محمودي

لم تظهر الرغبة في التعرف على المجتمع الإيراني إلا بعد الثورة التي حصلت في هذا البلد عام 1979 وقادها رجل شيعي يدعى روح الله الخميني، لكن من الزاوية السياسية فقط، إذ تمكن قراء العربية من معرفة جوانب من السياسة الإيرانية عبر كتابين لمصريين، الأول “إيران من الداخل” لفهمي هويدي، والثاني “مدافع آيات الله: قصة إيران والثورة” لمحمد حسنين هيكل، ذي اللسان الطويل. وبين هذا وذاك أصبح الناس يعرفون عن إيران والمجتمع الإيراني معلومات معينة كان الإعلام الغربي يضخها باستمرار، وبدأ التركيز على فكرة التشيع والنزعة القومية الفارسية والباسديج، أي الشرطة الإسلامية التي أنشأها النظام الجديد، والباسدران، أي الحرس الثوري، التي كانت تنتشر في الأزقة والممرات لحراسة قيم الثورة الجديدة وتطويع الخارجين على النظام، وهي نسخة شبه مطابقة للمطوعين في السعودية.

وقد انتظر العالم عشر سنوات لكي يقرأ أول عمل أدبي من نوعه عن مجتمع ما بعد الثورة في إيران، ومن طبيعة الأدب أنه يكمل السياسة، وأحيانا يعينها، وأحيانا ينقل إليك ما هو ثابت في الوقت الذي تدور بك السياسة في موازين القوى المتحركة. لكن رواية “أبدا من دون إبنتي” jamais sans ma fille.

 لبيتي محمودي ليست مجرد رواية، بل قصة حقيقية لامرأة أمريكية تزوجت طبيبا إيرانيا كان يقيم في أمريكا، وانتقلت معه إلى إيران في العطلة السنوية عام 1984، برفقة إبنتهما مودي، على أساس الزيارة فقط والعودة إلى الولايات المتحدة، ولكن الزيارة سرعان ما ستصبح سجنا لمدة عامين، بعدما قرر زوجها، بوزوري محمودي، الاستقرار نهائيا في بلاده. وقضت بطلة القصة أكثر من 18 شهرا في بلد تراه لأول مرة، محاولة الفرار مع إبنتها، وتنقل لنا مشاهد من داخل المجتمع الإيراني لا تختلف كثيرا عن أي بلد شرقي، حيث تنتشر الطقوس الدينية التي تختلط بالخرافات والأساطير، قبل أن تنجح أخيرا في الفرار نحو الحدود التركية، في رحلة شاقة.

وتعكس بطلة الرواية صورة لزوجها كرجل شرقي سرعان ما يعود إلى ثقافته بكل ما فيها من عنف وتطرف، وكيف أنه كان يعيش ازدواجية في شخصيته عندما كان في أمريكا، حيث اقترب من عالم النخبة وأصبحت له مواقف من السياسة الأمريكية كسائر الأمريكييين وانخرط في المجتمع الجديد، ولكن ما أن تقوم الثورة حتى يسعى لخطف الفرص والرجوع إلى بلاده لإيجاد موقع له هناك. وفي تصويرها للمجتمع الإيراني ترسم لنا المؤلفة عالما غريبا من التخلف والطقوسية، خاصة في المزارات الدينية والأضرحة حيث تنتشر الفوضى، وحيث يمكن لأي شخص أن يلقى حتفه لمجرد اتهام طائش بأنه ضد الثورة أو معارض للإمام أو مخالف للإسلام، وكيف أن الغرباء كانوا يتعرضون للملاحقة، خاصة إذا كانوا من الأمريكيين، بسبب العداء بين البلدين، كما تعكس الرواية وضع المرأة الإيرانية في المجتمع الجديد بطريقة لا تخلو من النزعة الاستشراقية.

أثارت الرواية ضجة عالمية في نهاية الثمانينات عندما صدرت، وفي بداية التسعينات عندما تحولت إلى فيلم سينمائي، وفي نهايتها عندما كتبت بيتي محمودي، التي لا تزال تعيش في ميشيجن مع إبنتها، الجزء الثاني من روايتها بعدما لقي الجزء الأول إقبالا واسعا وحصل على جائزة “بوليتزر”. وكان من السهل على إيران أن تحاربها طيلة العقود الماضية، بدعوى أن صاحبتها أمريكية وأن الرواية دعاية ضد الثورة. ولا يمكن أن تكون الرواية كلها دعاية، إلا أن تكون صاحبتها لم تعش بالداخل ولم تر الأمور عن قرب، فمهما كان فيها من مبالغة، وهذا واضح لا شك، إلا أنها تعكس جزء من معاناة الكاتبة التي لا تخفي في عدة فقرات من روايتها تعاطفها مع الإيرانيين واحترامها لقدرتهم على إسقاط إمبراطورية الشاه، ولكنها لا تترد في القول بأنه من الصعب أن تنشأ في مجتمع مثل هذا قيم ديمقراطية على النمط المتعارف عليه في بلادها، غير أن الأهم في كل هذا هو أن أشد أعداء الثورات دائما كانا هما الفن والأدب، حصل هذا مع جميع الثورات، بما فيها الثورة الروسية التي حولت الأدب والشعر إلى بلاغات كاذبة باسم الحزب الشيوعي، وأنا لا أعرف لماذا، هل السبب في الثورات أو في القائمين عليها. 

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *