشاب.
طريق مسدود
يقول باحثون إن استخدام روبوتات خفيفة الوزن ذاتية الحركة وطائرات مسيرة بدل الآلات الثقيلة يمكن أن يساعد في علاج مشكلة انضغاط التربة وجعل إنتاج الغذاء أكثر استدامة. هذا إضافة إلى أن الروبوتات والطائرات المسيرة يمكن أن تعمل على مدار الساعة وتجمع قدرا هائلا من البيانات، وتنفذ عددا كبيرا من المهام، الأمر الذي يفتح آفاق زيادة الإنتاج وتحسين نوعيته مع الحد في استخدام المبيدات والأسمدة. كل ذلك سيخدم المجتمع والبيئة، فضلا عن فتح الأبواب أمام نوعية جديدة من فرص العمل في مجال “تطوير وصيانة الروبوتات والطائرات المسيرة وابتكار البرمجيات المختلفة”. الممارسات الحالية التي لم تتغير كثيرا منذ ستينات القرن الماضي وصلت إلى طريق مسدود، وأصبحت صورتها قاتمة ولا تلائم أنماط الاستهلاك الحديثة التي تبحث عن صداقة البيئة.
في الحدث الافتتاحي لمعرض تكنولوجيا زراعة المستقبل، الذي يعقد في المركز الوطني البريطاني للمعارض في مدينة برمنغهام، كانت الرسالة الأساسية المعلنة هي أن الزراعة بشكلها الحالي غير قابلة للاستمرار. وتعمل شركة سمول روبوت (الروبوت الصغير) البريطانية على تطوير نظام متكامل للزراعة المؤتمتة يجمع الذكاء الاصطناعي والروبوتات من أجل زراعة أكثر دقة وإنتاجية وتقلل من التلوث والنفايات. وتعد الشركة بخفض المواد الكيميائية والانبعاثات بنسبة 95 في المئة وزيادة الإيرادات بنسبة 40 في المئة وخفض التكاليف بنسبة 60 في المئة.
ويرى سام واتسون جونز الشريك المؤسس لشركة سمول روبوت أن المشروع “سوف يغير بالكامل خارطة ما يمكن فعله في المزرعة وكيف نفكر في الزراعة حاليا”. ويضيف أن “نظام الزراعة سوف يصبح مختلفا تماما حين نتمكن ليس فقط من فهم كل تفاصيل الحقل وحالة كل نبتة على حدة، بل على مستوى اتخاذ إجراءات دقيقة للتعامل مع كل نبتة”. ويستشرف واتسون جونز المستقبل بالقول في النهاية، سوف نكون قادرين على استخدام تقنيات الزراعة الدائمة والمستدامة على نطاق واسع باستخدام تكتيكات البستنة مثل تكامل النباتات والمحاصيل مع بعضها لتحقيق أفضل استثمار للمياه والتربة وبقية الموارد الطبيعية.
ويضيف أن “الثورة الزراعية الثالثة، التي لا تزال مهيمنة اليوم، يمكن تعريفها بأنها الاستخدام الكثيف للمواد الكيميائية والأسمدة والجرارات الكبيرة الثقيلة، وهي لم تعد تجدي نفعا للمزارعين ونحن بحاجة إلى شيء جديد ينقلنا إلى المستقبل”. ويؤكد أن الثورة الزراعية الرابعة، على النقيض من ذلك، تتميز باستخدام أسراب من الآلات الصغيرة الذكية، ومستويات ضئيلة جدا من حرث التربة أو لا حرث على الإطلاق. هذا هو شكل الزراعة وآلية عملها المستقبلية، تكنولوجيا متطورة توفر الوقت والجهد، تساعد في زيادة حجم المحاصيل وتنوعها.
نظريا، الدول العربية يمكن أن تكون من أكبر المستفيدين من التكنولوجيا الحديثة، ولمعرفة السبب يجب أن نلقي نظرة على معوقات التنمية الزراعية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. هناك ثلاث معوقات رئيسة أدت إلى تراجع التنمية الزراعية في المنطقة، أولها نقص المياه. وثاني هذه العوامل تقلص الأراضي الصالحة للزراعة، لأسباب عديدة من بينها التصحر وارتفاع نسبة الملوحة والزحف العمراني. أما ثالث تلك العوامل فهو الهجرة من الريف نحو المدينة. وبالتالي نقص اليد العاملة. هذه العوامل يمكن التغلب عليها بتوظيف التكنولوجيا الحديثة، التي ستقلص مساحة الأرض بنسبة كبيرة. وتقلل كمية المياه المستعملة، وتسمح بإعادة تدويرها. وبالطبع ستقلص الروبوتات من الحاجة لليد العاملة.
ولكن، لماذا قلنا نظريا؟
تبني التكنولوجيا الحديثة يحتاج بالدرجة الأولى إلى خلق البيئة المناسبة لاستخدامها، وهذا لن يحدث إلا بدعم من الحكومات، وباستثمارات ضخمة. وبينما تنشغل الحكومات العربية بمشكلة البطالة والتشغيل، وتنظر إلى القطاع الفلاحي والزراعي بوصفه مصدرا لخلق فرص العمل وتشغيل الشباب العاطل عن العمل، يستعد العالم لعصر تدار فيه المزارع الكبرى من خلال تطبيقات الهاتف الذكي.
مستقبل الزراعة في الدول العربية على كف روبوت وقرار صحيح تتخذه حكوماتها.
علي قاسم-صحيفة العرب