الأصول النظرية لمفهوم الدولة المدنية - 3

الرئيسية » الأعمدة » تأملات فكرية » الأصول النظرية لمفهوم الدولة المدنية – 3

فمع أن الحالة الطبيعية حالة مطبوعة بالحرية، إلا أنها تنأى عن كل معاني الإباحية؛ فالإنسان في هذه الحالة “يتمتع بحرية التصرف بشخصه وممتلكاته، إلا أنه لا يتمتع بحرية القضاء على حياته، بل حتى على حياة المخلوقات التي يملكها، ما لم يستدع ذلك غرض أشرف من مجرد المحافظة عليها. فللحالة الطبيعية قانون طبيعي يخضع له الجميع. وما ذلك القانون إلا العقل الذي “يعلم البشر جميعا، لو استشاروه، إنهم جميعا متساوون وأحرار”.

فالمجرم، إذ يخرق القانون الطبيعي، “يكون كمن أعلن أنه يرتبط بقاعدة غير قاعدة العقل والعدالة العامين، وهي القاعدة التي وضعها الله معيارا لأعمال البشر من أجل سلامتهم جميعا. وعندها يصبح خطرا على البشر: إذ يكون قد امتهن الرابطة التي كان من شأنها أن تكف عنهم الأذى والعدوان وفصمها”، ومع ذلك، “يعاقب كل جرم بمقدار من العنف يكفي لإقناع مقترفه أن الجرم تجارة خاسرة، ويحمله على التوبة، ويردع الآخرين عن اقتراف جرم مثله”.

ومن جهة أخرى، يسلم “جون لوك” بأن الحكم المدني هو العلاج الأصيل لآفات “الحالة الطبيعية”؛ وهي آفات جسيمة حقا في تلك القضايا التي يكون فيها المرء خصما وحكما في الوقت ذاته.

وإذا كان الحكم المدني لا يمكن تصوره، كما سلفت الإشارة، إلا من خلال الاتفاق والتعاقد، إلا أنه ليس تعاقدا كما اتفق، وإنما تعاقد على تأليف جماعة واحدة وكيان سياسي واحد. بحيث “قد يتعاهد الناس ويتعاقدون على غير ذلك وهم ما يزالون في الحالة الطبيعية” (ص144-145). 

وبمقتضى هذا التعاقد يتم الحد من الحرية الطبيعية التي تفيد، من وجهة نظر “جون لوك” “الاستقلال عن كل سلطة عدا القانون الطبيعي”، كما تفيد “التحرر من عسف الآخرين وعدوانهم”، وهو ما لا يمكن تصوره في غياب القانون، ولذلك ينفي، بشدة، الزعم بأن الحرية تعني “حرية كل امرئ أن يفعل ما يشاء”؛ إذ من أين لأي امرئ أن يكون حرا، إذا كان بوسع كل فرد أن يتسلط عليه متى طاب له؟ وإن الحرية إلا حرية المرء في الاستقلال بشخصه وأفعاله ومقتنياته وسائر ممتلكاته، ضمن نطاق القوانين التي سنت من أجله، وتدبيرها كما شاء، بحيث لا يخضع لإرادة أي إنسان متجبر، بل لإرادته هو وحسب” (ص170).

لا يستبعد جون لوك تصور مجتمع أو تخيله دون وجود الدولة، فالتجرد من الدولة لا يجعلنا بالضرورة نعيش حالة فوضى، بل سيبقى العقل والأخلاق ويبقى المجتمع والحالة الطبيعية. فالحالة الطبيعية عند لوك هي المجتمع المتخيل دون دولة، أما المجتمع المدني فيطلقه على الحالة السياسية: أي على الدولة أو المجتمع المنظم سياسيا.

يتمثل إسهام لوك الأساسي في تصوره للمجتمع ككيان منظم قائم على التبادل بين البشر؛ مجتمع يعيد إنتاج ذاته تلقائيا دون دولة. وبهذا التمييز جعل لوك المجتمع مصدر شرعية الدولة، وجعله قادرا على مراقبتها وعزلها.

وفي هذا السياق نجده يميز بين المجتمع والدولة، ولكن هذا التمييز في النهاية هو تمييز بين المجتمع والسياسة. علما أن المجتمع كما يتصوره لوك خارج الدولة، يعد مجتمعا اقتصاديا غير سياسي (لا دولة) ويفتح هذا النموذج الباب للتفكير في:

  • تصور المجتمع المدني بما هو اقتصاد مسير ذاتيا.
  • تطور يوتوبيات معادية للسياسة تصور مجتمعا مدنيا دون دولة، بما هي بديل من الدولة وخارج عنها، وذلك كما في حالة توماس بين (Thomas Paine).
شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *