يُسلمون على بعضهم

الرئيسية » الأعمدة » أوراق » يُسلمون على بعضهم

في التراث الشعري العربي القديم والحديث مخزون كبير لما يسمى بقصيدة الرثاء. تشكل هذه القصيدة أحد ركنين أغنيا الشعر العربي عبر قرون ومنحانا أفضل ما تمنح الثقافة الشعرية لأبنائها. قصيدة المدح التي كانت تقربا إلى الأحياء، وقصيدة الرثاء التي كانت تقربا إلى الأموات، بمعنى من المعاني. ولو لم يكن هناك شيء إسمه المديح ما عرفنا شاعرا إسمه المتنبي، كما لو لم يكن في الشعر ما يسمى الرثاء ما عرفنا امرأة اسمها الخنساء. المتنبي كان يجري وراء الدنيا ولا ينظر إلى الخلف فكثر عنده المديح، والخنساء كرهت الدنيا وأصبحت تنظر إلى الماضي حزنا فزاد لديها الرثاء.

ولكن الشيء العجيب في”ديوان المراثي” الحديث هو تلك السلسلة المتلاحقة من المراثي التي تعاقبها الشعراء تبعا، الواحد بعد الآخر، فكأن الأول يرثي الثاني لكي يأتي من يرثيه من بعده، فكأننا أمام شعراء ينظر بعضهم إلى بعض ويسلمون على بعضهم وهم يتبادلون الرثاء.

وأقف هنا على سلسلة تجمع أربعة من كبار شعراء العربية في العصر الحديث.

قال حافظ إبراهيم يرثي محمود سامي البارودي:

ردو علي بياني بعد مُحود

إني عييت وأعيا الشعر مجهودي

ما للبلاغة غضبى لا تطاوعني؟

وما لحبل القوافي غير ممدود؟

ضنت سكوتي صفحا عن مودته

فأسلمتني إلى هم  وتسهيد

لبيك يا مؤنس الموتى وموحشنا

يا فارس الشعر و الهيجاء والجود

وعندما توفي حافظ رثاء أحمد شوقي، أمير الشعراء قائلا:

قــد كـنتُ أُوثـرُ أَن تقـولَ رِثـائي 

يا منصف الموتى من الأحياء

لكن سبقت، وكل طول سلامة

قدر، وكل منية بقضاء

الحق نادى فاستجبت ولم تزل

بالحق تحفل عند كل نداء

أما شوقي، فقد رثاه محمد مهدي الجواهري، شاعر العصر، بعد وفاته قائلا:

طوى الموت رب القوافي الغرر

وأصبح شوقي رهين الحفر

وألقي ذاك التراث العظيم

لثقل التراب وضغط الحجر

وجئنا نعزي به الحاضرين

كأن لم يكن أمس فيمن حضر.

أما الجواهري، فقد كان حظه أن يعيش في مرحلة خريف الشعر العربي، لذلك لم يجد شاعرا في مستواه يرثيه، كما رثى هو الكثيرين قبله. 

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *