لعل من المصطلحات التي كان لها بريق خاص في القاموس التداولي لأهل العلم هي الذاتية والموضوعية، فكان وصف جهد فكري أو ممارسة معينة بالذاتي أو الموضوعي كفيلا بجعل أحدهما يحيا ويجد مكانا له في حظيرة العلم، أو يحكم عليه بالإعدام أو النفي إلى رفوف الإهمال حيث تأكله أرضة النسيان وعدم الاعتراف بموضوعيته وعلميته، كان هذا في زمن تسيدت فيه النزعة “العلموية” التي أرادت أن ترد كل شيء إلى مركزها، وتجعل من التاريخ حركية خطية واحدة تسير في اتجاه واحد كل من حاد عنه يعتبر مارقا عن الصواب العلمي، ويبقى مجرد تمثلات ذاتية قريبة من الأوهام والخرافية.
ومن ثم صارت الموضوعية سيفا مسلطا على كل ذكاء مخالف مبدع يتخذ لنفسه منطلقات تختلف مع المعيار المعرفي الماثل الذي يرغم أنف جميع من يريد العبور إلى أرض المعارف العلمية الامتثال له، وأن يجعله نصب عينيه إذا ما أراد الحصول على صك الاعتراف به بين العلماء.
في حين نرى اليوم تراجعا ملحوظا لسطوة هذه الأحكام والمفاهيم المركزية مع تقدم الدراسات الإبستمولوجية نفسها وتقدم العلوم الإنسانية والحقة، والتي أدركت نسبية الحقائق ، وأن تقييد كل شيء بمعايير محددة ضرب من المحال حتى في المجالات الأكثر ارتباطا بالطبيعة والتي كان يعتقد أنها قابلة للقياس والبحث والتحليل والخروج بنتائج ثابتة لا تقبل تعديلا أو نسخا. فما بالنا بالإنسان وما أدراك ما الإنسان، بمقدرته على التطور والتكيف والتبدل وفق شرائط الزمان فلا يكاد الباحث يحدد له إطارا يدعي معه الإحاطة به حتى ينفلت له بقدرة قادر منه لتفتح من جديد التساؤلات وتتضارب الآراء التفسيرية والتحليلية وينبري كل أحد من موقعه العلمي و”الموضوعي” يقدم الجواب الكافي والشافي، وفي هذا سر التقدم الحضاري للإنسان الذي جبل فطرة على توجهه الدائم للبحث عن الجديد وغير المألوف يشبع في ذلك همته لطلب كمال لا تحده حدود ولا تنمطه نظرية أو منهج أو مفهوم اصطنعه أحد من بني جنسه، فلا تكاد تطمئن الأنفس لشيء حتى تتجه إلى طلب الأمثل والأكمل أو الأسفل والأنقص بحسب مراتب بني الإنسان ومداركه ورؤاه القيمية التي تؤطر وجوده ابتداء من نيته الثاوية وراء كل عمل ،ومقصده القريب والبعيد الذي يروم تحقيقه.
ومن ثم استطاعت أعمال أن تكون شرارة الرحلة الحضارية التي تعاقبت عليها أمم وشعوب من حملة نية نفع هذا الإنسان ،فأثمرت بناء فكريا وعلميا وعمليا وعمرانيا وعلائقيا يشكل اليوم مصدر إيحاء وإلهام في لحظة تيه الإنسان عن إنسانيته، وأضحى المعيار الذي به تتفاضل أنواع الكسب الإنساني هو مدى “توفرها ” على “موارد” قيمية تنفع الإنسان ولا تضره، إذ هي “المعادل الموضوعي” الذي يشكل ثابتا مادامت الإنسانية تطلب السعادة في مختلف وجوهها، ولذلك إذا ما أراد الإنسان أن يؤرخ للخطابات التي ادعت الوثوقية العلمية يجد أن بعضها ينسخ بعضا باسم الموضوعية، فتاريخ حضارتنا في هذا الكويكب هو تضافر جهود ذوات فردية وجماعية استطاعت أن تبلور منظوراتها القيمية في أشكال متنوعة من الإبداع المادي والمعنوي مازال في حركة تطور دائم لا يعرف الجمود والسكون، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.