نظرات في المسألة الثقافية - 2

الرئيسية » الأعمدة » تأملات فكرية » نظرات في المسألة الثقافية – 2

– في الأمن الثقافي –

ارتبط استعمال مفهوم الأمن الثقافي بتبلور ظاهرة العولمة، وبوجه خاص مع بداية عقد التسعينيات من القرن العشرين. وهو ارتباط يجد تفسيره من وجهة نظر مؤلف كتاب”العولمة والممانعة: دراسات في المسألة الثقافية”من حيث إن الثقافة ما عانت كثيرا مشكلات أمنها الذاتي حين كان نطاقها الوطني مدار اشتغالها وفاعليتها؛ ومن حيث إن العولمة نفسها ما صارت كذلك، أي عولمة، إلا حين حملت على ركاب ثقافي وأنتجت ثقافتها العابرة للحدود”

والحاصل أن هذين المعطيين إنما يتضافران للتعبير عن حالة من التلازم بين العولمة والثقافة على نحو لا يقبل الانفكاك، وفي منأى تام عما عبر عنه المؤلف بـ “النظرة الإقتصادوية- والتقنوية- التبسيطية للعولمة”.

بعد أن يزيح الأستاذ عبد الإله بلقزيز الالتباس المرتبط بالمفارقة الظاهرة التي تجمع بين مفهوم الثقافة في إحالتها على الإبداع والانفتاح والتفاعل، وبين مفهوم الأمن في إحالته إلى معنى الدفاع والإنكماش والتقوقع، من خلال اعتماده لمفهوم شامل ومركب وديناميكي للأمن من الوجهة البنائية، وتراكمي من الوجهة الوظيفية، يسعى جاهدا لتحقيق “الإشباع الذاتي من الحاجات الثقافية”، يؤكد “أمن ثقافة هو قدرتها على توفير حاجاتها، على الإنتاج والتراكم ومغالبة الندوة والخصاص والحاجة، ورفع خطر الخوف من العجز وفقدان القيم الثقافية والرمزية التي تجيب عن مطالب المجتمع والفكر والوجدان والذوق”.

 وبمقتضى هذا المنظور ينطبق على الأمن الثقافي ما ينطبق على باقي أضرب الأمن الاقتصادية والغذائية والمائية؛ بحيث أن جميع هذه الأضرب تفترض”استراتيجيات إنتاجية وعقلانية في إدارة الموارد المادية من أجل حماية حق جماعي في التنمية والغذاء وإشباع الحاجات”.

بعد أن يبرز المؤلف أن أمن ثقافة من الثقافات هو ما يحميها من التبعية، يشدد على أن التبعية في الثقافة ليست هي الانفتاح على الآخر والانتهال منه والتثاقف معه، كما أنها ليست، في الاقتصاد والغذاء، التعاون مع الآخرين والاستثمار المشترك وتبادل المافع، وإنما هي الارتهان للآخر والعيش على منتوجه..”

بهذا المنزع المقارن نخلص مع الكاتب إلى أن المغزى البنائي التراكمي للأمن الثقافي يجعل من الأمن يرادف معنى الإنتاج ولا يكتسي أية دلالة سلبية من قبيل الدفاع الإنكفائي المتقوقع. مع التشديد كذلك على أن لهذا البعد الدفاعي للأمن الثقافي ما يبرره في عالمنا المعاصر؛

إذ مثلما قد يكون مجتمع من المجتمعات عرضة للتهديد والعدوان الخارجي، الأمر الذي يستحثه على استجماع قواه العسكرية والسياسية والاقتصادية لصد ذلك العدوان إذا ما وقع، أو درء خطر وقوعه إذا ما كاد أن يقع، فإن نفس المجتمع قد يكون أمنه الثقافي عرضة لخطر الاستباحة والعنف الرمزي من مصدر خارجي، الأمر الذي يحمل المجتمع الثقافي على استنفار كامل قواه ودفاعاته الذاتية لحماية أمن مجاله الرمزي والسيادي، بل وأمنه المعنوي والروحي فيما يتصل بمنظومة قيمه الأخلاقية والدينية.

وهكذا فمثلما أن الذود عن سيادة الدول وأمن المجتمعات حق مشروع في مواجهة خطر أي عدوان، فإن الدفاع عن الأمن الثقافي لهذه المجتمعات حق مشروع كلما كان عرضة لخطر عدوان متحقق أو حال.

وتفسير ذلك من وجهة نظر المؤلف أن “العلاقة بين الثقافات تنتظمها الديناميات عينها التي تنتظم العلاقة بين المجتمعات، وبين الدول، بعضها البعض: ديناميات التعايش والتجاور والتفاعل الإيجابي والاعتماد المتبادل، ثم ديناميات الصراع والاحتكاك العدواني والصدام. حين تترجح كفة الأولى، تنفتح المجتمعات والدول والثقافات على بعضها من دون هواجس أو تحوطات متوجسة. أما حين يميل الميزان إلى كفة التناقض والصراع، ينكفئ كل منها على نفسه ويتموقع في خندق دفاعي مستنفرا لديه حاسة البقاء والأمن.”

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *