التكنولوجيا والأسواق والطبيعة تُشكّل محور حياة الإنسان

الرئيسية » تربية وتكوين » التكنولوجيا والأسواق والطبيعة تُشكّل محور حياة الإنسان

التكنولوجيا والأسواق والطبيعة تُشكّل محور حياة الإنسان

يعمد الكاتب الصحافي الأميركي توماس فريدمان إلى تسجيل وتحليل ملاحظاته وتأملاته واستنتاجاته إزاء التطورات غير المسبوقة، الصاعقة أحياناً، التي استجدت وما برحت تستجد على أحوال العالم عبر العقود القليلة الماضية، وخاصة فيما يتعلق منها بمجلات الاتصال والعولمة وتكنولوجيا المعلومات، وهى ابتكارات بالغة الأهمية والخطورة.

ويطلق عليها مؤلف الكتاب مصطلح «السوبر نوفا»، فيما يرى أن هذه المستجدات ترتبط من حيث أثرها على حياة البشر بعنصريْ «السوق» بمعنى تطورات الاقتصاد العولمي وكذلك بعنصر «الطبيعة» ــ الأم كما يسميها، وخاصة من حيث تغير المناخ.

ويدعو الكتاب عبر فصوله الأربعة عشر إلى أن يعمد البشر إلى التقاط أنفاسهم وإلى منح أنفسهم فرصة للتأمل والمراجعة وربما إلى الحد من الاندفاع اللاهث، وبالذات بعد أن توصّل العالم إلى أدوات شبه مذهلة في مجال الحركة والاتصال وهو ما يترجمه المؤلف، حتى من مجرد عنوان الكتاب، إلى الدعوة إلى الإبطاء بمعنى التريث والتقاط الأنفاس مقابل الاندفاع أو التسارع بفعل الأجهزة والتقنيات السالفة الذكر، كما يدعو إلى إيلاء أنواء الطبيعة حقها من الاهتمام وبخاصة ما يتعلق بتغيّر المناخ الذي أصبح يخلّف تأثيراً فادح السلبية على حياة البشر.

في سنة 1965، توصّل الباحث الأميركي الشاب جوردون مور إلى ملاحظة محورية عمد من ثم إلى تدوينها في الدفتر، الذي يحتفظ به في المختبر العلمي، الذي كان يشهد بحوثه في مجال كان مستجداً في تلك الأيام.

باختصار شديد تقول الملاحظة بما يلي: إن عدد الوحدات التي تتألف منها الدوائر الإلكترونية يتضاعف خلال فترة قوامها 12 شهراً.

بعدها سجل المجتمع العلمي واتفق خبراء تكنولوجيا المعلومات على أن وحدات الترانزستور في كل شريحة يتضاعف عددها في غضون سنة واحدة فقط لا غير.

بعدها أيضاً أطلقوا على الملاحظة المذكورة عنواناً يتألف من كلمتين هما: «قانون مور». وهو القانون أو القاعدة التي يراها كاتبنا الصحافي الأميركي «توماس فريدمان» منطبقة – في تصوّره على حياتنا الراهنة في عالم أصبح واقعاً في قبضة تكنولوجيا الحواسيب الإلكترونية ومصادر وآليات المعلومات الاثيرية التي لا تلبث تطالعنا بما هو أحدث وما هو أسرع وما هو أدق مع مطلع كل صباح.

تلك هي الحقيقة التي يتصورها «فريدمان» وكأنها باتت تحكم عالمنا. وهي أيضاً المنطلق الذي يصدر عنه الكاتب المذكور في أحدث كتاب من تأليفه، وهو الكتاب الذي نزل إلى المكتبات في الولايات المتحدة مع الأيام الختامية من عام 2016 المنصرم.

اختار الصحافي عنواناً لكتابه جاءت صياغته في عبارات غير مألوفة بل غير صحافية كأن نقول: شكراً على أنك جئت متأخراً (!)

وقبل أن يفزع القارئ من دهشة العنوان، يسارع مؤلف الكتاب إلى إثبات شرح استهلالي في العنوان الفرعي: دليل متفائل إلى دعوة التريث في عصر متسارع الخطى.

ولقد نرى، من منظور قراءة وتحليل مادة هذا الكتاب، أنه يجسد رحلة فكرية خاضها المؤلف وعَرَضها عبر أربعة أبواب تضم بدورها 14 فصلاً: تبدأ الرحلة من ضفاف «التأمل» (الباب الأول) وتؤوب في ختامها إلى مرافئ الإياب (الفصل الرابع عشر) فيما تضم باباً عن التسارع (الثاني) وباباً آخر عن الابتكار (الباب الثالث).

التأمل، قبل المعلومات

وعلى خلاف الكتب السابق صدورها عن مؤلفنا، وكانت أقرب إلى التقارير والتحليلات الصحافية المطولة والمتعمقة، سواء كان موضوعها يغطي إقليماً بعينه (الشرق الأوسط) أو كان «فريدمان» يتناول قضايا العولمة على مستوى كوكب الأرض الذي نعيش فيه، فإن الكتاب الذي نتناوله في هذه السطور تسوده روح التأمل وإيقاع التفكر، وهو نوع نراه أقرب إلى التقاط الأنفاس في التعامل مع أحوال عالمنا الراهن وخاصة في هذه الحقبة الاستهلالية من القرن الحادي والعشرين.

هنا يبدأ المؤلف أطروحته بدعوة قارئه إلى اعتماد منظور يؤكد من خلاله أنه مفيد في التعامل المبدئي مع هذه الألفية الثالثة. والمنظور ثلاثي بدوره، حيث يتألف من المحاور التالية:

• أولاً: إنجازات التكنولوجيا

• ثانياً: تطور أحوال السوق

• ثالثاً: مستجدات الطبيعة

في مجال «التكنولوجيا» يتجلى «قانون مور» الذي ألمحنا إليه متمثلا في التزايد المطرد في دقة وكفاءة وسائل التواصل وأجهزة المعلومات التي باتت تغطي كل أرجاء المعمورة، يستوي في ذلك أكاديميات وسكان الأقطار السوبر- متقدمة مع أسواق وسكان الغابات والبوادي والجبال والأدغال، ما بين أصقاع إندونيسيا في الشرق الآسيوي إلى مرتفعات الأنديز وسواحل المخروط الجنوبي في أدنى بقاع أميركا اللاتينية.

وفي مجال «السوق» فقد تجلت ظاهرة العولمة كي تشمل بدورها أرجاء العالم كله، حيث أفضت ثورة المواصلات ومن ثم الاتصالات إلى نشر وتعميق إمكانات التبادل التجاري والتكامل الاقتصادي في أرجاء الكرة الأرضية، بكل ما تنطوي عليه هذه العولمة من إيجابيات التواصل بين الشعوب المتقدمة والشعوب النامية، فضلاً عن سلبيات تتمثل في سطوة المؤسسات عبر الوطنية وهيمنة الشركات- الاحتكارية متعددة الجنسيات.

أحوال «الطبيعة الأم»

أما المحور الثالث المتمثل – كما أسلفنا – في أحوال «أمّنا الطبيعة» فيراه مؤلف هذا الكتاب متمثلاً في ظاهرة – آفة تغّير المناخ، ناهيك عن الجانب السلبي المتمثل بدوره في تلك الخسارة المطردة، بل والمفزعة أيضاً في كائنات التنوع البيولوجي التي تضم سائر المخلوقات الحية من حيوان ونبات على السواء.

وهنا يعمد «توماس فريدمان» في الفصل السادس الذي خصصه من الكتاب لمناقشة الأزمات التي باتت تصيب «الطبيعة الأم»، لا يتردد في الإلحاح المتواصل على ضرورة إيلاء وحشد الاهتمام الواجب بكل ما أصبح يلمّ بطبيعة كوكبنا من مشكلات وأمراض ناجمة عن نشاط البشرية بالدرجة الأولى.

ولأن المؤلف يقف ملياً عبر الصفحات التي قاربت الخمسمئة عند ظاهرة التسارع، التي يراها طابع هذه المرحلة الزمنية التي نعيشها – فهو يختم فصل «الطبيعة» بعبارات تقول: ما لم نبادر بسرعة وبجهود متضافرة إلى العمل على تخفيف المشكلات التي أصابت الطبيعة، فلسوف نكون أول جيل من البشر تتحول فيه عبارة «فيما بعد» إلى حيث تصبح «بعد فوات الأوان».

التسويف المرفوض

والمعنى بداهة أن لم يعد يجوز القبول بمنطق التسويف – منطق التأجيل فيما يتصل بالتصدي لتغير المناخ، وما يتعلق بهذه الأفة من مسببات، وفي مقدمتها مثلا إصابة أجواء كوكبنا بغازات الاحتباس الحراري التي تطلق الانبعاثات الكربونية، وتقطع الطريق على سلامة وصحة الكائنات، ناهيك عن استمرار حياتها من الأساس.

 ( وهنا قد نسجل جملة اعتراضية تنبه إلى أن أميركا فضلاً عن الصين ما زالت في مقدمة المتسببين في تغيرات المناخ وقد باتت على أبواب ولاية رئاسية مستجدة أعلنت – على لسان رجلها الأول- إن آفة تغير المناخ ما هي الا أكذوبة مصطنعة أو آفة ملفقة (!) )

وها هم البشر يشهدون بدايات عام جديد بكل ما ينطوي عليه بداهة من وعد، ووعيد:

مشكلة البشر، كما يؤكد مؤلف هذا الكتاب، لم تعد تتمثل في افتقارهم إلى عناصر التغيير التي تبّدل حياتهم إلى الأفضل، بل في افتقارهم إلى إمكانية التكيف مع ذلك الإيقاع اللاهث في سرعة هذا التغيير.

يطلق «فريدمان» على هذه السرعة وصفاً تلخصه الكلمة التالية: «سوبر نوفا»، وهي تشير إلى التغيير الفائق الذي يتجاوز ما عرفه البشر، وما في وسعهم أن يألفوه بسهولة متمثلا فيما أصبحت الأسواق تستقبله من مستجدات الاختراعات والآلات والتقنيات.

ويكفي مثلا، على نحو ما يشير إليه المؤلف ما شهده عالمنا منذ 10 سنوات فقط من هذه المستجدات.

في عام 2007 تلقت مجامع وأسواق الاتصالات عناصر المنظومة الثلاثية المتمثلة في: هاتف الآي فون ونظام الأندرويد (للاتصال) والكِنْدل (لتوصيل الحرف المطبوع).

ويمكن القول بأن هذا الثلاثي الذي أدى إلى زيادة فائقة السرعة في إمكانات الاتصال ونشر المعلومات وما في حكمها – قد نجم عما سبق وأومأ إليه «قانون مور» الذي أسلفنا الإشارة إليه ثم أكد على أهميته «توماس فريدمان» في الفصول الاستهلالية من هذا الكتاب – وهو القانون الذي يرصد التضاعف المطرد في المكونات الالكترونية.

وفي هذا السياق بالذات يقول الكاتب الأميركي «جون مكليوات» في تعليقه على هذا الكتاب: لو حاولنا تطبيق «قانون مور» المذكور أعلاه على قدرات المركبات مثلاص لتوصلنا إلى أن سيارتنا الحالية وهي بالطبع من نسل جيل السيارات القديم الذي سبق نزل إلى السوق في عام 1971، جديرة بأن تتضاعف سرعتها إلى 300 ألف ميل في الساعة (!) فيما يهبط سعرها إلى 4 سنتات (!)، وينزل استهلاكها إلى مقدار غالون واحدة طيلة عمر الاستهلاك (!).

وإذا كان بديهياً أن مثل هذه التصورات مازالت أقرب إلى الأحلام أحياناً وإلى الكوابيس في أحيان أخرى، فإن مؤلف كتابنا يحاول أن ينزل بنا إلى أرض الواقع، مستخدماً في ذلك أدوات أقرب إلى التنبؤ العلمي أو الحدْس الرياضي المحسوب وخاصة على أرضية التفاعل الذي يؤكد عليه عبر صفحات الكتاب – بين ثلاثي التكنولوجيا والسوق والطبيعة.

مثل ببلد أفريقي

في هذا السياق يتوقف «فريدمان» مثلا عند بلد مسلم وادع في أقصى الغرب الأفريقي وهو «النيجر» المطل على مياه الأطلسي: يقول بأن تغيرات المناخ تؤدي إلى اجتياح المحاصيل، فيما أدت إنجازات التكنولوجيا إلى تحسين صحة البشر ومن ثم إلى خفض وفيات الأطفال وإطالة عمر المواليد. من هنا باتت الإسقاطات الرياضية لحجم السكان تتنبأ بأن يرتفع عدد سكان «النيجر» من 19 مليون نسمة حالياً ليصل في عام 2050 إلى 72 مليون نسمة.

مثل من أرصفة لندن

يسارع المؤلف إلى طمأنة قارئيه إلى أنه لا يصدُر في مثل هذه التصورات أو الأحكام عن مغالاة في التخيل أو إمعان في تصور ما ينطوي عليه التطور في مستقبل الايام: إنه يعترف بأن أمر التغيرات غير المسبوقة في مضمار التكنولوجيا يمكن أن يفوق تصورات مستقبليها أنفسهم في بعض الاحيان.

ويسوق “فريدمان” المثل من حالته الخاصة قائلا: في عام 1978 كنت أقف في الصف الطويل على أرصفة لندن كي أستخدم الهاتف العمومي لأبلغ الصحيفة بما في حوزتي من أخبار، أما الان، فقد أصبح بإمكاني إرسال عمود كامل بالبريد الالكتروني من أعماق إفريقيا فإذا به ينشر لحظياً على موقع “نيويورك تايمز” الالكتروني، وقد يواجه بردود فعل سريعة بدورها في أرجاء الصين.

أخيراً، وفي غمار استعداداته لوضع مادة هذا الكتاب، كان عليه أن يجري لقاءات مع العديد من المفكرين والمحللين والاختصاصيين: كانت دوامة لم تكد تترك للمؤلف لحظات كان في أمّس الحاجة إليها من أجل التأمل والتدبر والتفكير. وكان بانتظارهم على لقاء إفطار في مقصف قرب مكتب “التايمز” في واشنطن: كانوا يأتونه متأخرين، فلا يلبث أن يسوق لهم الاعذار.

كان مؤلفنا في حاجة إلى فسحة زمن مهما كانت محدودة لاسترداد الانفاس، كادت تقهره سرعة إيقاع الزمن الراهن، جاءه أحدهم متأخراً. وقبل أن يسوق الاعذار – بادره “توماس فريدمان” قائلا: شكراً على أنك جئت متأخراً. .. وهكذا كان عنوان الكتاب.

تكنولوجيا الاتصال تتيح المحاكاة

يفتقر السكان للأسف إلى ما يحتاجونه من ضروريات الحياة. ولأن أحدث ثمار تكنولوجيا الاتصال باتت تتيح إمكانات المحاكاة أو التقليد ومن ثم المضاهاة بل والتزييف، فقد بات بوسع أي فتى من جيل التكنولوجيا المحدثة أن يأوي إلى مكتبه بمنزل العائلة المتواضع في هذه الضاحية أو تلك، وأن يستخدم جهاز الحاسوب المتقدم، وبعد عدة عمليات إلكترونية يستطيع صاحبنا أن يضفي انخفاضاً – على سبيل المثال- على أسعار سندات «داو جونز» مما يؤدي إلى صدمة مريعة في بورصات «وول ستريت» ومن ثم في أسواق العالم.

المؤلف

يعد توماس فريدمان في طليعة الكتاب ـ الصحافيين الأميركيين المطلعين من خلال المعايشة الطويلة والمتابعة الدؤوبة على أوضاع وأحوال وتطورات الشرق الأوسط. وقد فاز بفضل تفوقه الصحافي بجائزة «بولتزر» المهنية الرفيعة ثلاث مرات. سبق له التخصص في قضايا الشؤون الخارجية والأحوال الدولية، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط. وقد أتاحت خدمته الصحافية في تغطية الرئاسة والخارجية في أميركا تعميق وعيه بالقضايا الدولية.

البيان

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *