لا يختلف اثنان في أن الذكاء الاصطناعي قادر على تسريع الجهود العالمية لحماية البيئة والحفاظ على الموارد من خلال مراقبة تلوث الهواء وانبعاث الغازات، ومراقبة تراجع مساحات الغابات وإزالتها سواء بفعل الإنسان أو الحرائق الطبيعية، وبالتالي التنبؤ بالظروف الجوية القاسية. يمكن لأجهزة تنقية الهواء الذكية التي بحوزتنا اليوم تسجيل جودة الهواء والبيانات البيئية لحظة بلحظة، والعمل على زيادة كفاءة المرشحات الهوائية، كما يمكن أن ترسل الأجهزة التي تعمل بالذكاء الاصطناعي تحذيرات إلى الأشخاص الذين يعيشون في المدن والمناطق الحضرية وتُعْلمهم بمستويات التلوث في مناطقهم.
فوائد جمّة.. ولكن
هناك أدوات موجودة حاليا يمكنها الكشف عن مصادر التلوث بشكل سريع ودقيق، حيث يستطيع التعلم الآلي تحليل البيانات التي تم جمعها من المركبات والطائرات وأجهزة الرادار والكاميرات، وإذا أثبت التحليل وجود تلوث كان ذلك مدعاة إلى العمل على الحد من تلوث الهواء. هذا إلى جانب مجال آخر لا يقل أهمية وهو تطوير شبكات النقل داخل المدن الذكية. الاستفادة التي حققتها البشرية خلال أقل من عشر سنوات من استخدام التعلم الآلي والذكاء الاصطناعي في جمع وتحليل البيانات للمساعدة على مكافحة التغير المناخي، أصبحت محل إطراء من قبل الحكومات والهيئات العلمية. اليوم بات بالإمكان استخدام التعلم الآلي لتحسين طرق توليد الطاقة، وتنظيم توزيعها، وجمع البيانات والمراقبة والتحليل اعتمادا على إضافة أجهزة استشعار وعدادات ذكية توضع داخل المباني وتساعد على ترشيد استهلاك الطاقة.
التنوع البيئي مجال آخر من المجالات التي استفادت من تطبيقات الذكاء الاصطناعي، فاليوم بإمكان الأقمار الاصطناعية المزودة بالذكاء الاصطناعي اكتشاف ومتابعة التغيرات الحاصلة على سطح الأرض جراء استخدام الأراضي ومراقبة الغطاء النباتي، والأهم التنبؤ بالكوارث قبل حدوثها وتحليل الآثار التي قد تترتب عليها. كما يمكن متابعة المحميات الطبيعية وتحديد الأخطار التي قد تجابهها وبالتالي العمل على تلافيها. هذا بعض من الفوائد التي جنيناها من تطبيقات الذكاء الاصطناعي في مجالات البيئة والحفاظ عليها، ولكن هذا -كما يؤكد البعض- هو وجه واحد من الحقيقة، هناك وجه آخر يوصف بأنه قاتم؛ الذكاء الاصطناعي الذي يقدم حلولا لحماية البيئة يسهم في تدميرها أيضا.
هناك من يقارن صناعة الذكاء الاصطناعي بصناعة النفط، فما أن يتم استخراج البيانات وتدقيقها حتى تصبح -شأنها في ذلك شأن النفط- سلعة تُدرّ أرباحاً طائلة. هذا التشبيه أصبح اليوم أعمق من ذي قبل، فعملية التعلم العميق تؤثر على البيئة بشكل واضح، شأنها شأن الوقود الأحفوري. في دراسة جديدة أجرى باحثون في جامعة ماساتشوستس أمهيرست تقييماً لدورة حياة تدريب عدة نماذج كبيرة من الذكاء الاصطناعي، ووجدوا “أن هذه العملية يمكن أن تصدر أكثر من 283.000 كلغ من مكافئ ثاني أكسيد الكربون، أي ما يعادل تقريباً خمسة أضعاف الانبعاثات التي تطلقها سيارة أميركية متوسطة مدى حياتها، بما في ذلك تصنيع السيارة نفسها”. إنها حقيقة جرى التعتيم عليها، وهو أمر مثير للقلق طالما أثار شكوك باحثي الذكاء الاصطناعي. وحسب كارلوس جوميز رودريجز -وهو عالم كمبيوتر في جامعة آكورونا بإسبانيا- “معظمنا فكر في هذا الأمر بشكل نظري وغير محدد، ولكن الأرقام تبيِّن اليوم الحجمَ الحقيقي للمشكلة. وأثناء مناقشة هذه المسائل لم يعتقد الباحثون -بمن فيهم أنا شخصياً- أن الأثر على البيئة كان كبيراً إلى هذه الدرجة”.
يركز البحث بشكل خاص على عملية تدريب نماذج معالجة اللغات الطبيعية (NLP)، وهو مجال فرعي من الذكاء الاصطناعي يختص بتعليم الآلات كيفية التعامل مع اللغة البشرية. وفي السنتين الماضيتين حقَّقت أوساط معالجة اللغة الطبيعية عدة إنجازات هامة في أداء الترجمة الآلية واستكمال الجمل، وغير ذلك من المهام المعيارية. غير أن هذه التطورات تطلبت تدريب نماذج أكبر على مجموعات بيانات أضخم مؤلفة من جمل مأخوذة من الإنترنت. وهذه الطريقة تتطلب قدرات كمبيوترية ضخمة، واستهلاك مقادير هائلة من الطاقة.
وقد درس البحث أربعة نماذج في هذا المجال كانت مسؤولة عن تحقيق أكبر القفزات في الأداء، وهي: شبكة التحويل العصبونية، وإلمو، وبيرت، وجي بي تي 2. قام الباحثون بتدريب كل نموذج منها على وحدة معالجة رسومية ليوم واحد بهدف قياس استهلاك الطاقة، ومن ثم استخدموا عدد ساعات التدريب المدرج في البحث الأصلي المتعلق بالنموذج لحساب إجمالي استهلاك الطاقة خلال عملية التدريب الكاملة، وبعد ذلك قاموا بتحويل هذا الرقم إلى وزن مكافئ ثاني أكسيد الكربون بناء على تركيبة الطاقة في الولايات المتحدة، التي تقارب تركيبة الطاقة المستخدمة من قبل أمازون إيه دبليو إس، أكبر مزود للخدمات السحابية.
غياب الفاعلية
فوجئ الباحثون بالتكاليف الكمبيوترية والبيئية للتدريب التي كانت تتزايد بشكل طرديٍّ مع حجم النموذج، ومن ثم ارتفعت بشكل حاد عند استخدام خطوات معايرة إضافية من أجل زيادة الدقة النهائية للنموذج. وقد وجد الباحثون على وجه الخصوص أن عملية المعايرة المعروفة باسم “بحث الهيكلية العصبونية” قد أضافت تكاليف كبيرة للغاية إلى عملية التدريب مقابل زيادة بسيطة في الأداء. وبدونها، فإن الأثر الكربوني لأكثر النماذج تكلفة، وهو نموذج بيرت، يبلغ تقريباً 652 كلغ من مكافئ ثاني أكسيد الكربون، أي ما يقارب رحلة طيران ذهاباً وإياباً عبر أميركا لشخص واحد
وتقول إيما ستروبل، وهي مرشحة لنيل شهادة الدكتوراه في جامعة ماساتشوستس أمهيرست والمؤلفة الأساسية للبحث “إن تدريب نموذج واحد هو أقل مقدار ممكن من العمل”. أما من الناحية العملية، فمن المرجح أن يقوم باحثو الذكاء الاصطناعي بتطوير نموذج آخر من الصفر أو تكييف نموذج موجود مع مجموعة بيانات جديدة، ويتطلب أيٌّ من الأمرين تكرار عمليات التدريب والمعايرة مرات عديدة”.
ويقول جوميز رودريجز “أغلبية الأبحاث الجديدة في مجال الذكاء الاصطناعي تتجاهل مسألة الفاعلية، وذلك بسبب فائدة الشبكات فائقة الضخامة في العديد من المهام، كما أن الشركات والمؤسسات تمتلك الكثير من الموارد الكمبيوترية التي يمكن أن تستغلها للمزيد من الأفضلية التنافسية. وهذا النوع من التحليل ضروري لزيادة الوعي بكيفية استخدام الموارد، ومن المؤكد أنه سيثير بعض الجدل”. ويوافق سيفا ريدي -وهو باحث في جامعة ستانفورد، ولم يشارك في البحث- على هذا الرأي، قائلاً “من المرجح أن معظمنا لم يفهموا الحجم الحقيقي للمشكلة قبل رؤية هذه المقارنات”.
صحيفة العرب