الذاتية الحضارية ورهان التجديد

الرئيسية » الأعمدة » تأملات فكرية » الذاتية الحضارية ورهان التجديد

يحيل مصطلح الهوية أو الذاتية في الأدبيات المعاصرة إلى وجود حد من الاستقلالية الفكرية المادية التي تسمح للفرد بأن يكون صاحب إرادة حرة تسعى لتحقيق غايات خاصة مرتبطة بالشخصية الفاعلة ولا يكون في عمله وتفكيره مستلبا لقوة خارجية تستغل نشاطه لمصلحتها، بحيث يخضع لها ويصبح مدعنا لما تمليه عليه. وما ينطبق على الفرد ينطبق على الجماعة؛ فالجماعة التي تفقد ذاتيتها أي استقلالية تفكيرها وإرادتها الخاصة، تفقد بالضرورة حريتها، وتغدو خاضعة لإرادة وأهداف واستراتيجيات غيرها..

ولا يمكن فهم الذاتية إلا بفهم الذات التي لا تعد ماهية ثابتة وإنما علاقة وإرادة، وتوتر، وقوة. وبقدر ما تقبل هذه الذات تناقضاتها وتستوعبها وتتأمل قيمها، تستطيع أن تتجاوزها أي أن تصل إلى ربط التراث بالحداثة والماضي بالحاضر والأنا بالآخر وتحقق هذا الربط  في الواقع وفى الحياة.

غير أن هذا الربط ليس معطى نظريا ولا فكريا، وإنما هو هدف ومطلب لا يتحقق إلا بالمجاهدة والتدافع؛ مجاهدة للنفس حتى تتفجر إمكاناتها وقواها الإبداعية، وتدافع من أجل تأكيد الوجود أمام الآخر والسيطرة على الموضوع أي على الحضارة وتمثلها.

فإذا كانت الذات هي الوعي، فإن الثقافة هي وعي الجماعة لذاتها، وتبعاً لذلك “بقدر ما تكون الثقافة فاعلة وحية وواعية لوجود الجماعة ومشكلاتها تكون الذات الجماعية فاعلة وحية ومؤثرة في محيطها وبيئتها، ومن هنا فإن بناء الذات ليس شيئا آخر غير بناء الثقافة بما هي وعي وعقل..

وبناء عليه فمبدأ الذاتية ينبع من رفض الاندماج في الآخر ورفض التنكر للذات لما ينطوي عليه هذا التنكر من استلاب وغياب للوعي الذاتي..علما أن الذاتية لا تخلق دفعة واحدة، وإنما هي خلق مستمر. إنها حصيلة كفاح فكري وسياسي واقتصادي طويل من أجل تكسير أطر التبعية الروحية والفكرية والمادية، وحصيلة النجاح في إعادة بناء الشخصية التاريخية على أسس ومبادئ ومعطيات االمرحلة الحضارية التي تعيش فيها.

فالذاتية، انسجاما مع هذا التصور، تبنى عند الفرد كما عند الجماعة بقدر ما تنجح الشخصية في الربط بين التراث الذي يشكل رأسمالها التاريخي الخاص ومقر تراكماتها الروحية والمادية من جهة، والحضارة التي يشكل استيعاب معطياتها وتقنياتها مقصد كل جماعة حية منتجة وفاعلة في التاريخ.

ورغم الارتباط القوي بين الهوية والتراث إلا أنها لا تتحدد به بشكل حصري، فهي أوسع من ذلك؛ إنها إبداع المستقبل الروحي والفكري والأخلاقي.. وإعادة تنظيم الحياة الشعورية والعقلية والأخلاقية معا على ضوء معطيات العصر.. إنها تعبر عن نفسها من خلال تطوير التراث، لا في الانحباس فيه، فالتراث يجب أن يكون أداة لتحرر الذات وإطلاق إمكاناتها وهو رأسمال نستخدمه لتنمية الحاضر ولا قيمة له إلا بما هو تراثنا، أي رأسمالنا لمواجهة العصر..

إن الهوية، بهذا المعنى، ليست ماهية ثابتة وناجزة وإنما هي شعور ووعي بالذات والعالم، وبقدر ما تضعف قدرة المجتمعات على السيطرة على نفسها كمجتمعات وعلى الحضارة، تتفجر أزمة هويتها. وهو ما ينطبق على المجتمعات العربية الإسلامية التي تعيش أزمة هوية حقيقية وليست مفتعلة، فبقدر ما كانت هذه المجتمعات تصطدم بحقائق العالم الجديدة وتدخل في علاقات إجبارية وسلبية مع النظام العالمي الصاعد كان عليها أن تعيد النظر في وثوقياتها القديمة، وفي عقائدياتها التقليدية السابقة وفي توازناتها الاجتماعية والسياسية الداخلية الراكدة، وأن تولد من قلقها وخوفها إشكاليات وحلولا مستجدة تستجيب لنوعية التحديات الجديدة التي تتعرض لها، وبقدر ما تكون هذه التحديات مستحكمة تكون أزمة الهوية أكثر حدة..

لأن الوضع يقتضي مراجعة عميقة لمعظم ما كانت الجماعة قد تعارفت عليه ووثقت به من قيم وسلوكيات تشكل جوهر هويتها التاريخية، ولذلك فإن أزمة الهوية لا تتفجر إلا في المجتمعات التي تدخل في دينامية التحديث والحداثة وتفشل في ذلك. أي أن الأصل في أزمة الهوية هو إخفاق الحداثة في تحقيق النهضة وما تقتضيه من معاصرة و فاعلية من جراء تنكرها للذات.

ذلك أن التنكر المتعمد لهذه الذاتية، رغم دورها الجوهري في كل إحياء أو انبعاث أو تعبئة جماعية، ورغم كونها محور تبلور مفاهيم المواطن والمواطنية والوطنية، هو الذي أحال عملية التحديث إلى مجرد مراكمة للآلات والبضائع والأفكار والقيم المستوردة بدل أن تكون عملية بناء للإنسان، و تفهما للحياة الشعورية العميقة، وتأمينا على النفس والحياة، وتعليما وتربية وتثقيفا، وإقامة للتوازنات المادية والسياسة والاجتماعية والنفسية الكبرى، وخلق إمكانات جديدة للحرية والقانون والحق والخير والجمال..

ومن هنا يأتي الارتباط الوثيق بين النهضة والهوية على اعتبار أن النهضة ليست شيئا آخر غير التوظيف التاريخي للشعور بالذاتية ولعاطفة الهوية. كما أن “النهضة هي مشروع تحقق الذات العربية الإسلامية بما هي هوية حضارية وحضارة ذاتية..

غير أن هذا لا يعني أن الهوية قيمة في ذاتها أو فيما تبثه من شعور بالخصوصية وإنما تستمد قيمتها مما يتيحه الإطار الذي تخلقه من فرص حقيقية للتقدم وتوسيع هامش المبادرة التاريخية للشعوب والجماعات التي تنضوي تحت شعارها..

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *