الدراسات المستقبلية شغف العلم.. و .. إشكالات المنهج 1/4

الرئيسية » علم وحضارة » الدراسات المستقبلية شغف العلم.. و .. إشكالات المنهج 1/4

الدراسات المستقبلية شغف العلم.. و .. إشكالات المنهج

ثمة تساؤلات تُثار اليوم في الأوساط العلمية، حول ما عُرف مؤخرًا بالدراسات المستقبلية؛ فهل هي أساليب علمية أم أنها مجرد تخرّصات ورجم بالغيب دون سند علمي؟ هل نتائجها أقرب إلى الحتمية أم أنها مجرد احتمالات قد تقع أو لا تقع؟ هل هناك فرق بين الأساليب التقليدية للتنبؤ بالمستقبل وبين الأساليب المستحدثة لهذا الغرض، بحيث يمكننا الجزم بأنه قد تبلورت منهجيات علمية محددة للدراسات المستقبلية؟ هل هي دراسات كمية أم دراسات نوعية كيفية؟ وما هي هوية الدراسات المستقبلية بالتحديد؟ أهي دراسات استكشافية (تعرّفنا بصورة المستقبل) أم أنها دراسات استهدافية (تحاول أن تصل بنا إلى مستقبل معين)؟ وهل أصبحت دراسة المستقبل تخصصًا مستقلاً أم أنها تتقاطع مع العديد من التخصصات العلمية والإنسانية؟ والخلاصة أن ثمة إشكاليات ما زالت تعترض طريق الدراسات المستقبلية نحو تبلورها كعلم وكمنهجية علمية يمكن الاعتداد بها والوثوق بافتراضاتها وتقنياتها ونتائجها. 

الاهتمام بالمستقبل قديم جدًا قدم الحياة البشرية، ويمكن اعتبار الكهانة وربط أحداث المستقبل بوقائع أو مشاهدات عابرة، كالنجوم والطوالع، بداية غير موفقة لاهتمام الإنسان بالمستقبل. إلا أن العقلانية والمنطقية في التنبؤ بالمستقبل، قد بدأت منذ أن أدرك الإنسان علاقة الماضي بالحاضر وسير الأحداث وفق سنن ومشاهدات استقرت على وتيرة معينة في الماضي، وعليه فمن الممكن أن تستمر في المستقبل. عندها بدأ الإنسان في اتخاذ التدابير التي تكفل له التعرف على المستقبل بدرجة مقبولة من الوصف والتنبؤ فالتهيؤ والاستعداد وصولاً إلى الضبط والتحكّم.

وفي العقود الأخيرة تطورت محاولات السيطرة على المستقبل، من خلال التطويرات المتلاحقة في التخطيط ومنهجياته؛ من تخطيط تقليدي، قصير أو متوسط أو بعيد المدى،إلى تخطيط استراتيجي، حتى ظهرت مناهج أساليب جديدة تحاول وصف المستقبل البعيد نسبيًا، وهي التي عرفت بالدراسات المستقبلية. ويبدو أن الدراسات المستقبلية تهدف إلى مساعدة صانعي القرارات على اتخاذ قرارات رشيدة، وتبني سياسات حكيمة، وتحديد أهداف واضحة وقابلة للتحقيق، واستخدام وسائل فعالة وكفؤة لبلوغ تلك الأهداف وغيرها من الوسائل الكفيلة بالسيطرة على المستقبل وضبطه.

وكان أول من توصل إلى اصطلاح دراسة المستقبل هو المؤرخ الألماني «أوسيب فلنختاهيم» عام 1930م، تحت اسم Futurology وهو الاسم الشائع للدراسة المستقبلية في اللغة الإنجليزية، ويقابله المصطلح الفرنسي Prospertive للعالم «جاستون برجيه» ويطلق عليها أحيانًا اسم (1) (a Future Studies)
وقد أمكن تعريف الدراسات المستقبلية بأنها «مجموعة من البحوث والدراسات التي تهدف إلى الكشف عن المشكلات ذات الطبيعة المستقبلية، والعمل على إيجاد حلول عملية لها، كما تهدف إلى تحديد اتجاهات الأحداث وتحليل المتغيرات المتعددة للموقف المستقبلي، والتي يمكن أن يكون لها تأثير على مسار الأحداث في المستقبل (2). كما أمكن تعريف الدراسات المستقبلية بأنها « التنبؤ المشروط من منظور احتمالي وعلمي نسبي»(3). أو أنها «تخصص علمي يهتم بصقل البيانات وتحسين العمليات التي على أساسها تتخذ القرارات والسياسات في مختلف مجالات السلوك الإنساني، مثل الأعمال التجارية والحكومية والتعليمية، والغرض من هذا التخصص مساعدة متخذي القرارات أن يختاروا بحكمة من بين المناهج البديلة المتاحة للفعل في زمن معين» (4) وتوسِّع الجمعية الدولية للمستقبلات من مفهوم الدراسات المستقبلية على أساس طبيعتها من خلال أربعة عناصر رئيسية هي العناصر التالية(5):

  1. أنها الدراسات التي تركز على استخدام الطرق العلمية في دراسة الظواهر الخفية. 
  2. أنها أوسع من حدود العلم؛ فهي تتضمن الجهود الفلسفية والفنية جنبًا إلى جنب مع الجهود العلمية. 
  3. أنها تتعامل مع نطاق لبدائل النمو الممكنة، وليس مع إسقاط مفردة محدّدة للمستقبل. 
  4. أنها تلك الدراسات التي تتناول المستقبل في آماد زمنية تتراوح بين 5 سنوات و50 سنة. 

وتستند الدراسات المستقبلية إلى عدة مبادئ، يمكن استخدامها بصورة مطورة، بالتركيز على المستقبلات المرغوبة التي نحب أن توجد، وذلك بالإصرار في الحاضر على أن نغير ما نفعله الآن، ومن أهم مبادئ الدراسات المستقبلية المبادئ التالية(6):

  • مبدأ الاستمرارية Continuity: وهو توقع المستقبل امتدادًا للحاضر وخاصة الحقائق العلمية مثل توقع أن تكون الأنهار أو المحيطات في نفس مكانها المعتاد للأعوام القادمة، أي استمرارية الحوادث من الماضي للحاضر للمستقبل. 
  • مبدأ التماثل Analogy: وهو توقع أن تتكرر بعض أنماط الحوادث كما هي من وقت لآخر. 
  • مبدأ التراكم Accumulation: وهو تراكم نفس الأحكام على نفس الوقائع، مع اختلاف الأشخاص لمدد تتفاوت تاريخيًا. 

ويمكن القول إن الدراسات المستقبلية تساعدنا على صنع مستقبل أفضل، وذلك بفضل ما تؤمنه من منافع متعددة، من أهمها ما يلي(7):

  • اكتشاف المشكلات قبل وقوعها، ومن ثم التهيؤ لمواجهتها أو حتى لقطع الطريق عليها والحيلولة دون وقوعها.وبذلك تؤدي الدراسات المستقبلية وظائف الإنذار المبكر، والاستعداد المبكر للمستقبل، والتأهل للتحكم فيه، أو على الأقل للمشاركة في صنعه. 
  • إعادة اكتشاف أنفسنا ومواردنا وطاقاتنا، وبخاصة ما هو كامن منها، والذي يمكن أن يتحول بفضل العلم إلى موارد وطاقات فعلية. وهذا بدوره يساعد على اكتشاف مسارات جديدة يمكن أن تحقق لنا ما نصبو إليه من تنمية شاملة سريعة ومتواصلة. ومن خلال عمليات الاكتشافات وإعادة الاكتشاف هذه تسترد الأمة الساعية للتنمية الثقة بنفسها، وتستجمع قواها وتعبئ طاقاتها لمواجهة تحديات المستقبل.
  • بلورة الاختيارات الممكنة والمتاحة وترشيد عملية المفاضلة بينها. وذلك بإخضاع كل اختيار منها للدرس والفحص، بقصد استطلاع ما يمكن أن يؤدي إليه من تداعيات، وما يمكن أن يسفر عنه من نتائج. ويترتب على ذلك المساعدة في توفير قاعدة معرفية يمكن للناس أن يحددوا اختياراتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية في ضوئها، وذلك بدلًا من الاكتفاء بالمجادلات الأيديولوجية والمنازعات السياسية التي تختلط فيها الأسباب بالنتائج، ويصعب فيها تمييز ما هو موضوعي مما هو ذاتي.

الهوامش:

  • نبيه، محمد صالح أحمد. المستقبليات والتعليم. بيروت:دار الكتاب اللبناني، 1423هـ/2002م، ص 9.
  • فلية، فاروق عبده والزكي، أحمد عبد الفتاح. الدراسات المستقبلية: منظور تربوي. عمان دار المسيرة، 1424هـ/2003م، ص 67
  • زاهر، ضياء الدين. مقدمة في الدراسات المستقبلية: مفاهيم- أساليب- تطبيقات. القاهرة: مركز الكتاب للنشر، 2004م، ص 51
  • زاهر، نفسه، ص 51
  • زاهر، نفسه، ص 52
  • نبيه، سابق، ص10.
  • العيسوي، إبراهيم. الدراسات المستقبلية ومشروع مصر 2020م. القاهرة: معهد التخطيط القومي، 2000م، ص

محمد فالح الجهني / مجلة المعرفة: العدد 175

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *