السيناريوهات والتوجهات
وعمومًا، فإن السيناريوهات تصف إمكانات بديلة للمستقبل، وتقدم عرضًا للاختيارات المتاحة أمام الفعل الإنساني، مع بيان نتائجها المتوقعة بحلوها ومرها. وقد ينطوي تحليل السيناريوهات على توصيات ضمنية أو صريحة حول ما ينبغي عمله، ولكن ذلك يتوقف – كما سبق بيانه – على التوجه الذي يأخذ به واضعو السيناريوهات، أي ما إذا كان توجهًا استطلاعيًا أم توجهًا استهدافيًا.
الكم أم الكيف؟
يمكن تقسيم أساليب هذه الدراسات المستقبلية وفق معايير متنوعة؛ ومن أشهر معايير التصنيف هذه هو تصنيفها حسب درجة اعتمادها على قياسات كمية صريحة إلى طرق كمية Quantitative وطرق كيفية Qualitative، ولكن يعيب هذا التقسيم أن التمايزات ليست قاطعة بين ما هو كمي وما هو كيفي من طرق البحث المستقبلي. وكثيرًا ما يكون الفرق بينهما فرقًا في الدرجة – لا في النوع. كما يندر أن تعتمد الدراسات المستقبلية الجيدة على القياسات الكمية وحدها دون اللجوء إلى الطرق الكيفية، على الأقل في مرحلة التحليل والتفسير والتوصل إلى استنتاجات(1).
استكشاف أم استهداف؟
من حيث نقطة البداية التي ينطلق منها التفكير المستقبلي، في إطار الدراسات المستقبلية، تتخذ دراسات المستقبل أحد سبيلين أو أسلوبين(2):
الأول: استكشافي/استقرائي؛ ينطلق من الموقف الراهن (الحاضر)، بتاريخه السابق، ليسقطه على المستقبل، فيسوق لنا مشاهد أو سيناريوهات اتجاهية هي امتداد للماضي والحاضر. والمقاربات الاستكشافية تكون دراستها على أساس المعرفة المتواترة لدينا عن الماضي والحاضر. وعمومًا فإن المقاربة الاستكشافية أو الاستطلاعية أو الوصفية تتسم بأنها امتدادية غير مبدعة، ولكنها أكثر دقة، فهي تعيد إنتاج الحاضر في تحليلها النهائي. فعلى سبيل المثال نحن نعرف أن إزالة الغابات تعمل على تآكل الأراضي المزروعة مع حدوث مضاعفات خطيرة للدورة البيولوجية المستقبلية كلها. وفي المناطق التي يتم فيها إزالة الغابات يمكننا التنبؤ بالمستقبلات الممكنة والمحتملة والمرغوبة في ضوء الأراضي المزروعة المفقودة. ونحن لا يمكن أن نقوم بنفس الشيء إذا خطّطنا لإيقاف إزالة الغابات ولبدء عملية لإعادة زرعها من جديد.
الثاني: استطلاعي/ استهدافي/ معياري؛ يبدأ ببعض المواقف والأهداف المستقبلية المرغوبة أو المسلم بها، ويرجع إلى الخلف ليحرك مسالك ملائمة للانتقال من الحاضر إلى المستقبل المأمول. والمقاربات المعيارية أو الاستهدافية مقاربات مبدعة، ولكنها تجنح إلى الخيال المفرط، وكلتا المقاربتين تشوّش صورة المستقبل. ونجد مثالاً لذلك في هدف مثل نشر التعليم الابتدائي بين جميع السكان العرب، وسوف يعمل عكسيا بدراسة الفعل الضروري لتحقيق هذه النتيجة خلال خمس إلى عشر سنوات أو أكثر، فهذه الدراسات هي اقتراحات للفعل وتقترب من التخطيط طويل المدى.
تجدر الإشارة إلى أن الطرق الاستكشافية والاستهدافية ليست ضد بعضها أو في مواجهة بعضها أو أن إحداها بديل للأخرى؛ فالمقاربة المعيارية لمستقبل معين مرغوب فيه، تُبنى عادة على مقاربة حدسية استكشافية تدّعي أن المستقبل المذكور يمكن تحقيقه. وبالمثل فإن مقاربة حدسية- معيارية تدعي أن الناتج سوف يكون مرغوبا فيه أو عنه إذا تم تحقيقه.
ولعل إشكالية التفضيل والاختيار ما بين المقاربات المستقبلية الاستكشافية والمعيارية قد دفعت إلى التماس مقاربة ثالثة، هي في الحقيقة مركب بين المقاربتين الاستكشافية (الأكثر دقة) والمعيارية (الأكثر خيالاً)، يعظم من مزايا كل منهما، ولعل مدخل الرؤية الاستراتيجية كان هو المجسد لهذه المقاربة المركبة (الطريقة التفاعلية).
