المجتمع المدني: قراءة في المسار التاريخي للمفهوم - 3

الرئيسية » الأعمدة » تأملات فكرية » المجتمع المدني: قراءة في المسار التاريخي للمفهوم – 3

يعود ظهور مسألة المجتمع المدني وعلاقته بالدولة إلى أواخر القرن الثامن عشر، وظلت هذه المسألة تستأثر بالاهتمام طيلة النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ثم عادت لتختفي من التداول حوالي قرن كامل. وقد عادت، مرة أخرى، في الثلث الأخير من القرن العشرين لتحتل صدارة النقاش السياسي، بخاصة بعد انهيار التجربة الاشتراكية ونموذجها الشمولي، وما ترتب عن ذلك من سيادة متنامية للنموذج الليبرالي التعددي.

لقد عاد المجتمع المدني إلى الظهور في النظرية السياسية الغربية بعد غياب طويل، وذلك لتأطير معطيات تمرد المجتمع المدني ضد الدولة الاشتراكية ووضع هذه المعطيات في مفاهيم نظرية، وبخاصة بعد تحدي حركة التضامن العمالية للنظام الاشتراكي في بولندا في نهاية السبعينات.

ورغم أن إعادة مفهوم المجتمع المدني قد تمت في سياق أوربا الشرقية؛ فإن استيعابها نظريا في المرحلة الراهنة تم في أوربا الغربية وأمريكا، اللتين تشهدان نقاشا مستمرا لا ينقطع حول المفهوم، مواكبة لحركة كثيفة لمؤسسات المجتمع المدني المتمثلة أساسا في الثورة الثقافية، وحركات الحفاظ على البيئة، والحركات النسوية، وحركات السلام، والمبادرات المحلية للمواطنين في قضايا الصحة والبيئة، والتخطيط المدني والاجتماعي؛ على أساس ثورة شاملة في قوة الإنتاج أدت إلى توسيع الطبقات الوسطى والمثقفين والتكنوقراط والعمال الفنيين.

وكل هذا في مواجهة مع البيروقراطية من ناحية، ومع قوى اقتصاد السوق المندفعة نحو الربح من الناحية الأخرى. ولذلك نشأ حيز عام على مسافة نسبية تفصله عن منطق وآليات السلطة ومنطق وآليات الربح، ولكنه، مع ذلك، يرتبط بعلاقة جدلية مع الدولة والسوق؛ أي أنه غير منفصل كليا عن العملية السياسية.

لقد نشأ حيز سياسي اجتماعي عام متميز من آلية كل من السلطة والسوق، ولكنه ليس جزءا من الحيز الخاص، كما أنه ليس مجرد مجموع حسابي لمفردات ومكونات الحيز الخاص. وهذا الحيز العام هو القطاع الاجتماعي السياسي الذي يعبر عنه المجتمع المدني بمعناه الضيق.

كان الاهتمام بالمجتمع المدني قويا في بلدان أوربا الشرقية بعد أن فتحت سياسة جورباتشوف لدى جيل المفكرين الماركسيين المجددين أبواب الأمل في بناء مجتمعات مدنية جديدة، وتمت في المرحلة نفسها العودة إلى المفهوم في بلدان أمريكا اللاتينية تحت حكم الجنرالات، وفي العالم العربي بعد هزيمة 1967، وانكشاف عيوب النظم العسكرية والشمولية.

وتذهب أغلب الدراسات إلى أن مفهوم “المجتمع المدني” مفهوم دخيل على تراث الفكر السياسي العربي الإسلامي، حيث لم يبرز في الخطاب السياسي العربي إلا في العقود الأخيرة، واتسم عند ظهوره بقدر غير يسير من الغموض والتوظيف الأيديولوجي.

كما لا نجد ذكرا للمفهوم في أدبيات الفكر الإصلاحي العربي الإسلامي في القرن التاسع عشر إلى جانب مفاهيم غربية أخرى كالوطن والدستور والانتخابات والديمقراطية، برغم أن المفهوم كان في طليعة الموضوعات السياسية والفكرية التي شغلت النخبة الأوربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بصفة خاصة. وإن كان هذا لا يمنع من محاولة التأصيل للمفهوم بما هو معطى موضوعي في التجربة التاريخية العربية الإسلامية، وهو ما نجده في كتابات وجيه كوثراني، وفهمي هويدى، وسيف الدين عبد الفتاح إسماعيل، ومحمد عمارة، وطارق البشرى…وهي محاولة لا تخلو من صعوبات منهجية إسقاطية ومن اختلاطات بين المدني والأهلي، ومن ردود فعل أيديولوجية دفاعية.

ومن ثم فإن الدارس الذي يروم قراءة المفهوم عبر مراحله التاريخية المختلفة وسياقاته الفكرية والأيديولوجية، سواء تمت القراءة ضمن الفضاء العربي الاسلامي، أو الفضاء الغربي ـ فإنه يقف على حقيقة جلية، ألا وهي ضرورة تنزيل المفهوم في إطار سياقه التاريخي؛ الثقافي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي…

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *