التملك

تدارس الكثيرون موضوع التملك لدى الإنسان، وكيف أنه غريزة وجبلة منطوية في  أعماقه حتى صارت وصفا قائما به لا يفارقه، بل خصيصة من خصائصه تشكل طبيعته وطبعه، مما جعل العديد ممن أولعوا بسبر أغوار النفس البشرية ومحاولات ضبط إيقاعها في الحياة الخاصة والعامة، يفسرون بهذه الغريزة التملكية العديد من مشاكل الإنسان النفسية وقضاياه الاجتماعية ووقائعه السياسية والاقتصادية وغيرها، فلم تزدد مع الزمان وتطور المناهج والعلوم إلا تفريعا معقدا يشخص حالة التركيب المتفرد للإنسان، بحيث كلما زاد الاقتراب منه باعتباره موضوع الدرس إلا وزاد بعدا وتمنعا واستعصاء عن الضبط والتحكم، وليس هذا غريبا مادام الأمر متعلقا بالإنسان، ذلك المخلوق الذي اقتدر بذكائه على أن يروض مفردات الكون، بقراءته الاستكشافية للغات الكون المتنوعة، والتي بها اقتدر على بلوغ ما بلغه اليوم من الإنجازات حلوها ومرها، وتلك ضريبة السعي في الحياة باكتشاف الجديد والكشف عن المخبوء وعدم الركون إلى الجمود والتقليد، فلا جديد بدون مخاطرة ومغامرة وصبر ومصابرة على أذى المقلدة الجامدين والعاكفين على أصنام ألفوها لا يحيدون عنها قيد أنملة.

استطاع الإنسان بهذا التملك أن يعمر الأرض وأن يستقر فيها، بل لم تكن هذه التملكية دوما إيجابية في التعاطي مع الحياة ، حيث كانت سلبية أدت إلى دمار وحروب واقتتال، ولذلك فهي وصف إذا ماتهذب وكان إلى انسانيته الأصلية أقرب كلما كان للفرد والمجتمع أنفع، والعكس بالعكس، كلما كانت إلى الحيوانية أقرب كلما كانت بالفرد والمجتمع أضر، فطبائع الإنسان مصدر لقوته أوضعفه في الآن نفسه بحسب التعامل معها بضبط إيقاعها والتحكم في دبدباتها، والإحساس المرهف الدقيق بدرجات ميلها وانحرافها أو استمرارها في نفس سبيله الفطري الصائب والقائم على الاستخلاف والإعمار.

فالكسب الحضاري الإنساني لم يكن بالأمر السهل أو الهين، فهو مسلسل ممتد الحلقات يشخص صراع الإنسان مع نفسه بين أن يختار سبيل الإنسانية والفطرية الإعمارية، والتي مازلنا نشهد عبقريتها وإنجازها من الناحية الآثارية أو التاريخية، أو باعتبار ماهو قائم في العصر الحاضر الذي ما كان ليتولد لولا جهود سابقة كانت بمثابة الأس للبناء، واللبنات التي تلتها أخريات يعبر عنها دائما بالتراكم المادي والمعنوي للحضارة.

فالتملك وصف استطاع به الإنسان أن يتطور أو يتقهقر، إذ رواد الرؤى والمشاريع المجتمعية لم يتأت لهم النجاح إلا بجعل “الفكرة” أو ” الحلم” الفردي مجالا لتداول الأفراد واختبارهم وترجيحات اختيارهم، لتصير تملكا جماعيا تتظافر جهودهم كلها في إنجاحه، أو تحمل المسؤولية في فشله، مما يستوجب المراجعة والنقد، ومن ثم تملكا جماعيا جديدا يفتح الآفاق، ويتغلب على الأزمات بوعي ومسؤولية تترفع عن إلقاء اللوم وتبادل الاتهام وتصيد العثرات، وتتجانف عن التملك الأناني الفردي المتسلط الذي لا يقيم وزنا للمجتمع، معتقدا أنه منبع الحق والحقيقة التي لا يعلى عليها وأنه فوق كل تقويم وتقييم.

إن الاجتهاد البشري معرض للنقصان، ويكفيه أجر الاجتهاد، بل كلما كان إلى التملك الجماعي أقرب كان للنجاعة أضمن، ولذلك فالمؤمنون بنجاعة العمل الجماعي، والمختبرون لنتائجه الباهرة جعلوا من جبلة أو غريزة التملك دعامة البناء المجتمعي.

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *