يشهد التاريخ على أصالة وتجدر العطاء المغربي، ويتعلق الأمر بجميع مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية والدينية والثقافية والعلمية، بحيث نجد العديد من أمهات الكتب تتحدث عن إسهامات قيمة لمغاربة فضلوا مغادرة الديار والأهل من أجل تلقين العلم والأخلاق الحميدة لأناس يشتركون معنا في العقيدة والمصير المشترك، وكذلك كان دأب “الأخلاقيين” المغاربة في أرض الكنانة في قرون خلت
يوم كان يحج المغاربة إلى أرض الكنانة لحماية عقيدة أهلها
لاشك أن الكثير من المتتبعين والدارسين لتاريخ العلاقات الدولية ومنها العلاقات العربية العربية، يقفون عند العديد من المحطات التي تبرز عمق الروابط بين المغرب وباقي الأقطار العربية وغيرها من البلاد الأخرى؛ إلا أن ما يستدعي أكثر من وقفة هو متانة العلاقة التي طبعت التعاون فيما بين شعبي المغرب أرض الكنانة (مصر)، حيث تذكر الكتب التاريخية أن حكام مصر لم يجدوا في وقت من الأوقات بُدا من طلب مساعدة المغرب لمحاربة فساد الأخلاق وغزو بعض الأفكار لأهل مصر، حيث استجاب “الأخلاقيون” المغاربة لدعوة أشقائهم، وحطوا رحالهم بين ظهرانيهم لتبليغ رسالة سامية تتعلق بتهذيب النفس والحفاظ على معاني الدين الحنيف النبيلة والصافية.
ولق عُرِف المغاربة في المشرق، منذ أن أخذوا يفدون عليه بعد الفتح الإسلامي، بالعكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى، حتى فاقوا غيرهم عددا ومَدَدا في المجاورة بالحرمين الشريفين والحرم الأقصى، واشتهروا عند أهله بكونهم من أشد المسلمين تمسكا بالكتاب والسنة عند انتشار البدع وظهور الفساد، حتى وقر في القلوب أنهم هم المقصودون بالحديث الشريف الذي رواه مسلم في كتاب “الإمارة”؛ “لا يزال أهل المغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة”. كما شَهِد رجال الأخلاق بالمشرق لنظرائهم من المغاربة برسوخ القدم في التربية الخلقية والتزكية الروحية، وقدَّموهم على أنفسهم في إرشاد من يقصدهم، طلبا للتخلق والتحقق بمكارم الأخلاق.
وفي ثنايا مقالة علمية قيمة للدكتور طه عبد الرحمن، الباحث في كلية الآداب بالرباط، منشورة بمجلة التاريخ العربي، نتساءل معه بأنه إذا كان الأمر كما سلف، أليس معنى هذا أن العطاء المغربي في باب التربية الدينية والخلقية كان وافرا؟ ولعله كان أوفر في هذا الباب منه في أبواب الثقافة الإسلامية الأخرى؛
تميز المغاربة بالعمل الخُلقي
برأي الباحث فإن العطاء المغربي الذي غلب على المصريين الاستمداد منه تعلَّق أساساً بالعمل الخُلُقي الذي تميز به المغاربة الوافدون عليهم. ويشرح ذلك في عدد من المحطات العلمية، بحيث ثبت بما لا يدع مجالا للشك أن العمل الخلقي المغربي انتقل إلى الديار المصرية، لكن انتقاله إليها لم يكن بطرق نظرية تقوم على الرواية والكتابة، وإنما بطرق عملية تقتضي التنقل إلى عين المكان والإقامة به. وقد أخذ الأخلاقيون المغاربة ـأساتذة وتلامذةـ يفدون على أرض الكنانة في طريقهم إلى أداء فريضة الحج وزيارة قبر الرسول عليه السلام. وقد يختار بعضهم الإقامة بهذه الأرض المباركة؛ وتَذْكر المصادر أن أشهر من أقام بها منهم في مطلع القرن الرابع أبو الخير الأقطع التيناتي (ت343)، والذي كان أوحد عصره في التحقق بخلق التوكل، ثم تفيض في سرد أسماء من جاء بعده في القرون الموالية إلى أن تذكر الوافدين منهم في القرن الرابع عشر الهجري؛
واتخذ تنقل العمل الخلقي المغربي إلى الديار المصرية أشكالا مختلفة نذكر منها؛ تنـقل الأسـاتـذة المغاربة إلى مدن وقرى مصرية معينة مثل الإسكندرية أو قنا أو طنطا أو الفسطاط أو القاهرة أو الفيوم، إلخ. وتنقل أتباعهم من أهل الغرب الإسلامي (أي “المغرب الأقصى” و”الأندلس” و”المغرب الأوسط” و”إفريقية”)إلى مصر والانتشار بأقاليمها المختلفة. ثم عودة المصريين إلى بلادهم بعد الأخذ عن الأساتذة المغاربة أو تلامذتهم، وإن كان الوافدون منهم على المغرب قلة قليلة.
وارتفع عدد الوافدين على مصر من الأخلاقيين المغاربة في الحقبة الممتدة بين أواخر القرن السادس وأواخر القرن السابع الهجري، وهي بالذات الفترة التي ازدهر بها العمل الخلقي بالقطر المصري واتسعت حركته اتساعا؛ ومن هؤلاء الوافدين المغاربة: الأستاذ عبد الرازق الجزولي، والأستاذ عبد الرحيم القنائي، والأستاذ أبو الحسن الشاذلي والأستاذ أحمد البدوي.
فأما عبد الرازق الجزولي، فأصله من المصامدة، أخذ الطريق على يد أبي مدين الغوث واستقر بالإسكندرية وبها مات سنة 592 هـ أو سنة 596 هـ على بعض الأقوال.
وأما عبد الرحيم القنائي، فأصله من ترغاي من قبيلة غمارة بإقليم سبتة؛ ولد سنة 521 هـ ولبس خرقة التخلق على يد الأستاذ أبي يعزى، ثم انتقل إلى الحجاز حيث أقام بها مجاورا تسع سنين ومنه تحول إلى صعيد مصر، فاستقر بقَنا، منتصبا للتدريس والإرشاد حتى وفاته سنة 592 هـ.
وأما أبو الحسن الشاذلي، فتنسبه المصادر هو الآخر إلى قبيلة غمارة بإقليم سبتة؛ ولد سنة 593 هـ وأخذ الطريق على يد عبد السلام بن مشيش، الذي وجهه إلى “إفريقية” (أي تونس) وأنبأه بالظهور في المشرق، فكان أن استقر بالإسكندرية، موجٍّها وهاديا إلى سبيل الله بكلامه “القريب العهد بالله” إلى أن وافته المنية في طريقه إلى الحج سنة 656هـ.
وأما أحمد البدوي، فقد وُلد بفاس سنة 596 هـ، ولبس الخرقة بها على يد الأستاذ عبد الجليل النيسابوري، ثم انتقل إلى المشرق متجولا فيه حتى انتهى به، المطاف إلى الاستقرار بطنطا في شمال مصر، متصدرا للتربية والدعوة إلى الله.
المصريون يطلبون الأخلاقيين المغاربة
قد يقول القائل بأن علة توافد أرباب التربية على مصر في هذه الفترة هي أنهم وجدوا أسباب العيش الآمن في ظل دولة الأيوبيين ودولة المماليك، اللتين صارتا رمزا للقوة الإسلامية القادرة على قهر جحافل الغزاة من التتار والصليبيين؛ ولا يمكن أن يصح هذا القول، لأن الفتن كانت منتشرة في هذه الفترة والتنازعَ على السلطة كان ضاربا أطنابه بين الأيوبيين والمماليك؛ والأرجح عندنا أن لهذا التوافد علتين متكاملتين؛ إحداهما أنه كان تنقلا مطلوبا؛ فإذا كانت مصر في هذه الفترة تسوسها دولة ذات قوة ومنَعَة، فإن المغرب كانت تسوسه دولة لا تقل عنها ظهورا بالسلطان؛ وقد أدرك هذا البلد آنذاك من البأس والمجد ما لم يدركه مذ كان دولة مستقلة، حتى سارعت الدولة الأيوبية إلى الاستنجاد به، طالبة منه قِطَعا من أسطوله لمنازلة المواقع التي احتلها الصليبيون. وهكذا، فقد كان المغرب مطلوبا للجهاد، ولا يخفى أن من يُطلَب للجهاد هو، عند الأخلاقيين المغاربة، كمن يُطلَب للمجاهدة وهم الذين ألفوا واختاروا الإقامة بالرباطات التي عُرِفت بالنضال الروحي والمادي. وعلى هذا، فلا يبعد أن يكون توجه المربين المغاربة إلى مصر امتدادا لتوجه المحاربين في أسطولهم إليها إن كان هذا التوجه العسكري قد تحقق أو يكون تعويضا عنه إن كان قد تعذر، وذلك استجابة لنداء إخوانهم من المصريين حتى يقوموا بواجبهم في تجديد أخلاق الجمهور وإعداده لمنع الغزاة عن بلاده؛ ولو أنهم لم يكونوا مطلوبين، لما هب الأيوبيون ينشئون المدارس والخوانق ويجرون عليها الأرزاق ويوقفون الأوقاف ويسارعون بإسناد مهام التدريس والتربية إلى الوافدين عليهم.
والعلة الثانية أنه كان تنقلا مأذونا: لا يخفى أن الأخلاقيين المغاربة يأخذون في كل حركاتهم وسكناتهم بقِيَم روحية ومُثل ربانية لا تُجوِّز لهم ترك ترحالهم واستقرارهم تعبث بهما الأهواء العابرة وتعتورهما الأغراض الفانية، وإنما تحملهم على أن ينزلوا ويرحلوا حيثما وجدوا دلائل الاستزادة من النفع والانتفاع بهذه المعاني الخلقية، ووجدوا دلائل القيام بشروطها على الوجه الأكمل، كما تحملهم على الاستعانة بإشارات أساتذتهم في التربية والتخرج حتى لا يفوتهم حسن الأدب والوفاء بحقوق الصحبة؛ فقد أذن أبو مدين الغوث لعبد الرزاق الجزولي في الانتقال إلى مصر، كما أشار به عبد السلام بن مشيش على أبي الحسن الشاذلي. وقد جرى المؤرخون على عادة إسقاط مثل هذه الأسباب، إذ يعدونها من باب المزاعم أو الخواطر الذاتية التي لا تفيد كثيرا في التحليل التاريخي؛ ولا يتسع المقام لتقويم هذا الموقف، على شهرته بين الباحثين واعتقاد الجمهور في موضوعيته وعلميته، وإنما حسبنا أن نقول بأن الحياة التي تبنى أدق جزئياتها على قيم روحية صرفة لا تنفع في تحليلها أساليب تتسم بالانغلاق على المادة ولا في تفسيرها أسباب تتصف بالجمود على الظاهر. لذا نذهب، يقول الباحث، إلى أن هذا الجانب المعنوي أبلغ في الدلالة على علة الانتقال إلى مصر من الجانب الحسي الذي هو الطلب الموجه إلى المغاربة؛ لأن الذي استهلكت نشاطه الروحانيات لا يلوي على شيء من الحس إلا أن يكون خادما لهذه الروحانيات؛ ولولا الشعور بالإذن في التحرك، لما أتى هذا التحرك بالثمار المطلوبة منه، ألا ترى كيف أن التحول الأخلاقي الذي أحدثه المربون المغاربة في سلوك المصريين في تلك الفترة ما زالت آثاره تُشيع حتى الآن في أوساطهم روحانية قدسية!
وإذا صحَّ تعليلنا لتنقل أهل الأخلاق المغاربة إلى الديار المصرية، وهو أنهم طُلِبوا فأُذِن لهم، صحَّت معه
أيضا الحقيقتان التاليتان: إحداهما أن العمل الخلقي المغربي يتصف بأوصاف لا يشاركه فيها غيره. والثانية أن هذه الأوصاف الخاصة للعمل الخلقي المغربي تفيد في تحقيق جوانب التجديد الخلقي التي شعر المجتمع المصري بالحاجة إليها يومذاك.
مميزات العمل الخلقي المغربي
ثم يمض الباحث إلى بيان خصائص العمل الخلقي الذي نهض به المغاربة، معرجا على بيان الوجوه التي أفادت بها هذه الخصائص المجتمع المصري آنذاك في إنجاز مراده من الإصلاح الخلقي.
وبرأي الباحث هناك خصائص ثلاث أساسية للعمل الخلقي المغربي هي؛ “البعد عن التجزيء” (أو التجزؤ، أو التفريق؟؟؟)، و”البعد عن التجريد” و”البعد عن التسييس”.
فالبعد عن التجزيء أو الخاصية التكاملية؛ ويظهر البعد عن التجزيء في العمل الخلقي المغربي في أصناف الجمع الثلاثة التالية، وهي: “الجمع بين التخلق والتفقه” و”الجمع بين التجرد والتسبب” و”الجمع بين المجاهدة والجهاد”.
والبعد عن التجريد أو الخاصية التداولية؛ بحيث يظهر البعد عن التجريد في العمل الخلقي المغربي في أصناف النفور الثلاثة التالية، وهي: “النفور من الفروع الفقهية”، و”النفور من الجدل الكلامي” و”النفور من الحكمة العرفانية”.
ولقد استقر عند الأخلاقيين المغاربة أن الإشراق مستمد من النظر الفلسفي الذي يأخذ بمبدأين: “مبدأ إطلاق العقل” و”مبدأ امتياز الفرد”؛ أما مبدأ إطلاق العقل، فيعارض توجههم السني، لأن العقل إذا لم يقيد مسلكَه اعتبارُ الشرع، صار عرضة للأهواء؛ وأما مبدأ امتياز الفرد، فيعارض توجههم الجماعي، لأن
الفرد إذا لم يقيد أفقَه اعتبارُ الجماعة، صار ضرره يغلب على نفعه.
كما استقر عندهم أيضا أن الكيمياء مستمدة من الطمع الدنيوي الذي يخالف شاهد العقل، ويوقع في صريح الفساد؛ أما مخالفة شاهد العقل، فلأن الكيميائي يطلب أسبابا باطلة لقلب الأعيان؛ وأما الإيقاع في صريح الفساد، فلأن هذه الصنعة تحمل على ممارسة الغش والتدليس، فكان أن نهى الأخلاقيون المغاربة
عن الاشتغال بها وحذروا أتباعهم منها أشد تحذير، ولاسيما أن بعض أخلاقيي عَدوة الأندلس تأثروا بهذا الاتجاه الإشراقي الكيميائي. ومن تم يمكن القول أن العمل الخلقي المغربي ينأى عن منحى التجريد الذي وقع فيه فقهاء الفروع وأهل الكلام وأهل العرفان واتجه اتجاها تداوليا في ممارسة التعبد والعقيدة والمعرفة، اتجاها يجعلها طبيعية لا تكلُّف فيها ويسيرة لا تعقُّد فيها.
ثم أخيرا هناك خاصية البعد عن التسييس أو الخاصية التأنيسية؛ ويظهر البعد عن التسييس في العمل الخلقي المغربي في أصناف المدلولات الثلاثة الآتية وهي: “المدلول الروحي للجهاد”، و”المدلول الإنساني للدعوة” و”المدلول المعنوي للنسب”.
نجاعة الأخلاقيين المغاربة
إن العمل الخلقي المغربي ينأى عن منحنى التسييس ويتجه اتجاها تأنيسيا متميزا يجعل للجهاد بعدا روحيا وللدعوة بعدا إنسانيا وللنسب بعدا معنويا. وإذ قد عرفتَ أن العمل الخلقي المغربي يمتاز بالخصائص الثلاث: البعد عن التجزيء ـ أو قل طلب التكامل ـ والبعد عن التجريد ـ أو قل طلب التداول ـ والبعد عن التسييس ـ أو قل طلب التأنيس ـ، فاعرفْ أن السبب في ذلك هو تمكُّن المذهب المالكي من نفوس المغاربة حتى ولَّد فيهم نزوعا إلى الممارسة الروحية بحكم منطقه وملابسات نشأته. ويقوم هذا المنطق إجمالا على عنصرين هما: “العمل” و”الصحبة”، بينما تقوم ملابسات هذه النشأة على عنصرين هما: “التعظيم” و”الإحسان”.
فأما العمل، فالمالكية من دون المذاهب الفقهية الأخرى أقرت عمل المدينة مصدرا من مصادر التشريع الإسلامي. وفي هذا ما ينهض دليلا على أن المالكية تبينت حقّا ما لمشاهدة السلوك الحي من أثر في تحقيق التدين الصحيح. على أن مصادر التشريع التي اعتمدتها تنقسم إلى قسمين: القسم النظري ويشمل الكتاب والسنة والقياس، والقسم العملي ويشمل الإجماع والعمل، مما يترتب عليه أن التفقه في الدين لا يتم إلا بحصول الجمع بين الممارستين: الاستدلالية والاشتغالية.
وأما الصحبة، فهي مبدأ لازم عن أصل العمل الذي تقول به المالكية. ذلك بأن الصحبة عبارة عن المشاهدة الحية للأسباب والقرائن التي ترافق أعمال المصحوب، أقوالا وأفعالا، والتي يحصل بها العلم بالمراد على وجه من التحقيق لا يتأتى بطريق آخر، فلا عمل حي إذن إلا بتمام الصحبة؛ لذا، فقد كان من تلامذة مالك المغاربة من يبقى على ملازمته ردحا من الزمن بعد تمام تعلُّمه وفراغ تكوينه النظري عملا بمبدإ الصحبة، حتى يرث عنه أخلاقه وأحواله. وأما التعظيـم، فإن مالكـاً، رحمه الله، كان يظهر ـ قولا وفعلا ـ من آداب تعظيم الرسول عليه السلام وفروض محبته ما يجعل حديثه وسلوكه ينقلان إلى تلامذته وجلسائه أخبار الرسول عليه السلام حيةً وكأن معانيها رأي العين، فتحيا قلوبهم بأسرارها وتنقاد جوارحهم إلى العمل بها؛ وقد ورث عنه فقهاء المالكية المغاربة هذا التعظيم ونشروا آدابه نشرا بين طبقات المجتمع.
وأما الإحسان، فإن مالكاً صحب علماء عاملين بلغوا النهاية في صفات خلقية اختص الأخلاقيون بطلبها، وهي: “أخلاق الإحسان” أو “الفضائل الروحية”؛ فمن أساتذته هرمز الذي اشتهر بالبكاء، وابن المنكدر الذي عرف بالزهد، وجعفر الصادق الذي اشتهر بالمحبة، كما تتلمذ عليه رجال نالوا قدم السبق في الظهور بأوصاف الإحسان، ومنهم سفيان الثوري وأبو الحسن الشيباني.
وحسبنا هذه العناية بهذه الأركان الأخلاقية: “العمل” و”الصحبة” و”التعظيم” و”الإحسان” دليلا على أن المالكية حملت بذور ممارسة روحية سرعان ما أثمرت عند المغاربة، بمجرد تشبعهم بمنطق هذا المذهب، تخلُّقا اختصوا به وصاروا فيه قدوة لغيرهم؛ ولا عجب إذ ذاك أن يتكاثر بين فقهاء المالكية أهل العبادة وأهل الزهادة وأهل الورع وأهل التقوى حتى إن “لفظ الصوفي” أُطلِق عليهم إطلاقه على أهله المختصين به لاعتبار أساسي وهو كونهم يقصدون بفقههم وجه الله تعالى. وحتى إن ذكر الفقهاء في كتب التراجم والطبقات، صار لا ينفصل عن ذكر المتعبدين والزاهدين.
لقد احتاج الحكام الجدد في مصر إلى إزالة المظهرين التجزيئيين: التفرقة بين الفقهاء والأخلاقيين والتفرقة بين المقاتلين والمجاهدين، مع العلم أنه لا سبيل إلى ذلك إلا بالجمع بين التفقه والتخلق والجمع بين الجهاد والمجاهدة في الممارسة، فتبينوا أنه لا يصلح لهذه المهمة إلا من تحقق بالتوجه التكاملي الصحيح.
ويبدو أن التجربة المرابطية التي جمعت بين الجهاد والمجاهدة كانت حاضرة في ذهن الأيوبيين، كما كان بين أيديهم حُكم أبي بكر الطرطوشي على سيرة المغاربة؛ فهذا الفقيه الأندلسي السلفي الذي نال حظا وافرا من التربية الروحية زار المغرب وأخذ عن علمائه بفاس واطلع عن كثب على العمل الخلقي المغربي لينتهي به المطاف إلى الاستقرار بالإسكندرية حيث تعاطى للتأليف والتدريس؛ فقد كان حكم هذا العالم على أهل المغرب ـ وهو الذي ألف كتابا في البدع ـ هو أنهم ما زالوا ظاهرين على الحق بما هم عليه من التمسك بالسنة والجماعة وطهارتهم من البدع والإحداث في الدين.
وبدا لهؤلاء الحكام أن للتجربة الخلقية المغربية توجها تكامليا صريحا، يجعلها تستجيب أكثر من غيرها لغرضهم في توثيق الصلة بين التفقه والتخلق والصلة بين الجانب الروحي والجانب المادي من الجهاد.
ولما فُتِح باب العمل للمربين المغاربة، تولوا تحقيق الوصل بين التفقه والتخلق عند تلامذتهم، مبطلين عمليا الدعوى الإسماعيلية القائلة باستقلال علوم الباطن؛ وقد كان أغلبهم، وبالأخص عبد الرزاق الجزولي وعبد الرحيم القنائي وأبو الحسن الشاذلي، يحيطون بالعلوم الشرعية الظاهرة والعلوم القلبية معا، كما كانوا يتمتعون برسوخ القدم في ممارسة تدريس الفقه ورواية الحديث، فلقنوا تلامذتهم أن للشريعة وجهين متكاملين: وجها حُكميا تنضبط به الأعمال الظاهرة، ووجها خلقيا تنضبط به الأعمال القلبية، ووجَّهوهم إلى الاشتغال بعلوم الأحكام وعلوم الأعمال اشتغالا متساويا، فتخرجت على أيديهم ثلة
ممتازة من العلماء العاملين منهم؛ أبو الفقراء حجاج وعبد الرحمان بن طيب من تلامذة عبد الرزاق الجزولي، ومنهم أيضا أبو الحجاج الأقصري وأبو الحسن بن الصباغ وصالح بن غازي الأنماطي من مريدي عبد الرحيم القنائي، ومنهم أخيرا مكين الدين الأسمر وأبو القاسم القباري وابن المنير وأبو العباس المرسي من تلامذة أبي الحسن الشاذلي.
كما تولى هؤلاء المجددون تحقيق الوصل بين الاستعدادات الروحية والمادية في الجهاد؛ فقد نقلوا إلى تلامذتهم المصريين خبرتهم الأصيلة والطويلة في المرابطة الجامعة بين الممارسة الحربية والممارسة الخلقية، على اعتبار أن الأولى تنزل عندهم منزلة الفرع التابع للثانية، فجددوا قدراتهم المعنوية والوجدانية بأن مدوا عزائمهم بمدد روحي خلاَّق أنهضهم إلى التطوع وحبب إليهم التضحية والاستشهاد، ونصبوا أنفسهم قدوات لهم في هذا الصنف من الجهاد المتكامل، فشاركوهم في ما خاضوه من معارك بأن حملوا السلاح وثبَّتوا الأقدام.
ويبدو أيضا أن هؤلاء الحكام أدركوا أن للممارسة الخلقية المغربية توجها تداوليا تصير به أقدر من غيرها على التصدي للحكمة العرفانية وللتصوف الفرداني، ففتحوا الطريق لعمل المغاربة الوافدين على مصر.
ولا نستغرب، برأي صاحب الدراسة، إذ ذاك أن يجد ابن عربي وابن سبعين من بعده في مصر بيئة أخذ يشكلها التخلق التداولي الجماعي المغربي تشكيلا لم يلبثا أن ضاقا به أولم يلبث هو أن ضيق عليهما حتى اضطرا إلى النزوح عن هذا البلد كما نزحا عن المغرب من قبل ليستقر الأول بالشام والثاني بالحجاز.
لقد تولى الأيوبيون الحكم في مصر، فوجدوا أنفسهم في مواجهة المظهرين التسييسيين التاليين: أحدهما أنهم، وإن كسروا شوكة الصليبيين، لم يتمكنوا من إيقاف الحملات التبشيرية في بعض المراكز من أرض الكنانة. والثاني أنهم، وإن أنهوا الحكم السياسي للفاطميين بخلع آخر خليفة منهم، لم يتمكنوا من إيقاف تأثير المذهب الشيعي في النفوس. فاحتاج الحكام الجدد إلى القضاء على هذين المظهرين التسييسيين: التبشير والتشيع، علما بأنه لا سبيل إلى ذلك إلا بدعوة إنسانية روحية، وتبينوا أن هذه المهمة لا ينهض بها إلا من تحقق بالتوجه التأنيسي الصحيح، حتى لا تستهويه الميول السياسية ولا تراوده الأطماع الرئاسية، فينازعهم سلطانهم ويقاسمهم نفوذهم. ولا شك أن مثال الإسكندرية كان نصب أعينهم، وهم يسعون إلى إيجاد وسائل هذا التجديد الإنساني الروحي؛ فقد ظلت هذه المدينة سُنية تعمل بالمذهب المالكي على عهد الفاطميين، وتُتَّخذ محط رِحال المغاربة في ذهابهم إلى الحج وإيابهم منه، فكان واضحا أن محافظة الإسكندرية على طابعها السني واتجاهها المالكي يرجع الفضل فيه إلى هؤلاء المغاربة الذين اجتمعت لهم خبرتان تاريخيتان: إحداهما خبرة مواجهة الحكم العبيدي أثناء تسلطه على بلاد المغرب قبل أن يحوِّل وجهه إلى مصر؛ والثانية خبرة مواجهة الدعوات المنحرفة والحملات التنصيرية التي ظل يتعرض لها الغرب الإسلامي.
والغالب على الظن أن هؤلاء الحكام علموا أن للعمل المغربي توجها تأنيسيا صريحا يصير به أقدر من غيره على الوقوف في مواجهة التبشير والتشيع، فاستقبلوا رجال الأخلاق المغاربة في أرضهم ومكنوا لهم المقام فيها.
وقد استطاع هؤلاء الأخلاقيون الوافدون أن يتصدوا للدعوات التبشيرية التي كان يقوم بها الدعاة المسيحيون في المناطق القريبة من المراكز التي احتلها الصليبيون أوفي المناطق النائية من الصعيد؛ فقد تولى الأستاذ أحمد بدوي في طنطا والأستاذ عبد الرحيم القنائي في منطقة قنا تجديد الإيمان في قلوب مَن أضلتهم هذه الدعوات التنصيرية، وأشرفوا على تكوين ثلة من الرجال انتشروا في البلاد يردون الناس إلى أصول الدين الحنيف؛ فهذا أبو الحجاج الأقصري تلميذ عبد الرحيم القنائي يعيد أهل الأقصر إلى الإسلام بعد أن انسلخوا عنه لسنوات عدة.
كما اجتهد هؤلاء المجددون في أن ينزعوا من قلوب عامة المصريين الآثار العقدية التي تركها في نفوسهم المذهب الشيعي ويزرعوا بدلها محبة المذهب السني ويرسخوا العمل بالفقه المالكي بين بعضهم، مزاوجين بين أساليب التربية الروحية التي ترتكز على الأوراد والأذكار والأحزاب وبين أساليب الوعظ والتدريس التي ترتكز على الفهم والحفظ.
لقد ظهر أن تنقل أرباب السلوك المغاربة إلى مصر في القرنين السادس والسابع كان تنقلا مطلوبا باعتبار توجه أنظار المسلمين عامة والمصريين منهم خاصة إليه في هذه الفترة، وكان تنقلا مأذونا باعتبار شعور المغاربة بواجبهم نحو المسلمين عامة والمصريين منهم خاصة، كل ذلك لحصول هذا العمل المغربي على صفات تؤهله لسد حاجات المجتمع المصري من التجديد الأخلاقي.
ويخلص الباحث إلى أن أهل المغرب أمَدوا المصريين بأفضل ما يميز الثقافة الإسلامية، ما دام الإسلام هو عبارة عن مكارم الأخلاق. كما أنهم أمدوا أرض الكنانة بأخص ما يميز الثقافة الإنسانية، ما دامت “الأخلاقية” هي المقوم الذاتي للإنسان، وليست، كما يُظَن منذ أرسطو، “العقلانية المجردة”. وأن أصالة العطاء المغربي يجب أن تُطلب في المنجزات الأخلاقية أكثر مما تُطلب في سواها من الاختيارات الثقافية الأخرى، ما دام عطاء المغرب هو أبرز في جانب الأخلاق منه في أي جانب آخر.
نورالدين اليزيد عن مجلة “التاريخ العربي” بتصرف