في خضم الجدل الدائر حول التراث، ما بين قراءة سلفية أو تراثية للتراث، وقراءة استشراقية أيديولوجية ليبرالية أو ماركسية “ثورية” للتراث، وقراءة علموية ابستيمولوجية أو براغماتية للتراث، وقراءة تغريبية تدعو للقطيعة أصلا مع هذا التراث… يترسخ ما أسماه بعض الباحثين بـ”مذبحة التراث”، حيث يغيب التناول العلمي للتراث أو يكاد.
الأمر الذي يعيد طرح قضية الموقف من التراث والمنهجية الناجعة للتعامل معه. وبهذا الصدد نجد أنفسنا أمام ثلاثة مقتربات أساسية في النظر إلى التراث في علاقته بالبناء المعرفي اللازم لإنجاز مشروع النهضة العربية الإسلامية المنشودة:
المقترب الأول: يقول بالقطيعة مع التراث، وهي قطيعة تصل إلى مستوى الاجتثاث والفصم القاطع في مسار تاريخية الفكر العربي الإسلامي، وهو موقف ينطلق من معيارية حدية تعتبر أن كل ما هو تراثي يعد غير علمي وغير عقلاني، وكل ما هو حداثي يعد بالتعريف علميا وعقلانيا.. وبالتالي لزم لفظ ما هو غير علمي وغير عقلاني لمصلحة ما هو علمي وعقلاني.
ولما كانت المشاريع النهضوية لا تتحقق إلاّ بمنطق التراكم التاريخي والمعرفي، فقد كان لزاما على دعاة القطيعة، مقابل لفضهم لمسارهم التراكمي الخاص، أن يركنوا إلى تراث آخر هو تراث الحداثة.. ومن هنا تأتي غربة واغتراب هذا الخطاب “الحداثوي”، بل من هنا يأتي انفصامه وانعدام فاعليته؛ أولا: لافتقاره إلى شرط المطابقة مع الواقع التاريخي والحضاري الذي يسعى إلى تحديثه والثورة عليه، ليظل، بذلك، حبيس مفارقته.
وثانيا: لأنه خطاب يعيش أزمة تواصل؛ فهو خطاب بلا مخاطبين، الأمر الذي جعله يعيش في شرنقة ذاتية قاتلة رغم ما قد يحمله من عناصر الجدة والعقلانية والثورة.
ثالثا: وكنتيجة للعنصرين السابقين افتقاره الحاد للحامل الاجتماعي الذي يفترض فيه أن يؤمن ويتمثل ويدافع ويعمل على تنزيل هذا الخطاب الحداثي والانتقال به من مستوى المشروع الفكري والنظري إلى مستوى المشروع السياسي والتاريخي..
المقترب الثاني: وهو مقترب ماضوي تبجيلي للتراث، منكفئ عليه، مستكف به، رافض لما دونه إلاّ أن يخضع لمنطقه السلفي، يعلي سلطة النص على سلطة العقل والواقع، ويجعل الأحياء منقادين وخاضعين لسلطة وتأثير الأموات.. يخاطب العاطفة دون العقل، ويسعى إلى الاستقطاب والتأثير على حساب الإقناع والتنوير، يراهن على الكم على حساب الكيف، إطلاقي في مواقفه وأحكامه، ووثوقي في اختياراته وسياساته..
المقترب الثالث: مقترب علمي موضوعي في تعامله مع التراث، ينطلق من الوعي بالصيرورة التاريخية لهذا التراث، والطبيعة التراكمية النسبية له، ليخلص إلى أن أي تجديد لهذا التراث لا يمكن أن يتم تاريخيا إلا من خلال التعاطي المعرفي النقدي من داخل هذا التراث ودون القفز على الواقع الاجتماعي المحايث له، انطلاقا من أن البنية التراثية تمثل مكونا أساسيا حيا من مكونات واقعنا التاريخي ووعينا ولا وعينا الفردي والجماعي..
فليست هناك مسافة فاصلة بيننا وبين التراث والبنية التراثية في علاقتنا الإنسانية وممارساتنا الدينية وأنظمتنا السياسية والاجتماعية، وتركيبتنا الذهنية.. من شأنها أن تجعلنا ننقطع عن التراث أو نتعامل معه وكأنه شيء منفصل عنا.
وهو ما يطرح مسألة التعامل المنهجي مع هذا التراث وفق رؤية كلية تميز، ضمنه، بين الثابت والمتغير، بين الكلي والجزئي، بين المطلق والنسبي.. ذلك أن المقاربة المنهجية للتراث تحكمها ضرورات البناء المعرفي والاستبصار النظري، التي بمقتضاها يغدو التعامل مع هذا التراث، منتجا، ومفيدا، ونافعا، ومنسجما مع الذاتية الحضارية للأمة، ومرجعيتها العقائدية. انطلاقا من أن التراث، ليس شيئا جامداً، ولكنه رصيد حي يستمد قيمته من أسلوب استخدامه، ومن مغزى الأهداف والمقاصد التي يهدف إلى تحقيقها، في الآن والمستقبل.
ومن ثمة فإن نجاح أي مشروع تجديدي يستوجب الانطلاق النقدي من التراث لتكون العلاقة معه علاقة تاريخية واعية بفعل الصيرورة وفعل التراكم، بعيدا عن كل أشكال القطيعة الأيديولوجية مع التراث، وبعيدا، كذلك، عن كل أشكال الانغلاق والانكفاء عليه.