بينية أم استقلال؟
يبدو أنه من غير الممكن أن تستقل الدراسات المستقبلية كتخصص منفرد، على الأقل في الوقت الراهن، ولعل مثل هذه القناعة هي قناعة مبكرة بدأت مع بداية الاتجاه العلمي المستقبلي.
ونظرًا لاهتمام العلماء والمفكرين بالتفكير في مستقبل مجتمعاتهم وحل مشكلاتها، فقد امتد استخدام الدراسات المستقبلية على مجالات متعددة، من أهمها المجالات التالية(3):
- أن التغيرات التي ستحصل في المستقبل مختلفة عن الماضي.
- أن التغيرات التي ستحصل في المستقبل سيكون من الصعب التنبؤ بها.
- أن التغيرات التي ستحصل في المستقبل ستكون أسرع من ذي قبل.
- أن التغيرات التي ستحصل في المستقبل يمكن معالجتها من خلال توفير المعلومات الدقيقة.
- أن التغيرات التي ستحصل في المستقبل يمكن معالجتها بأساليب موضوعية بعيدة عن التأثير الشخصي.
- النمو السكاني العالمي والغذاء والجوع العالمي ومصادر الطاقة، والتلوث البيئي.
- السلام والصراع العالمي والحروب.
- نظام الأمم المتحدة وتسييس العولمة.
- الفجوة والعلاقات بين الشمال الغني والجنوب الفقير.
- التكتلات الاقتصادية العالمية والإقليمية.
- اتجاهات العولمة الاقتصادية.
- اتجاهات العولمة السياسية.
- التفكك وتشرذم القوى المجتمعية.
- التكنولوجيا الجديدة والبناء المجتمعي.
- اتجاهات قوة العمل مثل أنماط الإدارة الحديثة، والتوظيف والبطالة.
- تغيير النماذج الثقافية.
- اتجاهات التعليم والتعلّم.
ومن المهم التأكيد على أنه «لم يعد ممكنًا تحليل المشكلات بواسطة تخصص واحد مع تعقدها وتعدد جوانب المشكلة الواحدة.. وهذا ما يحدث بالفعل في البحوث المستقبلية، على الأقل في المستوى المنهجي؛ ففي أسلوب دلفي يربط علم النفس القوى مع الرياضيات وعلم الاجتماع. وفي السيناريوهات يرتبط علم الاجتماع مع الرياضيات والعمل التاريخي معًا في مداخلهما وافتراضاتهما ووسائلهما. وفي النماذج العالمية يرتبط علم الاجتماع مع الرياضيات والإحصاء في جهد لفهم المشكلات المعقدة للمستقبل»(4).
إشكاليات وعقبات في الطريق
رغم مضي أكثر من خمسين عاما على نشأة البحوث والدراسات المستقبلية إلا أنه يمكن النظر إليها، كنشاط منظم، على أنها ما زالت في طور التكوين. ولعل أهم العوامل المسئولة عن هذا التباطؤ في ظهور علم دراسة المستقبل، مرده إلى وجود إشكاليات متنوعة، نظرية ومنهجية، منها ما يلي(5):
- المستقبل ليس له وجود كشيء مستقل؛ لذا لا يمكن دراسته، بل من الممكن دراسة أفكار عنه. وتقود هذه الإشكالية إلى نتيجتين مهمتين هما:
أ- تعقد موضوع البحث المستقبلي بين تعامله مع ظواهر اجتماعية بالغة التعقيد، والعوامل العديدة الكثيرة والمتشابكة التي تواجهه والتي يستحيل حصرها أو التحكم فيها في وقت واحد،كما أن التحقّق التجريبي لنتائجه متعذر تمامًا.
ب- موضوعية الباحث المستقبلي أو عدمها، حيث يتعذّر على الباحث المستقبلي تخليص نفسه من المعتقدات والآراء والتعصب أو التحامل المستحوذ عليه عن طريق تعليمه وبيئته أو وسطه الذي خرج منه أو قراءاته أو خبراته….
- ليس ثمة مستقبل واحد بل مستقبلات؛ وهذه المستقبلات،التي تراوح بين المحتمل والممكن والمرغوب، مشروطة بظروف وعوامل تاريخية مجتمعية وحضارية.
- التعقد والتشابك (البينية)؛ فدراسة المستقبل لا يتسنى لها أن تصبح متكاملة إلا إذا نظرنا إلى هذا المستقبل من خلال عدسات مختلفة التخصصات، وأن تكون معاينته في فترات مختلفة من الزمن.
- النظر إلى المستقبل يشوشه، تمامًا كما أن النظر إلى الذرة يغيرها، والنظر إلى الإنسان يحوّله، وهذه مشكلة العلوم الاجتماعية والإنسانية عمومًا.
الهوامش:
محمد فالح الجهني / مجلة المعرفة: العدد 175