"التعددية الثقافية": نظرية سياسية أم أيديولوجيا؟

الرئيسية » الأعمدة » تأملات فكرية » “التعددية الثقافية”: نظرية سياسية أم أيديولوجيا؟

تعد التعددية الثقافية من قبيل الاتجاهات الفرعية في الفكر الليبرالي التي تندرج تحديدا ضمن إطار “الليبرالية الاجتماعية”. ويمكن تقسيم هذه الاتجاهات الفرعية بدورها إلى نوعين من مستويات الالتزام بالتعددية: حيث يعرف النوع الأول باتجاه التعددية الثقافية الصلبة، تلك التي يدافع عنها كيملكا وتايلور ووالزر، حيث يتم التشديد في ظل هذه التعددية الثقافية على حقوق المواطنة المتميزة أو الخاصة لصالح الأقليات، وذلك استنادا إلى الثقافة التي تنتمي إليها كل منها. حيث يعمد أنصار هذا النوع إلى الدفاع عن الحقوق الثقافية للأقليات، مع المحافظة على التزامهم بالليبرالية في الوقت ذاته كل تبعا لاتجاهه الفرعي. أما النوع الثاني، فيتعلق بالتعددية الثقافية الرخوة، ويدافع عنها أكيرمان.

ومن جهة أخرى، فإن التعددية الثقافية تعد في عمقها تجربة حياة، وتجربة عيش في كنف مجتمع أقل انعزالية وضيقا في الأفق، وأكثر حيوية وتنوعا ولو كان أقل تجانسا. فالتعددية الثقافية، بهذا المعنى، تنشأ من تجربة العيش المشترك في مجتمع تعددي ومتسامح فكريا، له تكوين متنوع من الوجهة الثقافية والاجتماعية، وهو التكوين الذي يجعل الموقف من شتى التشكيلات الثقافية الفرعية موقفا متفتحا وإيجابيا، يقوم على تكريم الناس وتقديرهم واحترام حقهم في اختيار طريقة الحياة التي تناسبهم وتعبر عن هويتهم بما لا يخل بوحدة الجماعة وانسجامها..

فالتعددية الثقافية، ضمن هذا التصور، تحيل إلى منظور فكري، وإلى آليات محددة للتعامل مع الواقع المجتمعي المتنوع، بما يسمح بالمشاركة في الشأن العام وصناعة القرار لصالح مختلف المكونات الثقافية الفرعية داخل الجماعة، والاعتراف بإسهاماتها المميزة في المجتمع.

ترتقي التعددية الثقافية في الأدبيات السياسية والسوسيولوجية المعاصرة كشرط محدد للعيش المشترك إلى مستوى المفهوم الإجرائي الذي يسعى إلى التدبير العقلاني والوظيفي لواقع التعدد والتمايز الثقافي في كنف المجتمع الواحد، كما يسعى إلى قبول ورضا كافة تلك المكونات بواقعها المجتمعي المتعدد والاعتراف به رسميا، من خلال النظر إليه كمحصلة ناجمة عن تراكمات تاريخية وثقافية تتميز بقدر كبير من الرسوخ.

وبناء على هذا الاعتراف، يتم إقرار آليات محددة في كيفية التعامل مع هذا التنوع الثقافي. وفي حالة تحقق مثل هذا الاعتراف وتلك الآليات، يجري وصف المجتمع بكونه مجتمعا تعدديا يتبنى التعددية نهجا للتسامح والتعايش بين مختلف مكوناته الثقافية، بينما مفهوم التنوع الثقافي يشير إلى تنوع الواقع المجتمعي وتعدد مكوناته الثقافية ليس إلا.

وفي مستوى ثالث؛ تتحدد التعددية الثقافية بكونها سياسة عامة معنية بتلبية احتياجات الجماعات الثقافية على صعد التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية.

من خلال ما سلف؛ نخلص إلى أن التعددية الثقافية تتحدد بكونها أولا نظرية تفسيرية تسعى إلى عقل الواقع الاجتماعي المتعدد، وثانيا بكونها سياسة في التعامل مع التنوع الثقافي، بحيث تستند إلى فكرة المشاركة الجماعية الديمقراطية من طرف مختلف الجماعات الثقافية على أساس المساواة والعدالة الثقافيتين، والاعتراف رسميا بكون تلك الجماعات متمايزة ثقافيا، ومن ثم تطبيق ذلك عمليا من خلال سياسات محددة تسعى إلى مساعدة تلك الجماعات وتعزيز تمايزها الثقافي في كنف الأمة الجامعة.

فمع أن التعددية الثقافية تعد، من وجهة نظر البعض، بمثابة أيديولوجيا؛ أي “نسقا من المعتقدات المترابطة والمنظمة”، إلا أنها تظل قابلة، مع ذلك، للتشكيك والدحض. فهي تركز اهتمامها تحديدا على كيفية التعامل مع التنوع الثقافي داخل الدولة، وطبيعة علاقة الدولة بمكوناتها الثقافية، وماهية المرجعية الفكرية التي ينبغي الركون إليها لضمان شرط المعاملة العادلة مع سائر مكوناتها. فهي بإيجاز من قبيل النظريات السياسية لا الأيديولوجيات.

د.عبد السلام طويل

رئيس تحرير مجلة الإحياء

أستاذ زائر بكلية الحقوق، جامعة محمد الخامس/ السويسي / سلا

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *