بمجرد ما تنتهي العطلة الصيفية، تلوح بشائر/تباشير الدخول المدرسي وتتهلل وجوه الصغار فرحا بما تحمله المناسبة من جديد اللباس والمستلزمات المدرسية، في حين تعتلي وجوه الآباء الحيرة والقلق من مصاريف هم ملزمين بدفعها من مدخراتهم أو اللجوء إلى الاقتراض، شأنها شأن المناسبات التي تخلف السخط والتذمر لدى الأسر مثل رمضان والعطلة الصيفية والعيد.. وهلمَّ جرَّ.
بالنبش في الذاكرة ، يستطيع كل منا استرجاع تلك اللحظات التي كنا نعيشها أو يعيشها آباؤنا صحبتنا، لدى كل دخول مدرسي وما قد كبدناهم من مصاريف وجهد، في سبيل تعليمنا والدفع بنا إلى الأمام. وبالرجوع بذاكرتنا إلى الوراء ، سنجد أنفسنا أمام مجموعة من التغيرات التي شابت هذا الدخول، والتي اختلفت حتما من جيل إلى جيل.
فعندما يطلع الآباء على لائحة الأدوات المدرسية وما تحمله من أسماء ومستلزمات، يصعب على الطفل، في غالب الأحيان، استيعاب مضامينها إذ يجد نفسه موزعا بين عدة معلمين وكم هائل من الكتب والمقررات المدرسية، وهو لم يتجاوز بعد مرحلة الطفولة، سيحنون إلى ذلك الزمن الجميل، ويشفقون من حال تلك الأجساد الغضة التي تنوء بما تحمله على أكتافها من أوزار، ويتساءلون هل من فائدة ترجى من هؤلاء التلاميذ بعد نهاية المشوار الدراسي؟
ويبقى جيل سيتينيات وسبعينيات القرن الماضي، جيل مدين لسلسلة “اقرأ” لأحمد بوكماخ، بالعديد من القراءات الممتعة التي ما زالت صورها راسخة في الذهن بحكاياتها البسيطة وصورها الممتعة، ومشتاق إلى إعادة قراءة “أكلة البطاطس” و”سروال علي” و”أحمد والعفريت” إلى جانب المقررين الفرنسيين”عنزة السيد سوكان” والطفل الإفريقي” باليماكو”.. وقد يحن لرؤية تلك الدفاتر ذات الخمسون ورقة بجداول الضرب المطبوعة على ظهر غلافها، والمناشف الملونة المخصصة لحفظ الصفحات من بقع المداد أثناء غطس الريشة في تلك المحبرة الموجودة وسط الطاولة والتي كان يتكفل بملئها حارس المدرسة خلال جولاته الصباحية بين الأقسام.
ولعل ما يجعل الدخول المدرسي هذه الأيام يختلف عن السابق، العديد من المظاهر والإشكاليات التي جعلت الكثير منا يحن إلى الزمن الجميل. فبالنظر إلى موضوع نفقات اللباس وشراء الكتب، فإن هذه الإشكالية لم تكن مطروحة بحدة كما هو الحال اليوم، لأن اللباس حينها كان لا يشترى إلا مرة أو مرتين في العام داخل الأوساط ذات الدخل المتوسط، أما الكتب فكان يتم تناقلها من الأكبر إلى الأصغر، لدرجة أن الرابع أو الخامس في الترتيب، خاصة داخل الوسط العائلي الكثير العدد، يصله الكتاب ممزقا، كون أن المرحلة لم تكن تفرض كتابا/مطبوعا جديدا لكل فصل دراسي، سواء من حيث الشكل أو المضمون. والدفتر هو الآخر لم يكن غالي الثمن ومزخرفا كما النوعية الموجودة اليوم من تلك المنمقة وذات الأشكال والألوان الجميلة.
والمثير للملاحظة والانتباه أيضا، تلك الحمى التي تصيب العائلة وتلهب جيوبها بشكل يدفع الأسر للتسابق على المكتبات والاصطفاف أمامها وصرف مبالغ مالية هامة، في حربها الاستباقية خلال شهر يونيو، بحثا عن المنمق والنادر والغالي من الكتب التي تتقل كتفي الطفل بحمولة محفظة تفوق وزنه في الغالب من الأحيان، والتي تدفع الآباء وأولياء الأمور إلى التساؤل عن مدى جدواها وانتفاع التلميذ بمضامينها مستقبليا.
وإضافة لما سبق، تتذمر غالبية الأسر من كثرة المقررات التي تتسبب في تشتيت ذهن التلميذ وضياع تركيزه بين العديد من الكتب والمواد، عكس ما كانت عليه المقررات المدرسية خلال ما يعرف بالزمن الجميل، حيث لم يكن بالمحفظة سوى دفتر، كرز، قرآن، قراءة “بوكماخ”، ولوحة..
أما فيما يخص الأجواء التي كانت تجري فيها الدراسة آنذاك، فالعربية هي المادة الوحيدة التي كانت تدرس في الأقسام الابتدائية الأولى، في حين أن التوقيت كان عبارة عن فترة صباحية وأخرى مسائية ليس فيهما ضغط زمني، بل بينهما فترات متباعدة يستغلها التلاميذ في اللعب أو إنجاز التمارين.
وهكذا يلاحظ إجمالا أن الدخول المدرسي في الماضي لم يكن يتسبب للأسرة بمشاكل مادية، كون أن الكتب المدرسية كانت محسوبة على رؤوس الأصابع وجامعة للعديد من المواد التي أصبحت اليوم في كتب متفرقة وعبارة عن مواد مستقلة، عكس ما هو عليه طفل اليوم، الحائر بين هذا الكم الهائل من الكتب لدرجة أنها قد تختلط عليه المقررات، إضافة إلى استنزاف مدخرات عائلته المادية وإثقال كاهلها بالقروض، بهدف الخروج من هذه الزاوية الضيقة في سبيل مستقبل ومصلحة الأبناء.
فاطمة الزهراء الحاتمي