نظرات في المسألة الثقافية - 3

الرئيسية » الأعمدة » تأملات فكرية » نظرات في المسألة الثقافية – 3

– في مواجهة الداروينية الثقافية –

أستميح زوار وقراء موقع “مسارات” المحترمين عذرا في أن أعود بهم إلى استئناف القول في المسألة الثقافية، انطلاقا من مؤلف “العولمة والممانعة: دراسات في المسألة الثقافية” للأستاذ عبد الإله بلقزيز الذي ينفي أن يستبطن توظيف مفهوم الأمن الثقافي لتوصيف أحوال الصراع الثقافي على الصعيد الكوني، أو لتحليل آليته وديناميته، أي ضرب من أضرب الدفاع، بقدر ما هو محاولة مفاهيمية لفهم حالة العلاقة المضطربة اليوم بين الثقافات. رغم إقراره أن النزوع الدفاعي يعبر عن ميكانيزم “طبيعي” وموضوعي في الوجود الإنساني؛ بمقتضاه يتعين توليد طاقة دفاعية في “مواجهة قوة غاشمة تتخلى عن أن تكون مصدر إلهام وإعجاب لتصبح مصدر عدوان.”

لما كانت الثقافة والفعل الثقافي لا يعبران عن مجرد معطى فوقيا منبت الصلة عن محددات السياق الحضاري والتاريخي العام في أبعاده الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وإنما يعبران عن ارتباطات وعلائق عميقة الغور في بنية المجتمعات، فإن المؤلف لا يرى من معنى “للركون إلى الاعتقاد الساذج بوجوب تحييد الثقافات عن صراعات الدول والسياسات والمصالح على مثال ما يذهب إليه المعترضة على مقولة الأمن الثقافي”، كما لا يرى من معنى للدفاع عن الانفتاح والتثاقف من جانب واحد والظن بأن الآخر يبادلنا الموقف عينه. مستخلصا أن النظر إلى المسألة بهذا الشكل من الاستسهال يعبر عن جهل بمعنى الثقافة والنظام الثقافي في صلتهما الوطيدة والمركبة بالمجتمع والتاريخ والذاكرة ونسق القيم.

وفي هذا السياق عادة ما يتم استحضار فرنسا التي تزعمت في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي معركة ضارية في مواجهة التحدي العولمي من أجل “الاستثناء الثقافي”؛ أي استثناء “السلع” الثقافية من أحكام تحرير التجارة الدولية.

وإذا ما علمنا ما تتميز به “المنتوجات” الثقافية الفرنسية من جودة وجاذبية عالية، وما يتميز به المجتمع الفرنسي باعتباره مجتمع إبداع وفورة فكرية وثقافية، علمنا من باب أولى؛ أن الدول النامية وفي صدارتها الدول العربية والإسلامية، أحق من يتمسك بمقتضيات هذا المبدأ، أقصد مبدأ “الاستثناء الثقافي”.

وفي هذا المعنى يقول المؤلف في نص دال: “وما ظننا بفرنسا أنها بلد متزمت وشعبه محافظ متمسك بالتراث، ولا بأن الذين يحكمونها سلفيون. فهي مجتمع الثورات الفكرية والثقافية بامتياز، والذين كانوا على رأس السلطة فيها، في ذلك الحين، هم أهل اليسار (الاشتراكيون). ومع ذلك، كانت تعطي غيرها –ممن لا يفهم- درسا في معنى الأمن الثقافي كمورد حيوي من موارد الأمن القومي الاستراتيجي.”

غير أن المؤلف يشدد على أن تفهم الأسباب التي تدعو ثقافة من الثقافات إلى اللجوء إلى الدفاع عن النفس في واقع دولي محكوم بما عبر عنه بـ “الداروينية الثقافية”، ليس يعفي من الحاجة إلى التفكير في العواقب التي يرتبها ذلك الدفاع على تلك الثقافة في المحصلة النهائية.

صحيح أن هذه الداروينية الثقافية، التي أطلقتها حقبة العولمة، استنفرت موجات متتالية من الدفاع الثقافي الذاتي بدت موضوعية إلى حد بعيد. غير “أن وجه الإعضال في الممانعات الثقافية الجارية، وفي جملتها الممانعة الثقافية العربية، أنها سلكت مسالك لا تبدو كفيلة بإنجاح مسعاها الدفاعي أو إنها قد تأخذها إلى أوضاع لا تقل كارثية عن وضع الاستضعاف الذي تعيشه. إذ بسبب من أن العدوان الثقافي المعولم أتى ضاربا وعنيفا، اندفعت ممانعات عربية إلى الرد عليه بأساليب في غاية العقم والخطورة  على مستقبل الثقافة..”

فبدلا من أن يأخذ الدفاع منحى إيجابيا ومتفاعلا مع ثقافات أخرى تخوض التجربة الدفاعية عينها في مواجهة العدوان الثقافي العولمي، أخذ “شكلا نكوصيا وانكفائيا نحو الماضي والهوية وإنكار الحضارة والمشترك الإنساني وتقديس التراث وتعطيل حاسة النقد وإحياء الأفكار الأشد تزمتا وتعبيرا عن نزعة المفاصلة.”

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *