الدين وتدبير الشأن العام للجماعة

الرئيسية » الأعمدة » تأملات فكرية » الدين وتدبير الشأن العام للجماعة

رغم أن  الأديان التوحيدية شكلت ثورة حقيقية في مسار التطور الإنساني، إلا أن ذلك لا ينبغي أن يحول دون إبراز التمايزات الموجودة بينها فيما يتصل بعلاقة الدولة بالدين، فبالنسبة لكل من اليهودية والمسيحية، فإن تاريخهما يؤكد التناقض العميق والدائم بين الدولة والدين، أو عدم تفاهمهما وتوافقهما..

 فهو يظهر في اليهودية ضياع الدين في الدولة، ويظهر في المسيحية ضياع الدولة في الدين. وكما أدى ضياع الدين في الدولة إلى تحويل اليهودية إلى طائفة بامتياز، وجعلها تتصرف كقبيلة دينية معزولة ومنعزلة في العالم بالرغم من عالمية رسالتها، فقد أدى ضياع الدولة في المسيحية إلى تفكك الاجتماع المدني، وسيادة التمييز والفوضى، وزوال القانون وارتداد الحقيقة الدينية إلى فكرة روحية صرفة.

أما الإسلام، فقد استطاع أن يتجاوز كلا من الديانتين السابقتين حين ركز، على النقيض من اليهودية، على الرسالة الإنسانية، والقيم الأخلاقية واللحمة الأخوية، وحينما ركز، خلافا  للمسيحية، على الجهاد العلمي والمادي لنشر الدعوة والهداية الروحية.

تستمد العلاقة بين الدين والسياسة، في المنظور التحليلي والتفسيري المعاصر مغزاها من التأكيد على ضرورة الدين للدولة من جهة الوجود القيمي، انطلاقا من كون الإسلام يمثل عنصراً جوهرياً من عناصر تكوين السلطة، بالنظر إلى ما يمثله من منظومة أخلاقية وروحية تركن إليها الدولة في بناء سلطتها وتدعيم مؤسساتها ومشروعيتها.

 فالدين بهذا المعنى، يمثل مصدر تربية ذاتية وجماعية لا غنى للنظام السياسي عنها. وتتجلى حيوية هذه العلاقة، أكثر ما تبرز، حينما يتم التأكيد على أن “الدولة هي الجسد، والدين روحها، والخطر أن ينفصل الجسد عن الروح، وفي هذه الحالة يزول العقد الجمعي، وينفرط الاجتماع السياسي؛ بما هو تكوين للحمة و اجتماع الأمة.”

بالإمكان أن نستخلص أن المحددات التي حكمت هذه العلاقة في المجتمعات الإسلامية الحديثة تكاد تمثل مسارا معكوسا لما شهدته المجتمعات الغربية المسيحية منذ القرن السادس عشر؛ وتفسير ذلك؛ أن مرحلة السيادة الدينية الإسلامية الوسيطة شكلت مرحلة بناء للإمبراطورية، وتأكيد استقلالية الدولة والسلطان، وتعزيز مدنية الإسلام وعالم الدين.. كما شكلت مرحلة مفاصلة وتمييز واضح بين صلاحيات مجال الدين ومجال السياسة، وذلك بموازاة تمايز العلوم العقلية عن العلوم الدينية واستقلالها عنها.

وهو المعطى التاريخي والحضاري الذي جعل العصر الإسلامي الوسيط ينعت بعصر الازدهار والتنوير على النقيض من العصور الوسطى الأوروبية التي عادة ما توسم بعصور الظلمات التي تضافر فيها الاستلاب الديني النابع من طغيان الكنيسة والفكر اللاهوتي، بالاستلاب السياسي المرتبط بضعف الدول، والاستلاب الاقتصادي والاجتماعي الناشئ عن غياب الإبداع والاكتشاف، وضمور المعارف، وسيطرة الجهل والأمية، ونقص التربية والتهذيب المدني والأخلاقي.

بالإمكان أن نفسر هذا الازدهار العلمي والسياسي والاقتصادي الذي طبع العصر الإسلامي الكلاسيكي بانتصار الدولة حتى في صيغتها السلطانية، على احتمال نشوء “كنيسة إسلامية” أو كهنوت إسلامي بما يحيل إليه من “سلطة دينية مركزية ومنظمة تحتكر الشرعية في القول والعمل في كافة مجالات الحياة”، وتفرض على أتباعها التقيد الحرفي بتعليماتها والركون إليها في كل ما يصدر عنهم من فعل أو قول. وإن كانت هذه السلطة ترمز إلى وحدة الأمة والجماعة وتضمنها، وتعمل على حماية الملة والدين.

وفي هذا الإطار فقد شهدت التجربة الحضارية الإسلامية تبلور تقاليد ثابتة في بناء حقل الفضاء العام، وتحديد الصلاحيات الخاصة بعلماء الدين ورجال الحكم، ومجال عمل كل منهم ونفوذه..

ويصل التمايز بين التجربتين الحضاريتين والتاريخيتين العربية الإسلامية من جهة، والغربية المسيحية من جهة أخرى إلى الحد الذي يجري فيه نعث المناخ الذي حكم العصر الإسلامي الكلاسيكي بـ”المناخ الليبرالي”؛ بدعوى إتاحته لتبلور “فسحات من الحرية والانعتاق لم تعرفها المجتمعات المسيحية في القرون الوسطى، عمقت عند المؤمن شعورا بالمقدرة على المبادرة والمغامرة دونما خوف”، وفي ظل هذا “المناخ الليبرالي” لم يعد الدين دافعا لليأس والشك والقلق وعدم اليقين، ولا باعثا على التزهد والانسحاب من الدنيا والانكفاء على المساجد والزوايا.. وإنما أصبح مناسبة لبعث الثقة في الذات..

وكان طبيعيا، أن يحرر هذا التأويل طاقات الأفراد، ويضفي على الوجود في هذه الحياة قيمة ومكانة أسمى، كما صار من مبادئ الإسلام رعاية شؤون الدنيا والآخرة، وتلبية حاجيات الجسد والعقل والروح معا، ليصبح البحث عن السعادة والطيبات قيمة أخلاقية، ومكونا أصيلا من مكونات المنظومة التربوية الإسلامية.. تغذي نـزوع الأفراد وطموحهم إلى العمل والإنتاج ومراكمة الثروات والاستمتاع بها..

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *