إن آلية التصديق والهيمنة في القرآن المجيد لها وجهتان: الوجهة الأولى، إزاء الكتب السالفة؛ فهناك تصديق لما صحّ من هذه الكتب ثم هيمنة عليها في تكامل تامّ معها.
والوجهة الثانية، إزاء ما يمور ويعتلج في حياة الناس وارتفاقاتهم من ممارسات وما هو مستقر فيها من أعراف. والتصديق في هذه الوجهة عبارة عن إقرار الصالح من كل ذلك بالسكوت عنه أو الثناء عليه، وتغيير الطالح بالحديث عنه وكشف مساوئه.
وتتم الهيمنة في القرآن الكريم في اتجاهات متعددة، وهي اتجاهات كلها تجاوزية غير استاتيكية؛ وهي تجاوزية تتجلى من خلال التوسعة مع الاحتفاظ على كل القوة التي تستبطنها الحقائق الموسّعة، ويجري ذلك بطريقة متنامية، إذ بعد كل مرحلة من مراحل الهيمنة، يبنى على الحقائق الجديدة لكي تتم الهيمنة بها بدورها على مفاهيم وحقائق مستقرة أخرى وتتم توسعتها، لكي تشمل أبعادا أخرى لم تكن تشملها في مرحلة الخصوصية؛ لأن الوحي في المراحل السابقة عن نزول القرآن المجيد كانت له خصوصيته؛ إذ كان يُبعث الرسول النبي من أجل هداية الخلق وإرشادهم إلى الصواب ضمن السياقات التي يوجد فيها، ووفق توازنات معينة. فعيسى عليه السلام -على سبيل المثال- يأتي في وقت قد غرقت فيه أمة بني إسرائيل وانغمست في العالم (1)؛ فجاء بهذه الدفقة الروحانية من أجل انتزاع وانتشال أمته وجذبها الشديد لتخليصها من هذا الانغماس، وقد كان أفق دعوته وهدايته عليه السلام متسقا مع أزوف زمن بعثة نبي الختم صلى الله عليه وسلم، وظل هذا الأفق مفتوحا كما يتجلى ذلك في قوله تعالى: “ومبشّرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد” [الصف، 6]. إذ هو صلى الله عليه وسلم الرسول الذي سوف يُحدث التوازن المنشود؛ فنحن بصدد تخطيط وتصميم رباني يقوم على التكامل في الأدوار بين الأنبياء: الجذب من لدن عيسى عليه السلام كان قويا جدا في انتظار رسول يأتي من بعده اسمه أحمد ليُحدث التوازن المطلوب؛ فبينما كانت اليهود لا تسجد لتكون صلاتها، تبعا لذلك، جلّها وقوفا، جاء عيسى عليه السلام فنقلهم إلى السجود لتكتمل مظاهر العبادة مع مجيء الرسول المبشّر به أحمد، صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي سيضيف الركوع إلى كل ذلك تصديقا وهيمنة.
(1) – إذ الأمم دائما تتأرجح بين قطبين؛ قطب الرهبنة (أو الخروج من العالم) وقطب التكاثر والاستكثار(أو الغرق في العالم).