كشفت مجموعة من البحوث الحديثة أن العيش داخل المدن الكبيرة ذات نسب التلوث العالية يرتبط إلى حد كبير بالإصابة بالقلق والاكتئاب. تقول سابين هوست، باحثة في المرصد الإقليمي للصحة في إيل دو فرانس “إن تأثير التلوث وتسببه في الاضطرابات النفسية جزء من مجموعة من التأثيرات الصحية التي ظهرت مؤخراً في الأبحاث”.
وعرضت صحيفة لوفيغارو الفرنسية تقريرا يتناول علاقة التلوث بالأمراض النفسية وعلى رأسها الاكتئاب. وأفاد التقرير أن عددا من الباحثين في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا والأكاديمية الصينية للعلوم والجامعات في بكين وشنغهاي قد لاحظوا أن المزاج يتدهور خلال الأيام التي تكون فيها معدلات التلوث مرتفعة.
واكتشف الباحثون أن مزاج السكان الذين يعيشون، مثلا، في المدن الصينية الكبرى، يتفاوت بقدر تعرضهم للجسيمات الملوثة.
ويقول مؤلفو الدراسة التي نشرت في دورية “طبيعة السلوك البشري”، “الاختلافات واضحة بشكل خاص بين النساء والأشخاص ذوي الدخل المرتفع وكذلك خلال عطلات نهاية الأسبوع والعطلات المطولة”.
وخلال البحث، استخدم العلماء طريقة أدق من استطلاعات الرأي التقليدية وذلك عبر تحليل 210 مليون رسالة نشرت عام 2014 من قبل سكان 144 مدينة صينية على منصة للمدونات على شبكة الإنترنت.
يقول سيكي تشنغ، الباحث في الاقتصاد الحضري والبيئي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، “تألّف عملنا من رصد هذه البيانات ومقارنتها مع تطور مؤشرات التلوث في محاولة لدراسة تأثيرها على مزاج السكان” واكتشفوا في النهاية ارتباط كل ارتفاع في معدل الجسيمات الدقيقة في الهواء بانخفاض في المعنويات التي عبر عنها أصحابها على الشبكة الاجتماعية.
كما أثبتت دراسة طبية ميدانية أجريت في الصين أن استنشاق الهواء الملوث يرفع هرمونات التوتر ما يساعد في تفسير سبب ارتباط التعرض للتلوث لفترات طويلة بالإصابة بأمراض القلب والجلطات والسكري وربما قصر العمر.
وشملت الدراسة 55 طالبا جامعيا يتمتعون بالصحة في مدينة شنغهاي التي تعتبر مستويات التلوث بها متوسطة بالمقارنة بمدن صينية أخرى.
ووضع الباحثون منقيات للهواء تعمل في غرف نوم مجموعة من الطلاب وأخرى لا تعمل في غرف نوم مجموعة أخرى، وتركوها تسعة أيام. وأزيلت منقيات الهواء من الغرف بعد 12 يوما. ثم أجري اختبار آخر لتسعة أيام وضعت فيه منقيات لا تعمل في غرف المجموعة التي كانت في غرفها أجهزة تعمل، ووضعت أجهزة تعمل في غرف المجموعة الأخرى.
وفي نهاية كل من الفترتين، اختبر الباحثون مستويات مجموعة واسعة من الجسيمات الدقيقة في الدم والبول.
وكانت النتيجة أن ارتفعت مستويات هرمونات التوتر والكورتيزول والكورتيزون والأدرينالين والنورأدرينالين في الأجواء الأكثر تلوثا، وكذلك مستويات السكر في الدم والأحماض الأمينية والأحماض الدهنية والدهون.
وارتبط أيضا التعرض للجسيمات الدقيقة بارتفاع ضغط الدم وضعف الاستجابة للأنسولين وظهور علامات التوتر على الأنسجة، وكلها أعراض يمكن أن تزيد مع الوقت من خطر الإصابة بأمراض القلب والسكري وغيرها.
وقال المشرف على الدراسة “هذا البحث يضيف دليلا جديدا على أن التعرض للجسيمات الدقيقة يمكن أن يؤثر على أجسامنا مما يؤدي بعد فترة إلى زيادة المخاطر المحيطة بالقلب والأوعية الدموية”.
وكشف تحليل آخر أن النساء اللاتي يعشن في مناطق بها مستويات عالية من تلوث الهواء قد يعانين أيضا من معدلات عالية من القلق النفسي.
وقالت ميليندا سي باور من جامعة جونز هوبكينز في بالتيمور “هذا حقا مثير للاهتمام، ويشير بكل تأكيد إلى أن تلوث الهواء قد تكون له صلة بالصحة النفسية”.
وأضافت “إذا كان هذا مسبب حقيقي فسيكون له تأثير كبير على السكان، لأن الكل معرض لكننا بحاجة إلى إجراء المزيد من الأبحاث لبناء قضية قائمة على أدلة”.
واستخدم الباحثون في الدراسة بيانات أكثر من 70 ألف امرأة، تراوحت أعمارهن بين 57 و85 عاما، أجبن على ثمانية أسئلة عن القلق والاضطراب النفسي.
وتمكن الباحثون، بعد الرجوع إلى أماكن إقامتهن، من تقييم مدى تعرضهن للذرات الدقيقة العالقة في الهواء على مدى الـ15 عاما الماضية، استنادا إلى عناصر، منها قربهن من الطرق السريعة والكثافة السكانية ومصادر محلية للانبعاثات وسرعة الرياح.
وجاء في نتائج الدراسة، التي نشرت في دورية بي.أم.جيه الصحية، أن الباحثين ربطوا بين التعرض لمثل هذه الذرات الدقيقة وزيادة مستويات القلق والاضطراب النفسي.
وقالوا إنه على سبيل المثال وجدوا أن النساء اللاتي تعرضن للذرات الدقيقة في الهواء قبل شهر من إجراء الاختبارات النفسية كانوا أكثر عرضة للإصابة بأعراض القلق الشديد بنسبة 12 بالمئة مقارنة بالنساء اللاتي تعرضن أقل لتلوث الهواء.
وقالت باور لـ”رويترز هيلث” إن تلك الذرات الدقيقة تأتي من مصادر منها عوادم السيارات، ومحطات توليد الطاقة.
نفس النتائج توصلت إليها دراسة أخرى أجريت في جامعة واشنطن كانت قد اعتمدت على إجابات 6000 شخص. وكشف المشرفون عليها عن وجود صلة مباشرة بين الهواء الملوث والصحة النفسية والعقلية.
ركّزت الدراسة على معرفة نسبة الجسيمات الدقيقة (التي يكون قطرها أقل من 2.5 ميكرومتر) والتي تنتج عن محطات توليد الكهرباء التي تعمل على الفحم أو الغاز الطبيعي وأفران ومدافئ الخشب ومحركات السيارات.
وفي أثناء الدراسة تم قياس مشاعر الحزن والتوتر واليأس وغيرها لدى المشاركين، ودلّت النتائج على زيادة خطر المعاناة النفسية مع ازدياد كمية الجسيمات الدقيقة الملوثة في الهواء.
وقد وجدت الدراسة أن المتضررين من النساء أكثر من الرجال؛ فقد بينت الدراسة أن معاناة النساء النفسية تزداد بنسبة 39 بالمئة مع ازدياد مستويات تلوث الهواء مقارنة بمعاناة الرجال.
صحيفة العرب