مدخل للدراسات المستقبلية - نحو وعي بأهمية الممارسة الاستشرافية-8 -

الرئيسية » الأعمدة » دراسات استشرافية » مدخل للدراسات المستقبلية – نحو وعي بأهمية الممارسة الاستشرافية-8 –

مدخل للدراسات المستقبلية

– نحو وعي بأهمية الممارسة الاستشرافية –

– 8 – 25/12/2018 مدخل للدراسات المستقبلية - نحو وعي بأهمية الممارسة الاستشرافية-8 -

المبحث الثاني: تاريخ استشراف المستقبل

رابعا: تأسيس الدراسات المستقبلية الحديثة

إن تأسيس الدراسات المستقبلية الحديثة لم يتم حتما من فراغ وإنما هو نتيجة لتضافر مجموعة من العوامل والأسباب والتحولات المعرفية والفلسفية والسياسية والاجتماعية والتكنولوجية. فالاهتمام بالمستقبل كما هو معلوم، كان ممارسة قديمة[1]، ارتبطت بظهور الجماعات البشرية وتكون القبائل والامبراطوريات. وكان استشراف المستقبل مسألة ضرورية لاستمرار هذه الكيانات الاجتماعية والسياسية. ذلك أن هواجس الخوف من التحولات الجارفة التي من شأنها تغيير الأنظمة وإزاحة السلالات الجاثمة أو المسيطرة على أراضي من عدد غير مرتقب، كان كل ذلك دافعا للاشتغال بمعرفة المستقبل بجميع الطرق والكيفيات والأساليب التي دونت في كتب التاريخ ومنها القيافة والعيافة والتنجيم أو بصفة عامة القدرة والكفاءة على قراءة الرموز واستنباط مؤشرات معينة للتحول[2].

ولقد ساهم فيما بعد التفكير الفلسفي[3] في تعميق النظر في مفهوم الزمن وحركية التاريخ وقراءة القوانين المتحكمة في تغيير أحوال الأمم كما هو الحال في الفكر الخلدوني الذي ساهم في تأسيس علم الاجتماع وكذلك فلسفة التاريخ. وبالطبع فإن فلسفة التاريخ في الغرب، كانت لها مساهمة كبيرة في وضع الأسس الأولى لاختمار الفكر المستقبلي. كما ساهم الفكر المثالي الحالم بمدينة فاضلة أو مثالية في توجيه النظر إلى التخطيط لمستقبل أفضل.

ويعتبر قسطنطين زريق في كتابه نحن والمستقبل، المدن الفاضلة بمثابة “تصور تداخله الرؤيا المستقبلية، إذ أن الغاية منه حث الناس على اكتساب ما أمكن من صفات المجتمعات المثالية المتخيلة وبالتالي على السعي المستقبلي فكرا وعملا”[4].

وقد كتبت مجموعة من الكتب الحاملة لتصورات مثالية للمدينة الفاضلة، ومن ذلك جمهورية أفلاطون، التي حاول فيها الفيلسوف أفلاطون استخلاص الدروس من النزاعات وهزيمة أثينا. فجمهورية أفلاطون ليست مجرد تفكير طوباوي ولكن كذلك وضع تصور بديل للوضع القائم آنذاك؛ فهي تخيل لمجتمع مثالي متجاوز للمشاكل المطروحة آنذاك.

ويعتبر كتاب “آراء أهل المدينة الفاضلة” لأبي نصر الفارابي، كذلك تصور لمجتمع إسلامي بديل قائم على العدل والمساواة وحسن التدبير والحكمة.

وكتب توماس مور “مدينته الفاضلة” وابتكر كلمة Utopia اليوتوبيا وتأثر به مجموعة من الكتاب وكما يقول زريق فقد أصبح كتابه “أصلا ونموذجا لمحاولات كثيرة تصورا لمجتمع الإنساني الذي يسوده الخير والسعادة والكمال”[5].

وألفت بعد المدينة الفاضلة لتوماس مور، كتابات أخرى أهمها “(مدينة الشمس) لتوماس كامبا نيلا) و(مدينة المسيحيين) لفالنتين أندريا و(أطلنطا الجديدة) لفرانسيس بيكون و(قانون الحرية) لجيرارد وتستلي[6]. وقد استمر التأليف في هذا المنحى طوال القرن الثامن عشر والتاسع عشر، حتى ظهرت الشيوعية.

وظهرت بعد ذلك حركة فكرية مناهضة لتيار المدينة الفاضلة، إذ برز أدب جديد يعنى بتخيل وتصور المدن الفاسدة (Anti-Utopian)[7] و”كان تعبيرا نقديا للمدن الفاضلة، أو أنه نتج عن التشاؤم وضعف الإيمان بتحقق مدن فاضلة، وأول تأليف في المدن الفاسدة كان رواية (نحن We) ليوجين زاميانتين (Eugene Zamiatin) (ت 1937م)، كتبها في روسيا بعد ثلاث سنوات من الثورة السوفيتية، يصف فيها مستقبلا لعالم ليس فيه سوى دولة كبرى واحدة هي الولايات المتحدة الأمريكية قد وفرت للناس الاستقرار والكمال والسعادة. ثم يبين المداخل التي تنافي هذه السعادة وتضادها، وسعي الناس لتغيير هذه الحياة التي كرهوها. وهذه الرواية كانت بداية لكتابات أخرى في “المدينة الفاسدة”[8].

إن التفكير المثالي والخيالي يمهد بشكل حاسم لظهور الكتابات الجادة أو العلمية في الدراسات المستقبلية ولذا يعتبر كتاب توماس روبرت مالتوس (ت 1843م)، “مقال في النمو السكاني” سنة 1898م والذي استشرف فيه الأوضاع البشرية بسبب النمو السكاني السريع. كما كتب على نهج مالتوس، الكاتب الانجليزي وليام فوكت Vogt كتابه “الطريق للبقاء” (Road to Survival) سنة 1946 وتنبأ فيه بأن يكون العالم مكتظا وفي أزمة خطيرة بسبب الانفجار السكاني[9].

إن الكتابات حول النمو السكاني ومشاكله، كان لها دور في اهتمام الحكومات بتحرير تقارير حول أوضاع السكان والتحولات المجتمعية، فساهم ذلك في وضع لبنات الدراسات المستقبلية الحديثة. إذ كتب شارل ريشيه (Charles Richet)، كتابه “في مائة عام In 100 Years” سنة 1892 وتنبأ فيه بأن تكون الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا أقوى الدول “وسيتفوقان على أوروبا نتيجة لانخفاض معدلات الولادة فيها. وتحدث الكاتب من مجالات أخرى، مثل التوقع ببقاء الاستعمار الفرنسي في شمال افريقيا، وأن مصر تستطيع أن تتحرر من الاستبداد البريطاني، وتوقع للنفط أن يحل محل الفحم بصفته مصدرا للطاقة وغير ذلك”[10].

ويعتبر التقرير عن الاتجاهات التقنية والسياسية القومية ومنها المضامين الاجتماعية للاختراعات الجديدة) والذي نشرته “لجنة الموارد القومية” في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1938م، من بين التقارير الهامة التي ساهمت في اهتمام المؤسسات الحكومية بقضايا المستقبل[11].

ويبدو أن “فكرة التقدم” التي راودت علماء وفلاسفة ورجال السياسة في الغرب، أهم محرك ومحفز لبناء المستقبليات الحديثة، ويقول وائل حلاق “إن نظرية التقدم الخاصة بعصر التنوير لا تشكل التاريخ وحده، بل تشكل أيضا وكما أسلفنا، بنى اللغة الحديثة نفسها، وهي لغة تعكس أيضا بدورها رؤية العالم التي تدعو إلى الهيمنة على الطبيعة والإنسان فحسب، بل أيضا تشكل وتوصل الهيمنة نفسها. وقد لا يوجد مبدأ حتى. فقد أعلنت “قانونا للتطور التاريخي وفلسفة للتاريخ وبالتالي فلسفة سياسية أيضا”. و”لا توجد فكرة أكثر منها أهمية في الحضارة الغربية”، لأنها “واحدة من أكثر الأفكار والقيم الغربية رسوخا”. وفي مقدمة لكتاب بيري (Bury) المهم حول تلك النظرية، أعلن تشارلز بيرد (Charles Beard) أنه “لا توجد فكرة من الأفكار التي سادت المجالات العامة والخاصة في المئتي سنة الماضية، أكثر أهمية أو أقدر على التأثير من مفهوم التقدم. فقد مثلت في القرنين الماضيين، ولا تزال، وبصورة نموذجية، لغة الآلهة الجديدة. وهي لا تعترف بأي مبادئ غير مبادئها، ما يعني أنها تزدري أي معيار أخلاقي لا تضعه بنفسها، ولأن عقيدة التقدم “وعاء للأيديولوجيا”، فإنها تخلق اتباعاً أوفياء “يؤمنون بأنهم على صواب مطلق”، ويجدون أنفسهم دائماً في مواجهة آخرين يعتبرونهم على خطأ مطلق”[12].

إن الهوس بفكرة التقدم هو الذي ساهم في بناء المؤسسات وتأسيس حواضن الفكر المستقبلي التي تشتغل على التخطيط لاحتجاز المستقبل.

وتعتبر مؤسسة راند[13] كما هو معلوم، ذات ريادة في التفكير في الاحتمالات المستقبلية للحرب النووية والصراعات العسكرية وتداعياتها، وفيها تمت صياغة مفهوم السيناريو الذي ابتكره هومان فان.

واستطاعت مؤسسة راند جذب مجموعة من الباحثين والعلماء والمفكرين المهتمين بقضايا الأمن والتكنولوجيا الحربية والاختراعات الجديدة وتداعياتها السياسية والاجتماعية. واهتمت المؤسسة فيما بعد بالقضايا الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والطبية والسياسات العمومية والابتكارات الجديدة وصياغة المشاهد المستقبلية لمختلف التحولات المحلية والإقليمية والعالمية.

ويعتبر غاستون بيرجي[14] مؤسس المركز الدولي المستقبلي، الأب الروحي للفكر الاستشرافي الفرنسي ورائد الفكر المستقبلي الحديث في أوروبا. وهناك مجموعة من الباحثين الذين تميزوا في الدراسات المستقبلية في أمريكا واوروبا، ومنهم برتراند دو جوفينيل وبيير ماسي وهيرمان خان وتوفلر وأولاف هلمر وادوارد كورنيش وريتشارد سلوتر ودانييل بل وغيرهم. كما برز إسم البروفسور المهدي المنجرة وضياء الدين سردار وسهيل عناية الله واسماعيل صبري عبد الله وقسطنطين زريق وراجا عزام وعلي محمد نصار وابراهيم حسن العيسوي وغيرهم.

د. خالد ميار الإدريسي

رئيس تحرير مجلة مآلات، فصلية محكمة تعنى بالدراسات الاستشرافية

الهوامش:

[1]  انظر:

Bloch, Raymond : La divination. Essais sur L’avenir et Son imaginaire. Fayard 1991.

[2]  انظر:

  • سعد عبود سمار: إدراك الغيب عند العرب قبل الإسلام، مرجع سابق، ص: 244 – 245.

[3]  الساعدي رحيم: المستقبل في الفكر اليوناني والإسلامي، مرجع سابق.

[4]  زريق قسطنطين: نحن والمستقبل، ص: 76 – 77.

وانظر كذلك: عبد الله بن محمد المديفر: الدراسات المستقبلية وأهميتها للدعوة الإسلامية، مرجع سابق، ص: 45.

[5]  زريق: نحن والمستقبل، ص: 77.

[6]  المديفر: الدراسات المستقبلية وأهميتها للدعوة الاسلامية، مرجع سابق، ص: 49.

وللتوسع انظر:

  • Abensour, Miguel : L’Utopie de Thomas More à walter Benjamin, Paris, Sens et Tonka, 2000.
  • Abensour, Miguel : le procès des Maitres rêveurs, Arles, Sulliver, 2000.
  • Ricœur Paul : l’idiologie et L’Utopie, Paris, Seuil ; 1997.
  • ¨Encyclopédie de L’Utopie, des voyages Extraordinaire et de la science-Fiction par Pierre Versins (éd. L’Age d’homme, 1972).
  • أشهر الكتابات حول المدينة الفاضلة هي كالتالي:
  • L’Utopie de Tomas More (1516) ;
  • La Cité du soleil de tommaso Campanella (1623) ;
  • La nouvelle Atlandide de Francis Bacon (1627) ;
  • L’AN 2440 de louis-Sébastienne Mercier (1771) ;
  • Voyage en Icarie d’Etienne Cabet (1840) ;
  • Cent ans après ou L’an 2000 d’Edward Bellamy (1880) ;
  • Nouvelles de nulle part ou Une ère de repos de William Morris (1990).

[7]   المدينة الفاسدة أو Anti-Utopie أو dystopie

من أهم الدراسات حول المدينة الفاسدة:

  • Jean Paul Engelibert : Apocalypses sans royaume (politique des fictions de la fin du monde) , Classique Garnier, Patis, 2013.
  • Clément Dessy, Valérie Stienom (dir) : (Bé) vues du futur : Subtitle Les imaginaires visuels de la doystopie (1840 – 1940) éd, Press Universitaires du Septentrion, 2015.

أهم الأعمال الأدبية التي عالجت إشكالية المدينة الفاسدة هي كالتالي:

  • Engene Zamiatine, Nous autres, 1920 ;
  • Aldous Hurley, Le meilleur des modes (Brave new world) 1932 ;
  • Orwell, 1984 (Nineteen des eighty-Four), 1949 ;
  • Ray Bradbury, Fahrenheit 451, 1953 ;
  • Levin, Un bonheur insoutenable (This perfect Day), 1970 ;
  • Tevis, l’oiseau d’Amérique (Mockingbird), 1980 ;
  • Margaret Atwood, La Servante écarlate (The Handmaid’s Tale), 1985 ;
  • Jean-Christophe Rufin, Globalia, 2004 ;
  • Will Self, le livre de Dave , 2006.
  • Céline Minard, le dernier Monde, 2007 ;
  • Margaret Atwood, Le temps du déluge, 2009 ;
  • Jasper fforde, la route de haut-safran, 2010 ;
  • Starobinets, le vivant, 2011 ;
  • Xabia Molia, Avant de disparaitre, 2011 ;
  • Tejpal, La vallée des masques, 2012 ;
  • Michel Houellebecq, Soumission, 2015 ;
  • Boualem Sansal, 2084, la fin du monde.

وللتوسع في فهم المدينة الفاسدة أو أدب التكهن بالكوارث انظر:

  • Fréderic Claisse, «Futurs antérieurs et précédents Uchroniques : L’anti-Utopie comme Conjuration de la menace », Temporalité [Enligne], 12/2010, mis enligne le 15 decembre 2010, consulté le 9 – 2 – 2016, URL : temporalites.revues.org/1406.

[8]  المديفر، مرجع سابق، ص: 50.

[9]  نفسه، ص: 53.

[10]   نفسه، ص: 54.

[11]  نفسه، ص: 54.

[12]  وائل حلاق: الدولة المستحيلة ترجمة عمرو عثمان، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، 2014، ص: 55 – 56.

للتوسع انظر:

  • Bagnell Bury : The idea of Progress : An Inquiry into its Origin and Groqth, Introduction by Charles A. Pread (Westport, Conn : Greenwood Press, 1982).
  • A. Nibert : History of The idea of progress (New York : Books, 1980).

[13]  انظر الرابط:

[14]  للاطلاع على النصوص الأساسية في الاستشراف الفرنسي انظر:

  • De la prospective, Textes fondamentaux de la prospectives française 1955 – 1966 : Seize texte dont onze de Gaston Berger, trois de Pierre Massé et deux de Jacques de Bourbon Busset, réunis par phillipe Durance, aux éditions L’Harmattan, Paris, 2007.

للاطلاع على الاستشراف الفرنسي انظر بعض المواقع:

  • Centre d’étude et de prospective Stratégique ceps-oing.org
  • Centre d’étude et de prospective sur La science. le-cep.org
  • Futuribles.com.
شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *