اختلال أسس التعليم الابتدائي يضعف الإنتاج البحثي في الجامعات العربية

الرئيسية » تربية وتكوين » اختلال أسس التعليم الابتدائي يضعف الإنتاج البحثي في الجامعات العربية

اختلال أسس التعليم الابتدائي يضعف الإنتاج البحثي في الجامعات العربية

تحاول دول العالم من خلال جامعاتها ومراكز أبحاثها أن تواكب التطور الحضاري من خلال ما تنتجه من بحوث ودراسات، وتظل الدول العاجزة عن توفير إنتاج بحثي تلعب دور المستهلك الذي يبقى أسير ما يدفع له من معلومات طالما أنه عاجز على الإبداع، هذا ما يكسب الإنتاجية البحثية أهمية قصوى في التعليم العالي اليوم.

يمثّل الكمّ البحثي المنتج معيارا أساسيا في التطور المهني للأساتذة الجامعيين، وفي تصنيف الجامعات، وفي النظر إلى النظم التربوية في الدول وهو ما يكشف المركزية الأساسية للإنتاجية البحثية للجامعات ومراكز البحث. هذا ما طرحه جورج نحاس نائب رئيس جامعة البلمند في لبنان في دراسة بعنوان “التأهيل ما قبل الجامعي والإنتاجية البحثية في التعليم العالي”، نشرها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.

الإنتاج البحثي هو عملية تراكمية تقوم على تأهيل مبكر، في جوّ تربوي مميّز، وفي إطار إرادة سياسية تقوم على الحرية وتحفيز الفكر النقدي والشفافية المجتمعية التي تطلق الإبداع وتراقب النوعية. هذه العملية التراكمية المتكاملة تقوم على نقاط أساسية لا بد من توفيرها عبر مراحل التعليم، وأولها “النمائية” بمعنى النمو الفكري التدريجي عند الإنسان وما يتبعه من امتلاك متتابع لقدرات مختلفة؛ لغويّة وذهنية وتواصلية. وقد دخلت النمائية صلب المقاربة التربوية منذ منتصف القرن الماضي. لكنّنا لم نوظّف حتى اليوم أبعاد هذا التغيير الجذري ومستلزماته كما ينبغي في سياساتنا وأنظمتنا التربوية العربية.

وتلعب اللغة دورا أساسيا في العملية النمائية، لما لها من تأثير مباشر في نموّ الطاقات العقلية وتفعيل عمليات التواصل. وعموما تمثل النمائية ركيزة من ركائز تأهيل القدرات البحثية وتعزيزها؛ فلا يمكن استدراكها بصورة كافية وفعّالة في مرحلة متقدمة من مراحل التأهيل.

أما النقطة الثانية فهي البنائية بمعنى التدرّج في بناء المهارات الإدراكية، وامتلاك المعرفة، والقدرات العملية المرافقة لهاتين العمليتين. وهي تقوم على: احترام مختلف أوجه النموّ عند الإنسان لتوظيفها بما يتلاءم مع طاقاته التعبيرية، خاصة فيما يعود إلى حركيته، وخبراته المجتمعية، وطاقاته العملية، فهي جميعها تنعكس على عملية التعلّم وإجرائيتها.

وكذلك احترام التداخل بين المؤهّلات والاستفادة القصوى منها وتوظيفها في وضع إستراتيجيات عمليات التأهيل على اختلافها. واعتماد التقنيات التي تتلاءم مع الوضعيات التي يفرضها الواقع النفسي الاجتماعي من جهة، والتداخل بين المواد من جهة أخرى.

أما الركيزة الثالثة فهي النقدية وهي تكمن في القدرة على توظيف مهارات التفكير من أجل فهم الأمور في عمقها، واستيعاب ما هو أبعد من ظواهرها، وإعادة توظيف ذلك بطريقة موضوعية. وأهمّ ما في السيرورة النقدية هو جعلها جزءا لا يتجزأ من طريق تعاطي المتعلّم مع كلّ ما يطرح عليه من معلومات، وذلك عبر تعليمه حسن المشاهدة والقدرة على التحليل بصورة مستقلّة وعلى مقارنة المضامين المكتسبة مع أفكار جديدة بالإضافة إلى تمكينه من سبل التعبير عن الرأي والتواصل.

النقطة الرابعة تتمثل في المعرفية وهي امتلاك المعلومات، والمهارات العملانية العائدة لها، والطاقة الذهنية للتواصل حول مضامينها، من أجل توظيفها في خدمة الإنسان والمجتمع. فالمعرفية لا تقوم على تكديس المعلومات بل على شخصنة امتلاك المتعلم لها؛ واعتماد المعرفية كأساس في التأهيل يستدعي العمل ببعض الخصوصيات من بينها أن كلّ معلومة لا تقترن بما يرافقها من بُعد تنفيذي وتعبيري لا تقود إلى المعرفة بل تبقى سطحية وغير قابلة للتوظيف.

نقطة الارتكاز الخامسة هي التموضع وهو قراءة أي معطى معرفي في سياق موضوعي لا يصف ظاهره فقط، بل كلّ الظروف المحيطة به من مادية ومعنوية وشكلية. وتكمن أهمية التموضع في العملية البحثية عموما في تطبيق صفة الإطلاق عن كلّ ما يرتبط بالمعرفة وربط مضامينها بالسياق الذي طوّرت فيه. والتموضع هو الكفيل بخلق الأجواء الفكرية التي من شأنها أن تؤمّن الموضوعية التي من دونها لا يستقيم أيّ منحى بحثي.

وحسب الباحث فإن هذه المرتكزات تمثل مجتمعة قاعدة علمية مزدوجة؛ فهي أساس التأهيل الرصين والنوعي من جهة، كما أنّها أساس المقاربات البحثية التي تبتغي الجودة والموضوعية من جهة أخرى. ويرى النحاس أن شخصية المتعلم والباحث تتضح باكتساب المهارات نتيجة لعملية تفاعل بين المجتمع والسيرورة التربوية التي ترافق نموّه ونماءه، لذلك، فإن التأهيل المستقبلي للباحث يندرج ضمن إستراتيجية متكاملة وسياسة تربوية بعيدة المدى. وهذه العملية لا ترتجل ولا تختصر في أواخر التعليم الجامعي.

فالمرحلة الجامعية جزء من عملية متكاملة ترتكز نتيجتها على صلابة المراحل التي سبقتها. هي كالبناء الذي تعتمد صلابته على متانة أساساته. من هنا أهمية السياسة التربوية التي تعتمدها الدول، وأهمية نوعية التأهيل ما قبل الجامعي.

وخلص الباحث في دراسته إلى أن تفعيل القدرة على البحث يظل رهين المناخ التربوي وليس قرارا آنيا أو إداريا، وأن الطاقة البحثية تنمى بوصفها أسلوبا وليس تقنية، لأن الوجه التقني للبحث هو الجزء الإجرائي من عملية أكثر تعقيدا، هي عملية إنتاج المعرفة. وبناء عليه، يمكن لدراسة تحليلية ونقدية لأنظمتنا التربوية أن تبين سبب افتقارنا في عالمنا العربي اليوم، إلى المساهمة الفعّالة في إنتاج المعرفة وفي صوغ المستقبل.

ويتطلب تطوير الإنتاج البحثي في جامعات العالم العربي توفير مناخ مختلف عن الموجود اليوم ومن أبرز شروطه توعية مجتمعية وليس مدرسية فقط، ونظاما تربويا قائما على بناء الأفراد في جو من الإبداع والحرية، ونظاما جامعيا قائما على منهجية علمية صارمة بعيدا عن السياسية وهو ما لا تتيحه الجامعات الرسمية في كثير من بلداننا.

صحيفة العرب

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *