مزيدا من العمل

الرئيسية » الأعمدة » حروف » مزيدا من العمل

لعل من أقسى التمارين على المرء هو مساءلة الذات ومحاسبتها، وهو امتحان عسير يستوجب شروطا أخلاقية يعتبر الصدق عمادها وأساسها، فتجد الكثيرين ممن ولع ببث التوجيهات القولية ونشر النماذج واقتراح الحلول لأزمات غيره ومآزقها، يفتقدون إلى العمل بما يقولون؛ حيث لا يملكون الكفاءة السلوكية التي هي السبيل الأقوم إلى الإنهاض إلى كل تقدم سلوكي وكل رقي قيمي.

يعج معجمنا التحليلي لمستوانا الحضاري بالعديد من المصطلحات التي تند عن الحصر، إذ ما يظهر مفهوم معين كالمواطنة والتنمية والحكامة، والمجتمع المدني، أوقبلها كالتقدم والليبراية واليمين واليسار والتخلف والعالم الثالث، أو قبل ذلك وذاك في البداية حينما نما الوعي بالهوة الفاصلة بين الشرق والغرب، فاشتهر مفهوم النهضة والإصلاح والتأخر والتحرر، حتى تجد من يبرع في إقحامها في أي مجال وفي كل مناسبة إيهاما وتوهيما بأنه يعيش العصر ويواكب مستجداته …   فالشأن في الاصطلاح  أنه لم يقصد في حد ذاته لذاته بل لوظيفة تفسيرية تحليلية وتقويمية يقتدر بها المفكر على توجيه الآراء والأبحاث والقرارات والسياسات وجهة معينة يرى أنها تفي بغرض الخروج من واقع إلى آخر أرقى وأسمى، ومن ثم يثمر الحوار حولها، وتغتني الرؤى، وينضج الاختلاف الباني والواعي بالأهداف المرجوة والمقاصد المطلوبة.

لا خلاف إذن بخصوص قيمة هذه الأعمال النظرية والمنظورات التحليلية، ولكن المشكلة تكمن في سياق تحقيق الانسجام الكلي بين المقول والمعمول والمأمول دون فصام أو استلاب أو سيادة الاعتقاد بأن كل ذلك ليس إلا مجرد دعاوى كاذبة عارية عن كل حقيقة مما ينمي ثقافة اليأس والإحباط والجهل وأنواع الغلو والتطرف بمختلف أشكاله.

 فالمجتمع في حاجة إلى كفاءات تستطيع إعمال هذه المفاهيم وتمنحها الحياة الحقيقية وتخرجها من رفوف العقول وتنميق الألسنة وتزويق الأوراق وتجميل الصور، ليعود الفرد أو المجتمع متمثلا لمفاهيمه السلوكية بصفة عامة، بتأسيس قناعات بسيطة لديه، يعتبر أصلها الأول هو الإيمان بأن من يقول شيئا ويدعيه وينافح عنه ويحمل الناس على فعله يتعين أن يكون هو الأول المبادر إليه، ومن ثم كانت المسؤولية ثقيلة على من يتصدى لتوجيه الأفراد والمجتمعات من النخب المختلفة، إذ كل تفاوت بين المقول والمعمول والمأمول يفرغ الرسائل المراد تبليغها من كل معنى، إذ سرعان ما تعود أدراجها فيضيع معها المرسِل والمرسَل إليه والظرف الزماني الذي لا يقدر بثمن.

إن المؤشرات والأرقام مسألة أساسية، واعتماد مفاهيم إجرائية في كل تخطيط أمر مهم، ولكن البحث عن الجسور بين الحقائق العلمية والوقائع العملية شأن أهم، ذلك أن مطالب الخروج بالمجتمع من حال إلى حال والتي تشكل تحديا عالميا، في حاجة إلى مزيد إبداع في الطرق التي تمكن من الوصول إلى عمق الشعور لدى الجميع بمختلف درجات وعيهم وثقافتهم وتعليمهم، وغير ذلك من التصنيفات الممكنة التي يمكن تصورها بالنسبة للمجتمع.

فلا أبلغ من العمل، والاجتهاد في العمل، ومحبة العمل، والإخلاص في العمل مهما كان صغيرا أو كبيرا، لأن العمل علم وخبرة وتجربة وميزان الصدق ومحك المصداقية، يجعلك قادرا على الرجوع إلى الذات ومحاسبتها، والنجاح في تجاوز أخطاءها وهناتها، بينما “القائل” يبقى فقط متقنا لفنون اللوم والعتاب وإحصاء العيوب وتصيد فلتات الأفراد والجماعات، بدون إي إسهام يذكر سوى التيه عن نفسه والغفلة عنها، وشيء من التشويش على العمل، العمل ذلك الإكسير الذي خلد الحضارات والأمم، فمزيدا من العمل ونعوذ بالله من الكسل.

شارك:

التعليق “مزيدا من العمل

  1. |الفارس

    موضوع ممتاز ورائع، شكرا لسعادة الدكتور، نحن في حاجة لمثل هذه المواضيع الفكرية البناءة و الخلاقة

اترك رداً على الفارس إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *