ندوة علمية بالرباط تدعو إلى المزيد من البحث في المقاصد الإسلامية لمواجهة تحديات العصر

الرئيسية » تربية وتكوين » ندوة علمية بالرباط تدعو إلى المزيد من البحث في المقاصد الإسلامية لمواجهة تحديات العصر

البحث والدراسة والتأصيل واستشراف المستقبل، عناصر إلى جانب أخرى، كانت مسيطرة على أجواء الندوة العلمية الدولية التي نظمتها الرابطة المحمدية للعلماء تحت الرعاية السامية لصاحب الجلالة، حول “مقاصد الشريعة والسياق الكوني المعاصر”، حيث تطارح ثلة من العلماء والأساتذة والباحثين والمهتمين في أصل فكر المقاصد وما إذا كان يستحق تخصيص علم مستقل بذاته عن باقي مكونات أصول الفقه الأخرى، داعين إلى ضرورة المزيد من البحث في المقاصد الإسلامية والعمل على جعلها ترفع تحديات زمن الثورات وزمن حرية إبداء الرأي، وهو ما يقتضي بالضرورة الحرص على إعادة النظر في المؤسسات الدينية وصونها من الاختطاف من قبل الكيانات الحزبية

ندوة علمية دولية حول "مقاصد الشريعة والسياق الكوني المعاصر"

تباحثوا في التطور التاريخي لفكر المقاصد

في جو علمي رفيع ضم العديد من الأساتذة والباحثين، من المغرب ومن خارجه، وبحضور مختلف وسائل الإعلام والمهتمين، انطلقت يوم الثلاثاء وعلى امتداد يومين، ندوة علمية دولية حول “مقاصد الشريعة والسياق الكوني المعاصر”، والتي تنظمها الرابطة المحمدية للعلماء تحت الرعاية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس.

وأشار فضيلة الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء، الدكتور أحمد عبادي، في كلمته الافتتتاحية، إلى أن الناظر في السياق التاريخي لمباحث مقاصد الشريعة يلحظ جهدا مباركا في استبانة حلقاتها، والكشف عن مسالكها، وذلك منذ مرحلة التأصيل المرجعي مع نزول القرآن الكريم، وترجمته العملية السنة الشريفة، ومرورا بمراحل التأسيس النظري مع الرواد الأوائل من أمثال الإمام الترمذي الحكيم(توفي320هـ)، والإمام القفال الشاشي الكبير(توفي365هـ)، والإمام الأبهري(توفي375هـ)، والإمام العامري (توفي381هـ)، والإمام الباقلاني (توفي403هـ)، وإمام الحرمين الجويني (توفي478هـ)، والإمام الغزالي (توفي505هـ)، والإمام الرازي (توفي606هـ)، والإمام الآمدي (توفي631هـ)؛ ثم مرحلة الجمع بين الجمع بين التأصيل النظري والتفعيل العملي مع سلطان العلماء العز بن عبد السلام(توفي660هـ)، والإمام القرافي (توفي684هـ)، وابن تيمية (توفي728هـ)، وتلميذخ ابن القيم (توفي751هـ)، ثم مرحلة النضج النظري والإبداع المنهجي من اللوذعي الإمام أبي إسحاق الشاطبي المالكي (توفي790هـ). ووصولا إلى مرحلة الإحياء واستئناف الاجتهاد المقاصدي مع جيل النصف الثاني من القرن الرابع عشر الهجري إلى اليوم (الأستاذ علال الفاسي، والشيخ الطاهر ابن عاشور، والشيخ عبد الله دراز..). وتوزعت مواضيع الندوة التي تتواصل يومي الثلاثاء والأربعاء بالرباط، على ستة محاور؛ حيث يتطرق المحور الأول إلى معالم ومحددات النظرية المقاصدية، بينما يدور نقاش المحور الثاني حول التطور التاريخي والعلمي لمبحث المقاصد (المقاصد قبل الشاطبي وبعده). وفي المحور الثالث يناقش الباحثون علم المقاصد والمنهجيات المعاصرة، ثم في المحور الرابع تتم مناقشة البعد الوظيفي للمقاصد. أما المحور الخامس فيتطرق فيه الباحثون حول مقاصد الشريعة وسؤال التجديد، بينما يختم الباحثون الندوة بالمحور السادس الذي يتدارس فيه المتدخلون موضوع مقاصد الشريعة والتحولات الكونية المعاصرة.

وبحسب فضيلة الدكتور العبادي فإن الفكر المقاصدي يبرز اليوم باعتباره مجالا علميا غنيا، يمكن إذا تم تسييقه، أن يفتح أمام الباحثين  أبوابا جديدة للاشتغال والإبداع، أبوابا يستطيعون، إن ولجوها بمسؤولية، القيام بقراءة متجددة لنصوص الوحي، وامتلاك آليات جديدة للاجتهاد الفقهي، وتنزيل متجدد للأحكام على الوقائع، كما سوف يمكنهم ذلك من تقريب إدراك فحوى الشرع والشريعة من العالمين.

ويواصل فضيلة الدكتور العبادي كلمته التمهيدية للندوة بقوله “يتجلى البعد الوظيفي للمقاصد أكثر، انطلاقا من كون العلم بالمقصد المراد من الحكم الشرعي، يكتسي أهمية قصوى في فهمه الفهم السليم من جهة، وكذا في تنزيله التنزيل الرشيد والناجع من جهة أخرى”.

وحري بالذكر، يضيف أمين عام الرابطة المحمدية للعلماء، أن مقاصد الشريعة رغم تعددها وتنوعها، فإنها تتركز في مقصد كلي جامع جرى التعبير عنه تارة بـ”جلب المصالح ودرء المفاسد”، وتارة بـ”تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها”، كما جرى النظر إلى فريضة “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، باعتبارها ترجمة سلوكية لجلب المصالح ودرء المفاسد.

وبرأي الدكتور العبادي فقد وظف مقاصديونا المعاصرون نظرية المقاصد في صلتها القوية بمبدأ المصلحة، سعيا لصياغة تشريعية متجددة تحاول المزاوجة بين النص والسياق، وبين الاحكام ومناطاتها، سعيا لبلورة مشروع إصلاحي نهضوي للأمة يمكنها من استئناف رسالتها في الشهود الحضاري الذي لا يتصور تحققه بدون الاضطلاع بواجب الاستخلاف والتعمير المستمد من المقاصد العليا للدين الخاتم الموجهة لسائر أنواع الفعل الإنساني (القلبين والعقلين والوجداني، والبدني)، مع الحرص على مد الجسور بين الإسلام والمعطيات والقيم الكونية ذات الصلة، وبوجه خاص، بمنظومة حقوق الإنسانن وقضايا التنمية الشاملة والمستدامة…التي تعد بمثابة غايات ومقاصد عامة للشريعة، وجب تكييفها مع نسيجها وأحكامها، في اعتبار رصين لمختلف الأسيقة المحيطة.

وأكد فضيلة الدكتور أنه من أبرز ميزات الفكر المقاصدي  كونه فكرا كليا يأبى الانحسار  في ظواهر الأدلة الجزئية، دون وصلها مع الأدلة الكلية، في حرص على المواءمة باتساق ووظيفية، بين الدليل الكلي أو الأصلي، والدليل الجزئي أو الفرعي، بحيث لا يصح تصور الأدلة الشرعية، إلا من خلال انبنائها على مقدمتين؛ إحداهما: نقلية، تثبت بالنقل عن الشارع نقلا صحيحا، والثانية: نظرية، تثبت بالنظر والاستدلال.

وفيما يعتبر رسما لخارطة طريق الندوة طرح فضيلة الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء، الدكتور أحمد عبادي العديد من الأسئلة من قبيل؛ ما هي أهم الجهود التي بذلتها الامة في الكشف عن مقاصد الشريعة؟ وهل يمكن الحديث عن نظرية واحدة في مقاصد الشريعة أم أن هناك نظريات متعددة تختلف من حيث البناء النظري والمنهاجي؟ وأي دور للمقاصد الشرعية في استنباط الأحكام الشرعية وحسن تنزيلها؟ وما هي مسارات تفعيل مقاصد الشريعة في العلوم الإسلامية؟ وما هي ضوابط اعتبار المقاصد في مجال الاجتهاد وأثرها العملي؟ وكيف يمكننا البحث المقاصدي من إفادة الواقع، وتوجيه الاجتهاد الجماعي والمؤسساتي، في ظل التكتلات العلمية والمذهبية المعاصرة؟ وكيف يمكن أن تشكل مقاصد الشريعة إطارا للبحث في العلوم الاجتماعية والقانونية والإنسانية؟ وما هي خصائص الوعي المقاصدي الذي نحتاجه اليوم؟ وما هي الأدوات والشروط المطلوبة لتمكين نظرية المقاصد من الإعمال الأمثل؟ وهل تؤدي مباحث مقاصد الشريعة في صيغتها الحالية الوظائف سالفة الذكر؟

التحذير من سيطرة الحزبيين..

وفي معرض حديثه عن “مقاصد الشريعة والمدخل القيمي: النظرية الاجتماعية والسياسية”، في المحاضرة الافتتاحية الأولى، أشار أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية، رضوان السيد، إلى  أن للمقاصد وظيفتين جماليتين؛ الروح المنفتحة التي تتقبل الجديد، ووظيفة فتح باب الاجتهاد للعودة إلى التأصيل من الكتاب والسنة وأخذ الدروس والابتعاد عن مجرد التقليد؛ حيث إذا كان البحث في المقاصد قد تخلى عن مسألة التقليد والتخلص إلى حد ما من الطريقة القياسية، فإنه لم يتحول إلى منهاج على شاكلة المنهاج القياسي، وإذا كانوا قد نجحوا في الأمر الأول في تقبل الجديد، ما أسهم الفقه المقاصدي على الإطلاق في مسألة التحليل والتحريم والإباحة أو في كسر مسألة التقليد، لكن لم يترتب عن ذلك أنه تحول إلى نهج مواز أو بديل للنهج القياسي.

ويضيف، ما كانت هناك إفادة من فقه المقاصد الشرعية باعتباره تأسيسا لمركزية الإنسان، ولقيام السلطة الاجتماعية والسياسية على الجماعة أو اتفاقها معها، وبالتالي فإن الإحيائيين الحزبيين كما بدأوا متنافرين ومختلفين في أزمنة معارضتهم يبدون اليوم منفرين مثيرين للسخط في زمن حركات الاحتجاج العربي، مؤكدا “لقد هبت فئات الشباب للمطالبة بالحرية والمساواة ومحاربة الفساد، وهي جميعها قيم إسلامية، وهو ما افتقدته أمتنا منذ ستينيات القرن العشرين، وقد انضم إلى هؤلاء الشباب، في الساحات، الإسلاميون الحزبيون، وبرزوا في الانتخابات لكنهم اختلفوا في التناغم مع المشهدين العربي والعالمي”. وفي أول اختبار لهم في خوض الانتخابات، أصبحوا يهددون الناس، يقول المتحدث، ولاسيما معارضيهم بتطبيق الشريعة، وكأن الشريعة هم المسؤولون وحدهم عن تطبيقها وتأدية رسالتها. وفي هذا السياق المعاصر وإمكانية استلهام مقاصد الشريعة فيه، لدينا أربعة تحديات تتعلق بالقيم والمقاصد الشرعية؛ التحدي الأول، معالجة الانفصام بين الشريعة والجماعة، وهو انفصام طوره الإسلاميون عبر أزيد من خمسة عقود، يضيف السيد، فالشريعة تحتضنها الجماعة منذ كان الإنسان، والشعب هو مصدر السلطات، لذلك فإن شعار تطبيق الشريعة خطأ وخطيئة في حق الدين وفي حق المجتمع والناس. وهنا يمكن الإشارة إلى أنه إذا كان الفرنسيون يفتخرون أنهم هم أول من ضمن حق الاقتراع العام في القرن التاسع عشر، فإن الجويني قد دعا في القرن الثاني عشر الميلادي إلى ضرورة قيام السلطة على الإجماع وما قال أحد من أهل السنة والجماعة بعكس حرية الاختيار الاجتماعي والسياسي. فلذلك لا بد من إصلاح هذا وتجاوز مسألة تطبيق الشريعة التي تبدو كأنها فرض للشريعة على الجماعة مع العلم ان الجماعة هي من تحتضن دوما هذه الشريعة، فلا سماح الله لو لم تكن الجماعة او الأمة فأين سيكون القرآن؟ التحدي الثاني، ويتعلق بالقصد من التغيير، في هذا الزمن الذي نعيشه، بحيث يجب التمييز بين التغيير الدعوي الذي يتعلق بالتربية والدين والأخلاق، بينما يعني عند السياسيين جانب الخيارات وحقهم في ممارسة تدبير الشأن العام؛ وما تفعله الأحزاب السياسية الإسلامية اليوم هو استعمال ما هو دعوي وتربوي وتعبدي من أجل مصالحها السياسية، وهو ما تستغله ضد الآخرين وضد أحزاب  إسلامية أخرى، وهو الصراع الذي يدخل الدين عنوة في الحياة السياسية مما يؤثر على الدولة وعلى المجتمع، بحيث يفقد الدين معانيه السامية التي تتوخة نشر الود والسلم والأمن بين الناس، فلا بد من صون الدين في زمن الثورات وأزمنة التغيير. أما التحدي الثالث، إعادة النظر في المؤسسات الدينية والمرجعية، فقد خضعت في مرحلة سابقة إلى ضغوط قوية من جهة السلطات التي حاولت تجاوزها أو الحد من دورها، ومن جهة الحزبيين الإسلاميين الذي حاولوا الحلول محل هذه المؤسسات الدينية والمرجعية، بحجة أنها قاصرة أو خاضعة، ولذلك فلا نريد أن يربي الحزبيون الإسلاميون أولادنا ولا أن يصدروا لنا فتاوى، لأن ذلك وخاصة إصدار الفتوى سواء بالحل أو الحرمة هو من صلاحيتنا نحن الجماعة.

وفي المقابل فإني أرى، يقول السيد، أن الدولة العربية حاليا تتجه نحو الانحسار في مجال السطوة والسيطرة على المؤسسة الدينية، ولذلك فلا ينبغي أن يسيطر عليها الحزبيون الإسلاميون. ثم هناك التحدي الرابع والأخير، ويتعلق الأمر بمصائر الدين نفسه؛ فهناك في صفوفنا منذ عقود نزوع نحو التشدد؛ وفي بحث سابق لي أوردت أنه كلما كانت المؤسسة الدينية متراخية ظهرت أصولية إسلامية شديدة العنف، وبالمقابل في دول عربية حيث كانت المؤسسة الدينية عكس ذلك لم تظهر أصولية دينية عنيفة، أو على الأقل فهي أقل دعوة إلى العنف، وبسبب هذا النزوع أصبح الإسلام مشكلة عالمية منذ حوالي عقدين، يقول الباحث، وهو ما يحتاج منا إلى ضرورة وجود نهوض فكري إسلامي كبير لتجديد رؤيتنا لديننا، لأنفسنا وللعالم من حولنا، لأننا نريد أن نعيش بديننا وأخلاقنا بهذا العالم ومعه، وليس في مواجهته، فلا نريد أن نخيف العالم ولا أن نخاف منه، ولا أجدى من مقاصد الشريعة الإسلامية للدخول في هذا العالم المعاصر.

التأصيل لفكر المقاصد..والترمذي

وفي إطلالة على عالم الكلمة والشعر، وفي استراحة قصيرة قبل مواصلة الندوة، أبت قريحة الشاعر والدكتور عبدالهادي حميتو إلا أن تلهم صاحبها قصيدة من وحي هذه الندوة العلمية الرفيعة، وتفاعل معها الحضور الكريم وصفق لها كثيرا.

بعد ذلك تم الشروع في المحاضرة الافتتاحية الثانية، حيث أشار الدكتور طه جابر العلواني، رئيس جامعة قرطبة بواشنطن، وعبر الأثير من الولايات المتحدة، إلى أن ما هو شائع هو أن هذه الشريعة هي تعبدية على غرار الديانات السماوية السابقة، وأن هناك تمييزا بين مسألة التدين والتعبد؛ بحيث أن فكر التدين يقوم على اللامعقول، بينما فكر التعبد يقوم على المعقولات وعلى العقل. ولذلك يمكن التمييز بين الحكمة وبين الشريعة، ولذلك أيضا جاء كتاب ابن رشد بعنوان “فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال”، بحيث أراد الرد على أمثال هؤلاء، وإبراز مقاصد لباب الشريعة وحكمتها، حيث تطرقت كتابات كل من إمام الحرمين الجويني، والإمام الغزالي، ثم تتابعت الكتابات المبينة للمقاصد، وإن كانت قليلة، ولتقارب الموضوع حتى دونما كبير تفصيل، إلا ما كان من الحكيم الترمذي الذي كتب كتابه في هذا الشأن وتطرق فيه كذلك حول التأصيل للفكر.

ومن خلال الرجوع إلى عديد من الإشارات، يقول العلواني، يمكن أن نلفت إلى أنه يتم إغفال أمور شديدة الخطورة، لا يمكن أن لا يأبه إليها ذو بصر وبصيرة. وقد بدأ أهل العلم يتداولون فكرة المقاصد بأشكال مختلفة، سواء أكانت بوصفها عللا أو أسبابا، كما حدث عند القائلين بالقياس أو كانت عبارة عن حكم كما هي عند المعنيين بالمقاصد. ثم جاء من حاول أن يعمق في البحث المقاصدي ويحاول أن يصنفه على مستويات، وقد فعل ذلك بعض أهل العلم منذ القرن الخامس الهجري، وتواصل البحث في ذلك إلى أن جاء الإمام الشاطبي، الذي يعتبر ما وصل إليه وما وصل إليه من أسلافه، بمقتضى التصنيفات التي توفرت عنده، من بين أهم ما تم إنجازه في البحث المقاصدي وقتها، والذي تم تصنيفه إلى مقاصد ضرورية وعادية وتحسينية؛ وتتعلق بالمكلفين الذين استخلفهم الله جل شأنه في الأرض، لكي يقيموا الحق والعدل فيها.

ويمكن القول، يقول المتدخل، أن طلبة العلم اليوم اتضحت أمامهم وبين أيديهم كون أن مساعدة الخلق وتحقيق سعادتهم هي من حكمة الشريعة، وأن مسألة الاستخلاف في الأرض وإقامة الحق والعدل قد دفع بفكر المقاصد إلى ارتياد كل هذه المجالات الواسعة، التي أصبحت متوفرة أمامه للبحث فيها. ولكن لا بد لنا من تفعيل المقاصد، وهو التفعيل الذي للأسف مازال قاصرا وإذا لم يجر تفعيل هذه المقاصد والعناية بها، وبناء اجتهادات معاصرة تغطي الحاجات التشريعية لحل الأزمات والمشكلات، والنوازل والوقائع الحديثة، فإن المقاصد لا يمكن أن تخرج من دائرة فضائل الشريعة إلى أحكامها. فكيف تُفعل المقاصد؟ هذا السؤال بقي معلقا ومازال يحتاج إلى جواب وهو ما حاولنا الوصول إليه؛ إن مقاصد القرآن الكريم العليا إنما هي ثلاثة؛ التوحيد والتزكية والإعمار، لأن كل ما هو موجود هو تفاعل بين ما هو غيبي وبين ما هو إنساني. وهذه هي المقاصد العليا الواجبة في حق الشارع المكلِّف سبحانه وتعالى والمكلَف أي الإنسان الذي ينبغي أن يسخر العمران للاستخلاف في الأرض.

في البحث عن أسس وغايات المقاصد..

وفي محور “معالم ومحددات النظرية المقاصدية”، أشار الدكتور إسماعيل الحسني من جامعة القاضي عياض، في ورقته المعنونة بـ”مقاصد الشريعة وأسئلة الفكر المقاصدي”، إلى أن مقاصد الشريعة، بغض النظر عن الخلاف أو الاختلاف في تعريفها، هي معالم دلالات تروم عمارة الأرض، وانتفاع الإنسان بما خلقه الله في دائرة الأخوة البشرية، ولا يكون ذلك إلا بصلاح الإنسان الفرد وصلاح الأمة اعتقاديا وعمليا ومجتمعيا وحضاريا.

وبرأي معتز الخطيب الإعلامي والأستاذ في الدراسات الإسلامية، وفي ورقته المعنونة  بـ”المقاصد وعلم الأصول: قراءة في النسق المعرفي”، فإن هناك سؤالا تقليديا طرح في المعالجات المقاصدية المعاصرة،  وهو هل المقاصد جزء من علم أصول الفقه، أم أنها علم مستقل؟ ليخلص إلى أن المسألة أكثر من مجرد إجراء فني، بل إن القضية تتعلق بدواعي أخذ المقاصد كعلم للدراسة، وهل هناك تأزم معرفي استدعى ذلك لما وجده من ضعف في القياس والاجتهاد والاستنباط. وكإجابة مبدئية يشير المتدخل إلى أنه من الصعب فصل المقاصد عن الفقه، ولا يمكن القول أن البحث في المقاصد هو نسق علمي جديد، بل هو تطور داخل علم أصول الفقه.

وبعنوان “كليات المقاصد ومسألة التصنيف”، جاءت مداخلة الباحثة والأستاذة في كلية الشريعة بجامعة الجزائر، الدكتورة مسعودة علواش؛ حيث أشارت إلى أنه بعد تتبعها لمصنفات القرافي، وجدت أن كليات المقاصد، بناء على تصنيف هذا الأخير، تنسب إلى العز بن عبد السلام شيخ القرافي، الذي نجده يحصر هذه الكليات ويضع لها تصنيفه الخاص. وقد اعتمد العز بن عبد السلام على التقسيم بناء على حقوق الله وعلى حقوق العباد، وجعل الدين مرتبطا بحق الله تعالى، بينما باقي الكليات الأخرى كالأعراض وغيرها مرتبطة بحقوق العباد.

أما الباحث الجزائري وأستاذ التعليم العالي بجامعة باتنة، مقلاتي صحراوي، فقد تساءل في ورقته المعنونة بـ”المسوغات المعرفية للتأليف في مقاصد الشريعة في الفضاء العربي الإسلامي”، عمّاهية الأسباب الاجتماعية والسياسية التي أدت إلى منظومة المقاصد، معتبرا أن هذه الأخيرة جاءت استكمالا للنسق التأويلي، لأن نظرية الأصول تتكون من المصادر كالقرآن والسنة والقياس وغيرها، ثم من الدلالات والألفاظ. لكن الذي تم التخلف فيه، يقول الباحث، ولم يتم فيه تأليف معتبر هو فكر مقاصد الشريعة، إلا في مراحل لاحقة عند الشافعيين قبل أن يتطور على عهد الشاطبي.

وفي ورقته “تحرير السؤال فيما بين الأصول والمقاصد من اتصال أو انفصال”، اعتبر الحسان شهيد من جامعة مولاي إسماعيل بمكناس، أن فصل المقاصد عن الأصول هو إشكال ما يزال متداولا ولم يتم حله بعد، ولفكه يقترح الباحث الدخول إلى الموضوع وتناول من مداخل عدة، أبرزها الباب المعرفي الإبستمولوجي والذي يبحث في فلسفة نشأة العلوم الإسلامية خصوصا وسياقاتها التاريخية، وهل تقتضي هذه الفلسة إنشاء علم جديد هو علم مقاصد الشريعة. هناك مدخل آخر ولعله مدخل عملي ووظيفي، يقول الباحث، وهو البناء العملي لإيجاد نسق جديد هو علم مقاصد الشريعة، بمعنى هل إنشاء علم جديد يأتي بقيمة مضافة للاجتهاد الفقهي، الذي هو الأصل الأول لإنشاء علم أصول الفقه.

وفي ورقته المعنونة بـ”إعمال المقاصد في الاجتهاد الفقهي: مجالاته وضوابطه”، قال عبد الحميد عشاق الأستاذ بدار الحديث الحسنية وعضو المكتب التنفيذي للرابطة المحمدية للعلماء، إن الشارع يقصد أن تتحقق المصلحة من إيقاع الفعل، وكل شيء يعتبر مصلحة فهو موجود ومقصود شرعا، وكل مفسدة مترتبة عن فعل شرعي، ورغم أنه موجود فإنه غير مقصود، كما أن المشاق الموجودة في الأفعال المأمور بها، فإنها موجودة لكنها غير مقصودة، وهذا ما ينطبق عن أن كل فعل أُمِر به فإن المصالحة الموجودة به هي مقصودة، وكل فعل أمر بعدم فعله فإن المفاسد الموجودة به غير موجودة، والعكس بالعكس، وبذلك ينطبق القول عن مقاصد الشريعة الإسلامية في الأفعال.

وتطرقت الدكتورة كلثوم دخوش عضو المجلس الأكاديمي للرابطة المحمدية للعلماء عن “مفهوم التعارف بين مقصدي الخلق والتشريع”، مبرزة أنه كان لإبراز فكر مقاصد الشريعة أهميته الخاصة، فإن إدراك مقاصد الخلق لا تقل عنه أهمية باعتبارها تجعل المكلف قادرا على إبلاغ رسالته في هذا الوجود، مؤكدة أنه يفهم من خلال الآيات القرآنية (الحجرات)”وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا..”، أن مسألة التعارف هي دهوة مقصدية وبالتالي فهي من المقاصد، ولذلك فلابد من معرفة الأسباب الشرعية التي جعلت التعارف كذلك، وإذا تم ذلك فضمن أية أنواع من المقاصد يمكن إدراجه؟

أما الدكتورة ريحانة اليندوزي الباحثة بكلية الشريعة بفاس وعضو المجلس الأكاديمي للرابطة المحمدية للعلماء، فقد حاضرت من جانبها بورقة بعنوان “التحقيق في دعوى حصر المكارم في المقاصد التحسينية”، حيث اعتبرت أن المقاصد الشرعية تنقسم عند العلماء إلى الضرورية والحاجية والتحسينية، إلا أن ما يثير الانتباه أكثر هو ما يتعلق بالتحسينيات، حيث تنضوي مكارم الأخلاق ضمن هذه المرتبة، فهل يمكن أن تقوم قائمة للدين أو النفس أو العقل أو الدين من دون هذه المكارم، على اعتبار أنها جاءت ضمن المرتبة الأدنى من المقاصد الشرعية؟ قبل أن تجيب أن الإخلال بمقصد تحسيني لا يضر بالمقصدين الآخرين الضروري والحاجي، ولا تدعو المسألة إلى أي إحراج أو تضييق على المكلف مادامت تدخل في باب التحسين والتزيين، برأي الباحثة.

وفي ورقته المعنونة بـ”في مقاصدية علم التصوف”، أشار الدكتور عبد الصمد غازي، مدير موقع مسارات للأبحاث والدراسات الاستشرافية والإعلامية” التابع للرابطة المحمدية للعلماء، إلى أنه من المنطقي والطبيعي أن ينتمي الصوفية إلى علم المقاصد، لأنهم اهتموا بالتزكية والبحث عن الكماليات، وعن حسن الأخلاق والقيم والمعاني فكان ذلك سبب عنايتهم بالمقاصد. وسوف أقتصر على نموذج ورد في مداخلات سابقة، يقول الدكتور غازي، وهو نموذج المفكر الصوفي العالم الحكيم الترميذي، الذي عاش في القرن الثالث الهجري، وله مؤلف عنونه بـ”إثبات العلل”، وتعتبر لحظته لحظة التأسيس، ولذلك جاءت صيغة عنوانه بـ”الإثبات”. كما أن معظم كتابات الحكيم جاءت لتؤكد أن الشريعة لها مقاصد والعبادات لها علل. وقد اعتبر الترمذي أن الشريعة لا تقتصر فقط على ما أضمرت القلوب من حيث التوحيد، فلابد أن تؤتى الأوامر ظاهرا حتى تثبت حجة الشريعة؛ فالمعقول المعنوي عند الصوفية لا يقتصر على العقل المجرد النظر، بل لابد له من فاعلية، لذلك فإن الحكيم يعلن منذ البدء عن التعليل؛ فالحكمة هي لباب الشيء وباطنه والانتفاع يكون باطن الشيء لا بقشوره، والاجتهاد الشرعي المقاصدي عند الحكيم ليس مجرد اجتهاد نظري، بل هي اجتهاد وغوص في معاني لا تحدها أزمنة أو أمكنة محددة، ولا تدرك أسرار الشريعة ومقاصدها وعللها إلا لذوي الاستقامة والتقويم، يقول الدكتور عبد الصمد غازي في ورقته البحثية.

وشارك في الندوة أيضا أساتذة آخرون وبأوراق مختلفة الاهتمامات والبحوث ومن هؤلاء الدكتور عبد الحميد عشاق، الأستاذ بدار الحديث الحسنية وعضو المكتب التنفيذي للرابطة المحمدية للعلماء، وكانت مشاركته بعنوان “إعمال المقاصد في الاجتهاد الفقهي: مجالاته وضوابطه”.

والدكتور فريد شكري، أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالمحمدية، والذي شارك بورقة بعنوان “مسالك الكشف عن المقاصد”. والدكتور عبد الله هيتوت عضو المجلس الأكاديمي للرابطة المحمدية للعلماء، الذي كانت مداخلته بعنوان “”معالم ومحددات النظرية المقاصدية”.

هذا بالإضافة إلى مشاركة أساتذة وباحثين آخرين من المغرب ومن بعض الدول الإسلامية الأخرى، منهم على الخصوص؛ الدكتور عبد الحميد الإدريسي، والدكتور محمد المنتار، والدكتور احميدة النيفر من تونس، والدكتور عبد الله السيد ولد أباه من موريتانيا، والدكتور إبراهيم حمداوي، والدكتور بشير المكي عبداللاوي من تونس، والدكتور محمد بلكبير، والدكتور خالد ميار الإدريسي، هؤلاء الذين قدموا كلهم أوةراق أثارت الكثير من النقاشاتن وأضاءت جوانب كانت خفية في مجال المقاصد الإسلامية، داعين إلى المزيد من التمحيص والبحث حتى تواكب هذه المقاصد زمننا وعصرنا المتسم بعديد من الإشكالات.

نورالدين اليزيد

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *