مدخل للدراسات المستقبلية - نحو وعي بأهمية الممارسة الاستشرافية-6 -

الرئيسية » الأعمدة » دراسات استشرافية » مدخل للدراسات المستقبلية – نحو وعي بأهمية الممارسة الاستشرافية-6 –

مدخل للدراسات المستقبلية

– نحو وعي بأهمية الممارسة الاستشرافية –

– 6 –

المبحث الثاني: تاريخ استشراف المستقبل

ثانيا: استشراف المستقبل في الفكر الديني

إن المستقبل بدلالته الواسعة والتي تتضمن البعد الدنيوي والأخروي، حاضر بشكل قوي في الخطاب الديني اليهودي والمسيحي والإسلامي؛ سواء في التوراة أو الإنجيل أو القرآن، أو في كتابات فقهاء الأديان السماوية والمفكرين[1].

ويمكن تفسير هذا الحضور القوي لمفهوم المستقبل[2] بالدور الذي قام به الأنبياء والمتمثل في الإشارة إلى الغد والآخرة والمعاد والموت والحشر والنشر والنعيم والعذاب والجنة والنار وغير ذلك من المغيبات المرتبطة بالعالم الآخر، وهي إشارات تتوخى إنهاض النفوس للإقبال على الله، توحيدا وطاعة وعبادة؛ وكذلك تحذير الناس من آفات إنكار وجود الله والجحود والعزوف عن الامتثال للأنبياء.

ويندرج إعلام الأنبياء الناس بأمور مستقبلية دنيوية، ضمن مقصد ترسيخ اليقين برسالاتهم وهكذا فأخبار المستقبل الدنيوي داعمة للإيمان، ومثبتة للقلوب وحاملة للناس على الاعتبار بالمآلات.

إن الحديث عن المستقبل في الكتب المنزلة (التوراة والإنجيل والقرآن الكريم) يتضمن بعدا أخرويا وآخر دنيوي[3]. فأما الأخروي فيشتمل على وصف نهاية العالم أي القيامة ثم لقاء الله، وأهوال الآخرة ونعيمها، وهي أشياء تتجاوز حدود العقل البشري، ولا ينفع معها سوى التسليم والإيمان؛ واستعراض ذلك يندرج ضمن الترغيب والترهيب. أما الحديث حول المستقبل في الدنيا، فيشمل مستقبل الكيانات (امبراطوريات ودول وقبائل وتجمعات بشرية) ومستقبل الأفراد من فقر وغنى ومرض ورضا الله وغضبه.

إن حديث الأنبياء عليهم السلام عن المستقبل، هو وحي من الله، وغاية ذلك الرحمة والهداية والمنفعة الأخروية والدنيوية، حيث قال الله تعالى: ﴿قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله، إلا قليلا مما تأكلون ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون﴾ (سورة يوسف، الآية: 47 – 48). فسيدنا يوسف عليه السلام، أخبر الناس بمستقبل عصيب، ودلهم على وسيلة اتقاء المجاعة والهلاك.

كما حذر نبي الله صالح قومه وأخبرهم بأن قتل الناقة فيه عصيان الله، فعصوه، فدمدم عليهم ربهم بعذاب عظيم. كما أشار القرآن الكريم إلى أن الإيمان يؤدي إلى الفلاح الدنيوي والأخروي، فالإيمان له تأثير على الوضع المستقبلي للأفراد والجماعات، حيث قال الله تعالى: ﴿ولو أن أهل الكتاب ءامنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم﴾ (سورة المائدة، الآية: 65). كما قال تعالى: ﴿ولو أن أهل القرى ءامنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخدناهم بما كانوا يكسبون﴾ (سورة الاعراف، الآية: 96).

كما نبه القرآن الكريم إلى تداعيات الشحناء على مستقبل الجماعة المؤمنة ﴿وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين﴾ (سورة الأنفال، الآية: 46).

كما أكد القرآن الكريم على كون مستقبل المجتمع مرتبط بتغير أحوال الناس ﴿إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له ومالهم من دونه من وال﴾ (سورة الرعد، الآية: 11).

كما أخبر الله نبيه عليه الصلاة والسلام بمستقبل الروم في حربها مع الفرس ﴿ألم، غلبت الروم، في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون، في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون، بنصر الله ينصر الله من يشاء وهو العزيز الرحيم﴾ (سورة الروم، الآية: 1 – 5).

كما أشار القرآن الكريم إلى كون صلاح مجتمع ما ضمانة له من العذاب والأزمات:  ﴿وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون﴾ (سورة هود، الاية: 117).

وبشر الله تعالى عباده بالتمكين في الأرض ﴿ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون﴾ (سورة الأنبياء، الآية: 105).

ويبدو أن الزبور وباقي الكتب السماوية تتضمن البشائر وكذلك التحذيرات من عواقب عدم الإيمان، وعدم احترام السنن الإلهية. فلا يخلو كتاب من الكتب السماوية من التبشير والتحذير ومن الترغيب والترهيب ومن الحديث عن المستقبل الدنيوي والمستقبل الأخروي ومن مستقبل الأفراد ومستقبل الجماعات والحضارات[4].

إن التحريف الذي طرأ على التوراة[5]، مكن رجال الدين اليهود من استثمار النص التراثي حسب أهوائهم وبالتالي فإن ما تضمنته التوراة من نبوءات فيه الصحيح وغير الصحيح، بل ساهم الفكر الديني اليهودي في تأويل نبوءات التوراة، واختلاق نبوءات تبشر اليهود بالاستيلاء على العالم وليس فقط الشرق الأوسط[6].

ويقول أحد الباحثين “(…) وما هذه الآراء سوى تأكيد للرأي القائل بأن تحريف الكتب السماوية وتشويه نصوصها أدى بالأصوليين المسيحيين واليهود على حد السواء إلى الذهاب لأبعد حد ممكن لتحقيق نبوءات ليست أصلا من الكتاب المقدس في شيء. ويشهد على ذلك الدكتور ج. كالفن. كين، الرئيس السابق لقسم الدراسات الدينية في جامعة سانت لورنس في نيويورك إذ يقول: “إن النصوص الكتابية التي ترد فيها هذه النبوءات المفترضة قليلة جدا، كما أن نظرة فاحصة لها تدل على أنها إما غامضة جدا في دلالاتها وبالتالي غير مقنعة، أو أنها نبوءات لأحداث وقعت بالفعل بعد كتابتها بوقت قصير، أو أنها انتزعت من سياقها وأعطيت دلالات ليست واردة أبدا في ذلك السياق” وهذا بالضبط هو ما نراه في مواعظ وكتابات الأصوليين الأمريكيين من مسيحيين ويهوديين يلوحون بالكتاب المقدس ويرددون هذه النصوص النبوئية على مسامع الملايين من المؤمنين الذين لا يتسنى لهم التحقق من صحتها أو دقة تفسيرها. يصف الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي هذا السلوك بـ “هرطقة تشكلت من القراءة الحرفية الاصطناعية لكلام منزل، بهدف جعل الدين أداة للسياسة، بإضفاء القدسية عليها… إنه مرض مميت يصيب نهاية القرن، وهو ما عرّفتُه سابقا باسم الأصولية”[7].

إن الكتب السماوية بريئة من أي قراءة متحيزة لفئة معينة تدعي لنفسها الحق بإبادة الناس والشعوب لتحقيق نبؤات ما. ولذلك فإن الفكر الديني يستثمر مفاهيم المستقبل المتضمنة في الكتب السماوية لبناء مشروعيات سياسية، تضفي القداسة على جيوسياسة الاستحواذ والنهب والاستعلاء على الخلق.

ومن النبؤات المشهورة في التاريخ المعاصر، سفر الرؤيا الذي أثر بشكل عميق على الفكر الغربي. وهناك اختلاف حول صاحب هذا السفر، هل هو يوحنا صاحب المسيح عليه السلام أم شخص آخر؟ كما تباينت مواقف الكنائس المسيحية من نص “سفر الرؤيا”، حيث انقسم رجال الدين حول ضم هذا السفر إلى الكتابات المقدسة المسيحية.

كما هناك اختلاف كبير بين رجال الدين في الكنيسة في قراءة نص سفر الرؤيا، فهناك من يتجه إلى القراءة الحرفية وهناك من يأخذ بالقراءة المجازية. وقد كان أوغسطين (354 – 430م) “بحث قراء سفر الرؤيا وسامعيه على النظر إلى المعركة بين الرب والشيطان والتي يصورها السفر بصورة متقدة كمجاز لـ “الصراع الأخلاقي داخل كل إنسان وفي الكنيسة بعامة” وكان يؤكد أن كل من يفعل غير ذلك فهو ينصاع “لأوهام هزلية”[8].

ويقول الباحث جوناثان كيرش: “إلا أن موقف أوغسطين المتشدد والصارم من سفر الرؤيا لم يفلح تماما في إطفاء النيران التي قصد النص إضرامها في قلوب وعقول قرائه وسامعيه. فسحر بيان السفر لا يقاوم كما قصد يوحنا بالتأكيد. فكان سفر الرؤيا بالنسبة لمن اضطروا للتعامل مع ضغوط الحياة اليومية في عالم العصور الوسطى يمثل الوعد بأن الوباء والجوع والمرض سيعقبه الانتقام من الأعداء على الأرض وثواب الحياة الأبدية في مملكة سماوية وليس في يوم من الأيام، بل قريبا”[9].

ورغم خروج أوروبا من عصر الانحطاط، فلم يتخلص إلى حد اليوم الفكر الغربي من تأثير سفر يوحنا، لم يتخلص المواطن المتدين من جاذبية النص، فسفر يوحنا لازال مساهما في نسج الخيالات والأوهام والطموحات السياسية. ويشير كيرش إلى أن نص سفر يوحنا مادة دسمة لتدعيم أنصار نظرية المؤامرة، فتأويل النص يجعلهم يفسرون كل التحولات العالمية من خلال مفردات ومقولات سفر الرؤيا و”من ثم فكل ظاهرة جديدة غير مألوفة في أمريكا ما بعد الحرب كان المتدينون الرؤيويون يرون فيها تجليا آخر للمؤامرة الشيطانية نفسها. فالثورة التقنية، مثلا والتي أدخلت الحواسب في شتى مناحي الحياة الأمريكية أوحت لبعض قراء سفر الرؤيا أن يروا في أرقام بطاقات الائتمان والأرقام الكودية لتحديد أثمان السلع “وسم الوحش” وكما يقول مؤلف سفر الرؤيا: “لا يقدر أحد أن يشتري أو يبيع إلا من له السمة أو الرسم الوحش أو عدد السمه”. بل إن قلة من الرؤيويين أن عدو المسيح سيكون حاسبا آلياً”[10].

إن تأويل “مفردات المستقبل” والتنبؤات في النص الديني، لازال متوهجا، وخطورة ذلك هو الزج بالعالم في صراعات وتطاحنات. ويتعين إشاعة وعي إيجابي بالمستقبل، فسيد المرسلين عليه الصلاة والسلام يوصي “إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل” حديث رواه البخاري في الأدب المفرد والإمام أحمد بن حنبل في مسنده.

د. خالد ميار الإدريسي

رئيس تحرير مجلة مآلات، فصلية محكمة تعنى بالدراسات الاستشرافية

الهوامش:

[1] – انظر أعمال ضياء الدين سردار:

  • Sardar, Islamc Futures. Op.cit.

[2] – للتوسع انظر:

  • الحوالي، سفر بن عبد الرحمان: المسلمون ودراسات المستقبل دار الايمان، مصر، الاسكندرية، 2000.
  • زيدان عبد الكريم: السنن الإلهية في الاسم والأفراد والجماعات، مؤسسة الرسالة، لبنان، بيروت، ط: 1، 1413هـ.
  • الغيري، محمد بن أحمد حسن: أسس دراسة المستقبل في المنظور الإسلامي، دار الفكر، دمشق، الطبعة الأولى، 2009.

[3] – انظر: المديفر عبد الله بن محمد: الدراسات المستقبلية وأهميتها للدعوة الإسلامية، مرجع سابق (الدروس السابقة)

[4] – زيدان عبد الكريم: السنن الإلهية في الإسلام والأفراد والجماعات، مرجع سابق.

[5] – انظر للتوسع:

طمسن، توماس: الماضي الخرافي للتوراة والتاريخ، ترجمة عدنان حسن، دمشق، دار قدس، 2001.

[6] – لوكمان زكاري: تاريخ الاستشراق وسياساته. الصراع على تفسير الشرق الأوسط، ترجمة شريف يونس، دار الشروق، الطبعة الأولى، 2007.

[7] – شعبان فؤاد: من أجل صهيون. التراث اليهودي – المسيحي في الثقافة الأمريكية، دار الفكر، الطبعة الثانية، 2003، ص: 143.

[8] – كيرش جوناثن: تاريخ نهاية العالم، مكتبة الشروق الدولية، الطبعة الثانية، 2011، ص: 173.

[9] – نفسه، ص: 146.

[10] – نفسه، ص: 255.

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *