من الطبيعي أن يهتم وزراء التربية والتعليم في دول الاتحاد الأوروبي البالغ عددها 27 دولة برعاية الطفولة المبكرة التي تبدأ منذ الولادة حتى سن دخول المدرسة، وأن يبحثوا سبل تطوير الرعاية والتعليم والتربية في هذه المرحلة من العمر، لكن يبدو أن عدوى الاهتمام انتقلت أيضًا إلى السياسيين ورجال الاقتصاد وعلماء الاجتماع ووزراء العمل، حتى أن المفوضية الأوروبية أصدرت في العام الماضي مذكرة بهذا الشأن، كما أجرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)دراسات على أوضاع رعاية الطفولة المبكرة في الدول الأعضاء فيها، فهل يتحدد مستقبل العالم في رياض الأطفال؟
في مطلع القرن الحادي والعشرين أصيبت كثير من الدول الأوروبية بخيبة أمل، بعد ظهور نتائج البرنامج الدولي لاختبارات الطلبة (بيزا)، وتبين أن مستوى التعليم في هذه الدول أسوأ بكثير مما يعتقد المسؤولون، لكن النتيجة الأخطر كانت العلاقة الطردية بين المستوى الاجتماعي والمادي لأسرة الطفل، وبين المستوى التعليمي له مستقبلاً، وكأن الفقر يجلب معه أيضًا ضعف المستوى العلمي، بل وربما الفشل في الدراسة، وينذر بمستقبل مظلم لهذا الإنسان، فالبطالة مصيره، وبالتالي فهو الأقرب للجريمة.
تعالت الأصوات المطالبة بالمزيد من العدالة، وبضرورة الأخذ بيد أطفال عائلات الطبقات الدنيا من المجتمع، وغالبيتهم من المهاجرين، للحصول على حقهم في الرعاية والتربية في السنوات الأولى من أعمارهم، بحيث لا يتقرر مستقبلهم، قبل أن يلتحقوا بالمدرسة، ونبهت دراسات علمية كثيرة إلى أن تكاليف إصلاح الخلل بعد دخولهم المدرسة، يفوق بكثير الميزانيات المخصصة لمرحلة الطفولة المبكرة.
وفي ظل تراجع أعداد مواليد المواطنين الأصليين في كثير من الدول الأوروبية، مقابل زيادة أعداد المواليد بين المهاجرين، وفي ظل نقص القوى العاملة المؤهلة، فإن فشل الطفل في التعليم، لا يشكل قضية شخصية، ومشكلة عائلية فقط، بل يعني أن هذا الإنسان لن يكون عنصرًا نافعًا للمجتمع بأسره، لن يعمل وينتج، ولن يدفع الضرائب ولن يسهم في التأمينات الاجتماعية، بل سيحصل على معونات اجتماعية، تقتطعها له الدولة، مما يدفعه الآخرون من ضرائبهم، وهو الأمر الذي دفع مسؤولاً كبيرًا في البنك المركزي الألماني، ووزيرًا سابقًا للمالية في ولاية برلين، اسمه تيلوساراتسين، لأن يتهم المهاجرين من الأتراك والعرب، بأنهم يتسببون في تردى مستقبل ألمانيا، وأيدت الغالبية آراءه العنصرية.
من يرعى الطفل؟
إذا كانت إجازة الأمومة التي تحصل عليها الموظفة في بعض الدول لا تزيد عن شهرين، فإن ذلك يعني أنها ستكون بعد انقضاء هذه الفترة أمام خيارين: إما أن تبقى في البيت لرعاية طفلها، أو أن تعود إلى العمل، وتبحث عمن يرعى طفلها الرضيع، وفي حين كانت الجدة في الماضي، هي الأم البديلة في كثير من الحالات، أصبحت الآن الخادمة هي البديل المتوفر، وهو الأسوأ بلا شك.
توجد في الدول الأوروبية مؤسسات تستقبل الأطفال من عمر شهرين وحتى سن ثلاث سنوات، أي قبل الانتقال إلى الروضة، ويبقى الطفل هناك طوال وقت دوام الأم في العمل، وهناك تشريعات أوروبية تسمح للأب بأن يحصل على عطلة للتفرغ لرعاية الطفل، مثل الأم تمامًا، إذا قرر الوالدان ذلك، بسبب ارتفاع راتب الأم، أو رغبة الأب في ترك عمله لفترة، يقضيها مع الرضيع.
وهناك سيدات قررن أن ينشئن حضانات خاصة في بيوتهن، بحيث تستطيع الأم العاملة أو الأم أن تتفرغ بعض الوقت لتنظيف المنزل، وتجهيز الطعام، أو شراء الاحتياجات المنزلية، أو تريد ببساطة أن تتخلص من رضيعها بعض الوقت، لتستريح من صراخه وحاجته المستمرة لمن يطعمه أو يسقيه أو يغير له ملابسه، أو أي طلبات أخرى.
وقد شهدت ألمانيا بعد عودة وحدتها تجربة مثيرة، ففي شطرها الشرقي، الذي كان يحمل اسم جمهورية ألمانيا الديمقراطية، كانت الشيوعية هي أيدولوجية الدولة، وكانت الأمهات كلهن تقريبًا عاملات وموظفات، وكان الأطفال كلهم في كنف مؤسسات الدولة، في حضانات تابعة للجهة التي تعمل الأم فيها، فتصنع الدولة من هؤلاء الأطفال الصغار مواطنين يؤمنون بمبادئها، ويسيرون على النهج الذي تريده لهم، أما الشطر الغربي من ألمانيا، الذي كان يتبنى الفكر الرأسمالي، فإنه لم يكن يتدخل في عمل رياض الأطفال والحضانات، التي يتبع كثير منها الكنائس، أو الجمعيات الخاصة، أو حضانات تتبنى نظريات تربوية معينة، مثل حضانات مونتيسوري، أو حضانات أجنبية.وبعد أن اتحدت ألمانيا، نشأ نظام جديد، حاول التوفيق بين النظامين.
ويمكن إجمالاً القول بأن البعض يرى أن الرعاية تتمثل في وجود أي شخص بالقرب من الرضيع، مثل الجدة أو الخادمة أو صاحبة الروضة الخاصة في بيتها، حتى ولو لم تكن مؤهلة للقيام بذلك، وهناك من يفهم الرعاية بمعنى تسليم الرضيع إلى الدولة، لتفعل به ما ترى فيه صالحه وصالح الوطن، كما هو الحال حتى اليوم في الصين وفي كوريا الشمالية وفي غيرهما من الدول الشيوعية.
المفهوم الشامل للرعاية
إذا كنا قد أشرنا إلى العواقب الوخيمة للفقر على الطفل، وعلى مستقبله التعليمي، بل وعلى مجتمعه بأسره، فإن غالبية الناس يفهمون الفقر بمعنى نقص المال أو العوز، لكن القضية ليست شراء الملابس الغالية من أفخر المتاجر، أو الحصول على الملابس المستعملة من الأصدقاء. ومع الاعتراف بأن البيت الكبير الذي تحيط به حديقة، ويستطيع الطفل أن يجري فيه ويلعب، وأن يشاهد الورود والرياحين، ويسمع العصافير والبلابل، غير الشقة الضيقة، الواقعة في القبو، والتي لا تدخلها الشمس، ولا يتجدد فيها الهواء، لكن الفقر الأكثر خطرًا، هو فقر المشاعر، حين لا يلمس الطفل اهتمامًا به ممن حوله، ولا يجد من يتواصل معه طوال الوقت.
يشعر الرضيع بحب والديه، يدرك معنى الابتسامة في وجهه، والمسح على رأسه، وغناء الأم له، وحديث الأب معه بحنان وعطف، وقد توصلت دراسة لجامعة شيكاغو إلى أن الحصيلة اللغوية لأطفال الأمهات اللاتي يتحدثن كثيرًا، تزيد بمعدل 131 كلمة عن أقرانهم، في سن العشرين شهرًا، ويزيد الفرق بين المجموعتين بعد أربعة أشهر ليصل إلى 295 كلمة، وتظل هذه الهوة في اتساع عامًا بعد عام في غالبية الأحوال، إلا إذا ظهر في حياتهم شخص آخر، يسعى لمواجهة هذه المشكلة.
ليس الفقر نفسه هو المشكلة، لكن كثيرًا من الأسر التي تعاني من مشاكل مالية، لا تفكر في البحث عن ألعاب تعليمية، ذات أهداف تربوية وتعليمية، ولا تجد المال الكافي لتدريب أطفالها على السباحة، أو ممارسة أي نوع من الرياضة، والتي لا تفيد الجسم فقط، بل تساعد في اكتساب الطفل من خلالها مهارات اجتماعية هامة، مثل عدم الأنانية، والانتماء للجامعة، واحترام القواعد والأنظمة، وعدم اللجوء للعنف.
ويقول عالم النفس الأمريكي إريك توركهايمر إن الذكاء قد يكون وراثيًا، لكن الأطفال المظلومين لا يجدون من يكتشف قدراتهم، ولا أقصى ما يملكون من إمكانيات، ولو كانت الظروف المتاحة لهم أفضل لبرزت قدراتهم. ولنا أن نتخيل مستقبل الموسيقار العالمي فولفجانج أماديوس موتسارت، لو لم يجد آلات موسيقية في طفولته.
إن نقص الوعي عند الوالدين، هو الذي يدفعهما لوضع الطفل أمام التلفاز، ليشاهد برامج الأطفال، التي تنشر التخلف العقلي في غالبية الأحوال مثل (تيليتابيز) أو (سبونج بوب)، أو التي ترسخ الروح العدوانية، والضرب طوال الوقت بدون سبب مثل (توم وجيري)، والأهم من ذلك أن هذا الجهاز لا يستطيع أن يحتضن الطفل، ولا أن يرد على أسئلته، ولا يستمع إليه، ولا يناقشه فيما يرى.
ولنا أن نتخيل الفرق بين هذا الطفل، وبين طفل آخر تقرأ له أمه من كتاب مخصص للأطفال في السنة الأولى أو الثانية من عمرهم، وهي كتب مصنوعة من القماش أو الكرتون المقوى، وألوانها جميلة، ولا تحتوي على مكونات قابلة للبلع أو أي مواد خطيرة، وتشير الأم إلى الصور بأصبعها فينظر الطفل، وتتحدث عن كل صورة، فيستمع الطفل، وربما جذب الكتاب منها، فتضحك معه، ليشعر بأهميته، وبأنه قادر على تسلية من حوله، ثم تقدم له الورق والألوان المناسبة لعمره، ليرسم ما يشاء، فيشعر بالسعادة، وتصفق له، فيزهو بنفسه.
العالمة الأمريكية أليسون جوبنيك المتخصصة في أبحاث الطفولة المبكرة، والتي أصدرت كتابا بعنوان (روح الاكتشاف في الحفَّاظة)، عام 1999م، وكتابا آخر بعنوان (الفلاسفة الصغار) عام 2009م، كتبت ما يلي: «الأطفال باحثون ومراقبون ومنصتون ومقلدون ومفكرون، وقبل أن يبدأ الطفل في الكلام بفترة طويلة، ناهيك عن الكتابة في المدرسة، فإنه يستطيع أن يفرِّق بين الجملة الصحيحة من الناحية النحوية، وبين الجملة التي تحتوي على أخطاء»، وتضيف في موضع آخر: «إن عدم تنمية قدرات الأطفال في هذا السن يشكل خسارة فادحة، فالطفل الذي لا يجد من يقرأ له، لا يتعلم حب القراءة، والطفل الذي لا يجد من يجيب على أسئلته، يتوقف عن طرح الأسئلة، والطفل الذي لا يجد من يحاوره، والرد على الحجة بالحجة، لن يتعلم فن النقاش».
أما الأب الذي يرفض أن يستمع إلى طفله، ويفضل أن يتحدث مع أصدقائه في الهاتف، أو أن يشاهد التلفاز أو أن يتصفح المواقع في الإنترنت، والأب الذي يصرخ على ابنه الصغير أو يضربه، لأنه أراد أن يحظىباهتمامه، فجذبه من ثوبه، لا ينبغي أن يستغرب من الجفاء الذي ساد بينهما بعد ذلك، فكما يمكن للوالدين أن يضعا بذرة الحب بينهما وبين طفلهما منذ اللحظة الأولى للولادة، فإنهما قادران على أن يبدأ الجفاء من نفس اللحظة.
في البيت أم في الروضة؟
إذا أردنا أن نسمي الأشياء باسمها، فإن الدافع الأول لهذا الحماس الأوروبي المبالغ فيه بالطفولة المبكرة، ينطلق من دوافع اقتصادية، فإذا كانت الإحصائيات تشير إلى أن واحدا من بين كل ستة أطفال، داخل دول الاتحاد الأوروبي، ينشأ في أسرة تعيش تحت خط الفقر، وإذا لم تكن هذه الدول قادرة على النهوض بالمستوى المعيشي لكل هؤلاء الملايين، فإن الحل الأسهل هو إنقاذ الأطفال الصغار، فهم أقل عددًا، وأكثر تأثيرًا على المستقبل.
وإذا كانت الإحصائيات الأمريكية قد توصلت إلى أن كل دولار تستثمره الدولة في رعاية الطفولة المبكرة، يعود عليها بعائد يصل إلى 11 دولارًا في المستقبل، فإن الاتحاد الأوروبي توصل إلى أن كل يورو يعود عليه بحوالي 7 يورو.
يمكن أن يتعلم الطفل في الروضة الكثير من المهارات، خاصة وأن هناك إجماعًا بين وزراء التعليم في دول الاتحاد الأوروبي على الارتقاء بمستوى تأهيل المربين والمربيات في مؤسسات رعاية الطفولة المبكرة، وتشترط بعض الدول ألا تزيد نسبة الأطفال إلى المربي عن ستة إلى واحد، إذا كانت أعمارهم تتراوح بين سنة واحدة وثلاث سنوات، ولا تزيد نسبتهم عن 10 أطفال،للفئة العمرية من 3 – 6 سنوات، مثلما هو الحال في الدنمارك.
وحتى يتحقق مبدأ العدالة قدر الإمكان، فإن الرسوم التي يدفعها الوالدان مقابل إلحاق طفلهما بالروضة أو بالحضانة، تتحدد قيمتها تبعًا لدخلهما، فإذا كان دخلهما مرتفعًا، كانت الرسوم الشهرية مرتفعة، وإذا كان دخلهما ضعيفًا، فإن الرسوم تكون منخفضة، ويتلقى جميع الأطفال نفس الرعاية والاهتمام، بل إن أطفال العائلات المهاجرة يحصلون على رعاية أكبر، حرصا على إتقانهم اللغة، التي لا يستخدمها الوالدان في حديثهما، ولا يسمعها الأطفال في البيت أبدًا.
إلا أن الكثير من المهاجرين وبقية أفراد الطبقة الدنيا في المجتمعات الأوروبية، يحجمون عن إلحاق الأطفال في الحضانة أو الروضة، معللين ذلك باستنكارهم أن تكون الدراسة في جميع المراحل التعليمية من المدرسة الابتدائية حتى الجامعة مجانًا، في حين تكون أهم مراحل الحياة مقابل رسوم، يقتطعونها من دخلهم الضئيل، أو من المساعدات الاجتماعية التي يحصلون عليها، ويؤدي هذا الإحجام إلى عدم قدرة الدولة على الوصول إلى أطفالهم، ومعالجة القصور في تأهيلهم للتعليم المدرسي.
وللصدق أيضًا لا بد من ذكر أن هناك أصواتًا في أوروبا ترفض التركيز على الجانب الاقتصادي، وتستنكر السعي لإلحاق الأطفال من عمر شهرين بمؤسسات الرعاية بعيدا عن البيت، ويحذر علماء الطب الاجتماعي (Social Pediatrics)، من العواقب الوخيمة على الأطفال من جراء فصلهم في سن مبكرة عن والديهم، وتعرضهم للضغوط النفسية في سن مبكرة، وحاجة الأطفال أولاً إلى القرب من الأشخاص المحوريين في حياتهم، وخاصة الأم، قبل التواصل المكثف مع أشخاص إضافيين، وينبهون إلى أن هذا الطفل، ربما يكون قادرًا على التعلم بصورة أفضل، لكنه سيكون أكثر عرضة للأمراض النفسية.
وتوصل العالم الألماني راينر بوم، مدير معهد طب الأطفال الاجتماعي في مدينة بيليفلد، إلى أن الأطفال الذين قضوا أوقاتًا طويلة في طفولتهم المبكرة في رياض الأطفال، هم الأكثر ميلاً للشجار والصراخ والاعتداء على الأثاث، والكذب ومضايقة الآخرين، والوقاحة، وعدم الانصياع لتوجيهات المعلم، حتى إذا بلغوا سن الخامسة عشرة، كانوا أكثر ميلاً لإدمان الكحول والمخدرات والتدخين واستخدام السلاح والسرقة والتخريب.
ويقترح بعض علماء طب الأطفال الاجتماعي التركيز على (البديل الأفضل) – حسب رأيهم – وهو توفير مربيات متخصصات في الطفولة المبكرة، تقوم الواحدة منهن بزيارات منتظمة للأم الشابة، حديثة العهد بالأطفال، لتساعدها في تعلم مبادئ الرعاية، وتلقنها الممارسات التربوية، على أن تستمر هذه الدورة لمدة عام على الأقل، حتى تتأكد من تعلم الأم كيفية إقامة علاقة وطيدة مع الرضيع، وطرق تنمية قدراته، والتمارين المفيدة للحركة والمشي، وكيفية تعريفه بالعالم المحيط، وكل ما تحتاج الأم له في التربية.
علاوة على ذلك فإن هناك مراكز لرعاية الأسرة، تحتوي على رياض أطفال، وتركز على التنسيق الدائم بين الوالدين والمربيات في الروضة، بشرط عدم اعتماد اليوم الكامل للأطفال في أي مرحلة، ويتمكن الجانبان من خلال هذا التواصل المستمر، من التحضير الجيد للأطفال للالتحاق بالصف الأول الابتدائي.
بين الماضي والمستقبل
في نهاية القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر تسببت الثورة الصناعية في انتشار الفقر الجماعي في كثير من الدول الأوروبية، حين غادر الكثير من الرجال قراهم، واتجهوا إلى المدينة للعمل في المصانع، ولحقت بهم النساء في العمل، ولم يجد الأطفال من يهتم بهم، فأنشأت الدول حضانات لتوفير مأوى لهؤلاء الأطفال، يجدون فيه الدفء والطعام، ولم يكن لهذه المؤسسات أهداف تعليمية.
وفي نفس الفترة تقريبارأت الطبقة الراقية من المجتمعات الأوروبية، أن تلحق أطفالها بحضانات تتبنى نظريات تربوية حديثة آنذاك، وحرصت على الفصل بين أطفالها، وبين أطفال الطبقة العاملة الكادحة، ومنذ ذلك الحين بدأ النقاش عما إذا كان الأفضل أن تتبع دور الحضانة لوزارة التربية والتعليم، باعتبارها مرحلة هامة في العملية التعليمية، أم تتبع لوزارة الشؤون الاجتماعية، ومؤسسات رعاية الأطفال والشباب، باعتبارها تقدم خدمة اجتماعية، تركز على الرعاية لا التعليم.
وتأرجحت على مر التاريخ الآراء حول هذا السؤال الهام، وقامت حكومات بضمها إلى وزارة التعليم، ثم عادت وفصلتها عنها، ويرجح ذلك التردد إلى حرص الدول على أن تبقى الطفولة المبكرة شأنًا خاصًا بالوالدين، وأن يظل القرار لهما في هذه المرحلة السابقة لإلزامية التعليم، وفي المقابل تريد الدول أن تضع معايير جودة للتعليم في هذه المرحلة، حتى ينعكس الوقت الذي يقضيه الأطفال في رياض الأطفال والحضانات، بصورة إيجابية على مستقبلهم.
وهناك اختلاف بين الدول الأوربية في سن الالتحاق بالمدارس، فيبدأ مثلاً في بريطانيا وايرلندا في سن خمس سنوات، وفي غالبية الدول في سن ست سنوات، وفي ألمانيا وخمس دول أخرى يتسبب شرط إتمام الطفل عمر ست سنوات قبل تاريخ 30 يونيو، في تأخر الكثيرين عن الالتحاق بالمدرسة في هذا السن، وهناك دول أخرى مثل بولندا والدنمارك والسويد وفنلندا، يبدأ فيها التعليم الابتدائي من سن سبع سنوات، وإن كان بعضها يجعل السنة التحضيرية إلزامية، مثلما هو الحال في بولندا.
إلا أن هناك إجماعًا أوروبيًا على أن تصل نسبة الأطفال الملتحقين بالروضة في سن الرابعة إلى 95 في المائة، في موعد أقصاه عام 2020م، سواء كانت هذه الروضة مستقلة بذاتها، أم كانت تابعة للمدرسة الابتدائية، وعلى ضرورة التنسيق الوثيق مع الوالدين، وبين الحضانة والمدرسة.
لكن بقي سؤال هام: إذا كان مصير أطفال الطبقة الاجتماعية المتواضعة في الدول الأوروبية الأكثر تقدمًا، محكومًا سلفًا، حتى من قبل أن يلتحقوا بالمدرسة، ويظل ابن الفقير فقيرًا، فهل تنطبق نفس هذه القاعدة على الدول؟ أي هل يرتبط مستقبل أطفال العالم الثالث بجذورهم، لأنهم لا يجدون من ينفق عليهم مثلما تنفق الدول الصناعية على أطفالها؟
أعتقد أن الإجابة على هذا السؤال مرهونة بالجهود التي تبذلها كل دولة في رعاية الطفولة المبكرة، بشرط الحفاظ على هويتها وتراثها، فالطريق إلى العالم الأول، ليس بالضرورة بالسير على درب الآخرين.
نيتر شنايدت / المعرفة