الخبير اللغوي الحنّاش: العربية هي الأكثر استجابة للعصر لكن يجب دعمها بالبحث العلمي

الرئيسية » علم وحضارة » الخبير اللغوي الحنّاش: العربية هي الأكثر استجابة للعصر لكن يجب دعمها بالبحث العلمي

الخبير اللغوي الحنّاشفي الحوار التالي الذي خصّ به موقع “مسارات” الباحث المغربي في مجال هندسة اللغة العربية بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس”، محمد الحنّاش، نقف عند تحذيرات العالِم والخبير في مجال تخصصه من كون لغة الضاد باتت في وضع لا تُحسد عليه، بالنظر إلى عجزها على مجاراة واقعنا الحالي الذي تسيطر عليه التكنولوجيا الحديثة، والتي تفرض ضرورة قابلية لغات العالم لأن تحول إلى أرقام حتى يمكن للآلة قراءتها بشكل سليم، فهل لغتنا العربية قادرة على رفع هذا التحدي؟

أولا لنبدأ بتعريف مختصر لهذا التخصص في مجال اللغة العربية؛ ماذا تعني هندسة اللغة العربية؟

بالفعل هذا التخصص هو من التخصصات الحديثة، والذي يبحث في الإمكانيات والوسائل التي من شأنها أن تجعل اللغة العربية تتجاوب مع مستجدات التكنولوجيا والتقنية الجديدة، وبالتالي نقل المجتمع العربي إلى ما يسمى اقتصاد المعرفة، وأن لا يبقى المجتمع العربي مجرد مستهلك لما تقدمه لنا اللغات الأخرى الأجنبية. وفي هذا الإطار من المفروض علينا كعرب أن نكون منتجين للمعرفة بلغتنا الأم لغة حرف الضاد، مع المحافظة بطبيعة الحال على مقومات هويتنا التي تقوم على هذه اللغة والتي هي لغة القرآن، وكذلك مع المحافظة على ثقافة المجتمعين العربي والإسلامي، لكن دون إغفال التعاطي الإيجابي مع التقنية والتكنولوجيا الحديثة. وإذا أردنا أن نحمي لغتنا العربية، فلن يتم ذلك برفع الشعارات والارتكان إلى العاطفة، بل إننا نحتاج في هذا الشأن إلى مجهودات علمية ملموسة، ومن ذلك استعمال الأدوات الحديثة التي توفرها لنا التكنولوجيا حتى نُعرّف العالم كله بهذه اللغة، وحتى يَعرف العالم أيضا أن لغتنا هي بحق الأكثر استجابة لمتطلبات العصر والتقنيات الجديدة من نظيراتها من اللغات الأخرى، وهذه ليست مزايدة أو مجاملة لفائدة هذه اللغة الطبيعية طبعا، وإنما هي حقيقة تبثت علميا.

في هذا الإطار تم طرح العديد من الأفكار التي تروم ضرورة تطوير إمكانات لغتنا العربية حتى يمكنها مجاراة باقي اللغات الأخرى ورفع التحدي أمام التكنولوجيا الحديثة. هل ترون أن مثل هذه الندوات العلمية كفيلة بجعل اللغة العربية قادرة على رفع هذا التحدي؟

بطبيعة الحال من خلال مثل هذه الندوات واللقاءات التي يشارك فيها علماء وخبراء عرب بالإضافة إلى نظراء لهم من دول أجنبية أخرى، يمكن تبادل الأفكار والإطلاع على ما استجد في مجال البحث اللغوي. ولا يمكننا الاكتفاء مثلا بما يقدمه لنا علماء وخبراء أجانب بشأن لغتنا، والذي يكون أحيانا عبارة عن أفكار متداولة لدينا ولا تحمل أي جديد يذكر. لأن دعم لغتنا العربية هو من صميم وواجب أهلها الذين عليهم الاهتمام أكثر بمجال البحث فيها، وعليهم أيضا بضرورة إعادة توصيف هذه اللغة؛ لأن طريقة التوصيف المعمول بها حاليا، وخاصة فيما يتعلق بالنحو والصرف والعروض وما إلى ذلك، وإن كان كل ذلك يعتبر مهما جدا فإن علينا إعادة توصيف هذه الأدوات حتى نستطيع إدخال لغتنا إلى الآلة التي لا تفهم الطريقة الكلاسيكية لتوصيف اللغة، وإنما تفهم فقط اللغة الرياضية التي يمكن لأي لغة أن تُبرمج في إطارها، وبالتالي قراءتها بدون لبس أو عُسر. وهناك نماذج كثيرة عن مثل هكذا استعمالات، تماما كما هو الشأن بالنسبة للترجمة والبحث مثلا عبر الموقع العملاق غوغل، وهو ما يعني أن لغتنا لها مقومات من أجل رفع هذا التحدي، وما ينقص هو فقط القدرة على تفعيل ذلك والاستثمار في مجالات البحث، مما يتطلب بالضرورة رصد إمكانات مادية لهذا الغرض من أجل مزيد من البحث.

جاء في حديثكم توصيف “الأدوات الكلاسيكية” وتقصدون بذلك بالأساس مسألة النحو والصرف باللغة العربية؛ هل يعني ذلك أن هذه الوسائل أو الأدوات لم تعد كافية أو متجاوزة، وبالتالي ضرورة البحث عن أدوات جديدة أو بديلة؟

نعم بكل تأكيد فإن مسألة النحو والصرف والبلاغة والعروض لا يمكن للحاسوب استعمالها بالطريقة السابقة الكلاسيكية أو التقليدية، بل إننا نحتاج إلى إعادة توصيف نظام اللغة العربية بطريقة رياضية دون أن نفرط بطبيعة الحال في مقومات لغتنا الأم؛ فالمسألة هنا لا تتعلق باللغة في حد ذاتها بل إننا نتحدث عن أدوات النحو والصرف، لأن هناك أدوات نحوية وصرفية قطعت مع النظم القديمة والتقليدية، وذلك عبر التغيير في المقاربة أو التوصيف أو المرادف، وهذا ما يحتاج إلى عمل جديد. وكما جاء في إحدى المداخلات بالندوة الحالية (الندوة الرابعة للمعالجة الآلية للغة العربية) فإن التدوين يحتاج إلى تشفير وهو ما يعتبر عملا مهما وليس بالأمر الهين. وفي هذا السياق فإننا نشتغل على برنامج جد ضخم بشراكة مع منظمة “أليسكو” (المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم)، ويتعلق الأمر بتشفير البيانات من أجل بناء محللات نحوية ومحللات دلالية وأخرى تتعلق بالإملاء. كل ذلك ليس ممكنا بالطرق التقليدية بل يتطلب أدوات جديدة قادرة على مواكبة هذه المستجدات فيما يتعلق بالتقنية والتكنولوجيا الحديثة.

أكيد أستاذ مثل هذه المشاريع تتطلب إمكانيات ضخمة. برأيكم هل تقوم الجهات الرسمية العربية بما يلزم من أجل دعم اللغة العربية وجعلها أكثر قابلية لمجاراة التقدم الآلي والتقني؟

للأسف ليست هناك إمكانيات مخصصة لهذا الإطار البحثي والعلمي، وأكاد أقول أن مستوى الدعم الرسمي العربي لهذه البحوث التي تُعنى باللغة لا تتجاوز رقم الصفر، والذين يقومون بمجهودات في هذا الإطار هم أفراد خبراء وعلماء ومهتمون، وبإمكانيات هي في الغالب إمكانيات شخصية، وأحيانا أخرى اعتمادا على تمويلات خارجية من منظمات ومؤسسات مهتمة بهذا المجال. وهناك من ينفق الملايين من الدولارات من أجل أن تكون لغته قادرة على مجاراة التطور التكنولوجي وخاصة من أجل القدرة على التعامل مع محرك البحث الشهير غوغل، لكن عندنا نحن العرب ليس هناك اهتمام يذكر. وإذا لم يتم تدارك الأمر وتقديم الدعم اللازم للغتنا العربية فإن هذه الأخيرة ستبقى حلقة مفقودة. وللمفارقة الغريبة فإن الظرفية الحالية تعرف إقبالا متزايدا على تعلم اللغة العربية، ويمكننا القول أنها في لحظة ازدهار، وفي الوقت الذي على المسؤولين استغلال هذا المعطى، فإن ما يحصل هو العكس، بحيث إن الجهات المعنية بدعم هذه اللغة لا تنفق عليها ما يلزم من تمويل ولا تقوم بواجبها إزاءها، وكل ما هنالك هو مجهودات فردية ودعم من منظمات من هنا وهناك. وفي هذا السياق يبرز دور منظمة “أليسكو” التي رغم أن لها أفكارا من أجل تطوير اللغة فإنها في حاجة هي الأخرى إلى دعم حقيقي من الجهات الرسمية العربية، بحيث تصبح عاجزة عن مواصلة السير في غياب هذا الدعم العربي المنشود، ليبقى الحل الوحيد والأساسي هو الاعتماد على التطوع كما هو الشأن حاليا حيث نتطوع إلى جانب زملائنا لتقديم أفكار تصب في خدمة اللغة العربية.

إن مشاريع مهمة تبحث في اللغة العربية تحتاج إلى إمكانات مادية محترمة تقدر بملايين الدولارات، بينما نرى أنها لا تخصص لها غير بضعة آلاف من الدولارات، وهذا شيء غير كاف من أجل التوصل إلى نتائج علمية قادرة على خدمة اللغة، بل إنها ربما أموال تكفي فقط وبالكاد لاستضافة الباحثين وإقامتهم خلال ندوة من الندوات. وأما تمويل مشروع علمي بمعنى الكلمة فإنه يتطلب إيواء فريق خبراء بدولة من الدول بشكل دائم على شكل إقامة معاهد مثلا ثم الإنفاق على أبحاثه وباحثيه. وفي هذا الصدد فإن للمغرب إمكانات مهمة جدا وبنيات تحتية قادرة على لعب مثل هذا الدور، بحيث يوجد ببلادنا معهد التعريب التابع لمنظمة الجامعة العربية، كما لدينا معاهد وكليات ومراكز في المستوى، وهو ما ينبغي أن يتم استغلال ذلك بشكل جيد، لكن للأسف فإن الأمور لا تتخذ هذا المسار. وعموما يمكننا القول أننا نحن العرب على مستوى البنيات اللوجيستيكية ضعاف ولا نرقى إلى مصاف الدول المتقدمة التي ترعى لغاتها بشكل جيد، وبالنتيجة فإننا لا نستطيع استغلال إمكانات لغتنا، رغم أن القاعدة هي أنه بدون لغتنا الأم الطبيعية فإننا لن نتمكن من التقدم، على اعتبار أنه لا اللغة الفرنسية التي تعرف تراجعا في السنوات الأخيرة ولا اللغة الإنجليزية يمكنهما أن يساهما في تقدّمنا؛ صحيح لا يجب علينا أن نغفل هاتين اللغتين والاستفادة منهما، لكن وحده الاهتمام بلغتنا هو الكفيل بجعلنا نتبوأ مصاف البلدان المتطورة، وهذا لن يتأتى إلا ببناء نموذج حاسوبي ومعولم استنادا إلى لغتنا الأم، حتى نجاري ونضاهي لغات العالم التي تستطيع التكيف مع الآلة.

حتى لا نكون سوداويين، أستاذ، في ظل هذا الوضع الضبابي، كيف تستشرفون مستقبل اللغة العربية؟

نعم إنه مستقبل مرهون بنوايا أهل هذه اللغة وبمدى استعدادهم لتقديم الدعم اللازم لها، لأن لغتنا للأسف في وضع خطر بل لا نبالغ إذا قلنا أنها تنتحر، وللأسف فإن الناس لا يعرفون مدى جسامة هذه الوضعية وخطورتها، وكل ما يتم الحديث عنه هو وجود لوبي فرنكفوني أو أنغلوساكسوني أو غير ذلك؛ أما ماذا فعلنا من أجل إنقاذ اللغة فلا شيء حصل، وكل ما هناك هو مجرد كلام في كلام وشعارات ترفع في مناسبات مختلفة. وبالمناسبة وفيما يتعلق بالمغرب هناك مشروع أكاديمية اللغة العربية الذي نخشى أن تسيطر عليه عقليات قديمة وتقليدية، أو ذات مآرب خاصة بدل عقليات تستطيع تحقيق الأهداف النبيلة للبحث، والتي وحدها يمكن أن تخدم الأمة وثقافتها وحضارتها، وهذا لن يتأتى إلى بضرورة بناء نسق هندسي للغة يمَكنها من الوقوف جنبا إلى جنب مع نظيراتها من اللغات الأجنبية الأخرى.

حاوره: نورالدين اليزيد
شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *