ما بعد الإنسـان

ما بعد الإنسـان

– قراءة نقدية واستشرافية للإفراط التكنولوجي وتأثيره على الوضع الإنساني –

1: المفهوم والسياقات

مقـدمــة

هناك جدال حاد حول مستقبل الإنسان في الأوساط العلمية في الغرب وخصوصا في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو كذلك نقاش صاخب في الأوساط الإعلامية والمواقع الالكترونية والمنتديات الأنجلوساكسونية بالأساس. والحديث عن إشكالية مستقبل الإنسان، والشكل الذي سيكون عليه، وتحوله وتطوره أو انقراضه؛ مرتبط بسياق التكنولوجيا الرفيعة التي أصبحت عاملا متميزا في تحديد المصير الإنساني.

ويعتبر لفظ ما بعد الإنسان « posthuman » شعارا وليس فقط مفهوما، لحركة فكرية تدعو إلى التحضير لقدوم طور جديد من الإنسان “المعدل”، والمتجاوز للإنسان الحالي. وهي فكرة في غاية الخطورة كما قال فكوياما [1] ، ذلك أنها تمثل متطرف للطبيعة البشرية وجموح مجنون لإلغاء الخصوصيات الإنسانية وتخيل ذات ممتزجة ومنصهرة مع التكنولوجيا المتقدمة، بل هي تجديد لطموح قديم وهو خلود الإنسان ! سنحاول من خلال هذه الدراسة، النظر في مضامين الحركة ما بعد الانسانية ومدى خطورتها على المستقبل البشري. وسنتبنى مقاربات متعددة، مفهومية وتاريخية وسياسية وفلسفية واستشرافية.

فكيف تشكل مفهوم ما بعد الإنسان؟ وما هو السياق الذي ارتبطت به حركة ما بعد الإنسانية؟ وما هي جذورها الفكرية، ومنطلقاتها الفلسفية؟ وما هي المجالات العلمية التطبيقية لها؟ وكيف ستؤثر على السياسات العالمية؟ وما هي مآلات الحركة في حد ذاتها؟ وما هي مآلات الإنسان في سياق هذا الانخراط التكنولوجي غير المسبوق؟

أولا: مفهوم ما بعد الإنسان / وهم الخلود مجددا

يراد بما بعد الإنسان ذلك الكائن الإنساني الذي ستحوله التكنولوجيا إلى إنسان مركب من قطع غيار متعددة، مصنعة في المختبرات فهو “إنسان” معدل وراثيا، يصطلح عليه [2] بـ Cyborg؛ وهو إنسان آلي أو شبه آلي يتجاوز النقص البشري.

وقد تحدث إيهاب حسن [3] عن مفهوم ما بعد الإنسان في سنة 1977، حينما أشار إلى ضرورة فهم التحولات التي ستؤثر على شكل وطبيعة الذات الإنسانية بفعل التطور التقني، وأهمية إعادة التفكير في ماهية الإنسان. وبعد ذلك توالت الكتابات حول إشكالية ما بعد الإنسان، حيث كتب كل من بيرانوفا وهايلس وليفنستون وهالبرستام وغراهام وبادنتون وفكوياما وغيرهم [4] . فمنهم من احتفى بقدوم العصر ما بعد الإنساني، ومنهم من انتقد التفكير في صياغة عصر ما بعد الإنسان.

وما بعد الإنسان هو عصر التميز القادم الذي تحدث عنه راي كورزويل في كتابه [5] “الفرادة قريبة: عندما يتجاوز البشر علم الطبيعة” والذي صدر في 2005. وهذا التميز أو التفرد، هو الإمكانية التقنية الهائلة المتاحة أمام الإنسان، لتحسين قدراته الذهنية والجسدية، وتجاوز كل الأعراض المعهودة في الإنسان والتي تعيقه في تحقيق التفوق؛ ومن ذلك الشيخوخة بل حتى الموت!

يختزل مفهوم ما بعد الإنسان تلك النظرة المزدرية للوضع الإنساني، والشغف بالقوة المتميزة والفائقة، بل كذلك الاستهزاء بالديانات السماوية التي تقر بحتمية النهاية والانتقال لعالم ما بعد الموت. فمفهوم ما بعد الإنسان هو تجديد للصراع القديم بين العلم والدين؛ حيث العلم ما بعد الحديث يحتفي بتفوقه وقدرته على تجاوز وتقويض مسلمات الدين !

وهو دعوة صريحة للدخول في عصر جديد يسلّم فيه الإنسان قدره للآلة الفائقة الذكاء والقادرة على خدمة الإنسان وتمكينه من قهر الطبيعة؛ بل دعوة كذلك للتخلي على الخصائص المتميزة للإنسان والاستسلام لعوالم ما بعد الإنسانية، والانتشاء بلذة التفرد والتميز؟

إن الفكر ما بعد الإنساني الذي هو في طور التشكل، لم يظهر من فراغ، وإنما هو استمرار لفكر قديم كان مفتونا بفكرة الخلود، وبالتالي فتجديد هذا الفكر الآن، قد ارتبط بسياقات جديدة.

ثانيا: سياقات ما بعد الإنسان / التطلع إلى ما بعد التاريخ

إن التاريخ البشري مفعم بالاحباطات ولكن كذلك بالنجاحات والمكاسب، ولكن يبدو أن العلماء الذين بشروا بزمن تكون فيه البشرية في رفاهية تامة، لم يتحقق بشكل كاف وبدون مصائب، ذلك أن التاريخ عرف تسارعا ضد القرن التاسع عشر فبحلوله “كانت فترة من الاكتشاف العلمي المكثف تمضي على قدم وساق، وساعد التقدم الملحوظ في علم والطب على انتشال الناس من الفقر المدقع والجهل، وعلى إغناء حياتهم وتسليحهم بالمعرفة وفتح عيونهم على عوالم جديدة، وفي النهاية إطلاق قوى معقدة أسقطت ملاك الأراضي والسلالات الإقطاعية والقنانة والامبراطوريات الأوروبية” [6]، ولكن رغم ذلك فإن الولوج إلى القرن العشرين والذي ترافق مع التطور العلمي الهائل؛ فإن العالم دفع الثمن غاليا، بسبب امتلاك التكنولوجيا الحربية، التي حفزت الدول الكبرى على توسيع مجالها الحيوي وبالتالي الدخول في صراعات دموية، أسفرت على ملايين من القتلى.

ولذلك فإن سياق تبلور ما بعد الإنسان، قد تشكل في ظل ما يلي:

1- الوضع الإنساني المتدهور [7]

لقد ولّد الخراب الذي عرفته أوربا بعد الحرب العالمية الثانية إحساسا مرا وامتعاضا من الوضع الذي تسبب فيه، فتعالت الأصوات داعية إلى السلم وبناء دولة الرفاه والتساكن والتقدم الاقتصادي واستعمال التكنولوجيا لخدمة الإنسان. فساهم التحالف القوي بين رجال الأعمال والعلماء ومؤسسات الدولة في إطلاق مشاريع علمية ذات فائدة عملية في تطوير مجتمع الصناعة والإنتاج الضخم. في هذه الفترة كانت هناك حاجة ملحة لتطوير العلوم بجميع فروعها وخصوصا العلوم الطبية والصيدلية لضمان صحة جيدة للمواطن / المستهلك، الذي هو اساس وركيزة المجتمع الصناعي وما بعد الصناعي فيما بعد.

وإذا كان المجتمع الغربي، قد حقق قفزة نوعية في تحسين الأوضاع الصحية والعناية الاجتماعية، فإن الخوف من الأمراض القادمة من الجنوب ومن كل أنحاء العالم بسبب عولمة العمل، ستدفع مفكري ما بعد الإنسان إلى النظر بشكل جدي في تجاوز عوامل التهديد ومصادر الخطر على أمن الإنسان المتقدم. وساهم المفكر الألماني أولريش بيك [8] في التنبيه إلى مجتمع المخاطر، حيث أكد على كون المجتمع يصنع بنفسه أسباب دماره وهلاكه. وبالطبع كان لمدرسة فرانكفورت دور أساسي في التنبيه إلى مزالق التقنية والحداثة وضرورة التفكير في الوضع الإنساني.

إن هذا التفكير في تدني الوضع الصحي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والبيئي، استفز عقول رواد الفكر المستقبلي للبحث عن بدائل للوضع العالمي، تكون فيه الحياة مختلفة، وتكون الأرض قادرة على المزيد من العطاء أو البحث عن عوالم أخرى في الفضاء لضمان استمرار العرق البشري.

2- إفلاس النظريات الكبرى أو نهاية الإيديولوجيات

منذ نهاية الحرب العالمية الثانية والفكر الغربي يناقش قيمة وجدوى النظريات الكبرى والموجهة للعالم، ولكن بحكم الصراع المحترم بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، انقسم المفكرون إلى فئة تناصر الفكر الرأسمالي وأخرى تدعو إلى الأخذ بمبادئ الاشتراكية؛ وفئة أخرى تشكك في الحداثة ومنطلقاتها وتسخر من الفكر الإيديولوجي أصلا. حيث دعا فوكو إلى ضرورة التسلم بأنه “قد مرت تلك الحقبة الكبرى من الفلسفة المعاصرة حقبة سارتر وميرلو بنتي، حيث كان على نص فلسفي أو نص نظري أن يعطيك في النهاية، معنى الحياة والموت ويقول هل الله موجود أم لا وما تكونه الحرية، وما ينبغي عمله في الحياة والموت والسياسة وكيف تتصرف مع الآخرين الخ… لقد تكون لدينا انطباع بأنه لم يعد ممكنا اليوم ترويج مثل هذه الفلسفة وبأن الفلسفة قد تكون في حالة تشتت إن لم يكن قد تبخرت فعلا وبأن ثمة عملا نظريا يغلب عليه بشكل أو بآخر طابع التعدد” [9]. لقد ساهم فوكو وديريدا ورورتي وليتار وبصفة إجمالية، ما كان  يسمى بالفلاسفة الجدد، الذين هم امتداد لثورة ماي 1968، في ترسيخ ثقافة رفض الإيديولوجيات ورفض كل التقاليد الثقافية والأنساق المغلفة، كما دعا بستر زلوتردجيك [10] من ألمانيا إلى نبذ الدوغمائية واليقين والاعتقاد بقول وامتلاك الحقيقة.

لذلك اعتبر رورتي بأن في ثقافة ما بعد الفلسفة لن يكون هناك صاحب امتياز في فهم الواقع أو امتلاك الحقيقة، فلا قساوسة ولا فيزيائيين ولا شعراء ولا أحزاب يمكن اعتبارهم أكثر عقلانية وأكثر عملية [11].

إن إفلاس النظريات الكبرى أو نهاية الحكايات الكبرى حسب تعبير ليوتار، تأكد أكثر بعد نهاية الحرب الباردة، حيث انتبه الجميع إلى كون الشعارات السياسية الكبرى لا تفضي حتما إلى تحقيق مجتمع السعادة والعيش الكريم، ورغم احتفاء فكوياما في كتابه “نهاية التاريخ” بانتصار الليبرالية والنموذج الرأسمالي، فقد وجهت له انتقادات كثيرة.

فالزعم الذي جاء في كتاب “نهاية التاريخ” [12] هو كون الإيديولوجية الليبرالية هي منتهى الإبداع البشري وما على المجتمعات إلا الانسياق والخضوع لها وتبنيها.

فالتاريخ في نظره انتهى بانتصار ساحق لليبيرالية وبالتالي ما من وجود لمنافسة ايديوليوجية حادة للديمقراطية الحرة. ويزعم كذلك بأن سمو وصلاحية هذه الإيديولوجية وكمالها يتجلى في كونها تتلاءم مع تطلعات البشرية، فالإنسان مجبول على الرغبة في أن يتم الاعتراف به، والديمقراطية الغربية تمنحه فرصة تحقيق هذا الاعتراف، فهي تكفل له كرامته الإنسانية وتجعله سيدا لا عبدا ! [13]

ولذا كتب فكوياما بأن الدولة العالمية والمتجانسة والتي ستتجلى في نهاية التاريخ هي دولة قائمة على دعامتين هما: الاقتصاد والاعتراف [14]. وأضاف في كتابه (الثقة: فضيلة منشئة لليسر) [15] عنصر الثقة، هذا كأساس لضبط المجتمع ما بعد التاريخي وتحقيق التكامل والازدهار والتماسك.

وإذا كان فكوياما قد بالغ في الاحتفال بسقوط الاشتراكية وتبحح في ادعائه أن لاإيديولوجية بعد الليبرالية، فإن جملة من المثقفين المعروفين برزانتهم في الغرب أعلنوا نهاية الديموقراطية الغربية نفسها وتلاشي الإيديولوجية.

والمعنى الذي يمكن الاتفاق معهم حوله بخصوص المضمون الذي يمنحونه لفكرة نهاية الايديولجيات بصفة إجمالية، هو ذلك الذي ينصرف إلى الاعتقاد بأن المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الحادة والمتراكمة والتي تعاني منها مختلف دول العالم والتي تتجاوز بعضها الحدود الوطنية (الهجرة، المخدرات، البيئة…) لتشمل البشرية بصفة عامة، لم يعد بالإمكان إيجاد حل لها عبر الشعارات السياسية الفضفاضة وإنما عبر التدبير الإداري الناجح الذي يوظف المعطيات العلمية ويراعي القيم. بالفعل لم يعد من المعقول أن تعالج قضايا البطالة والدعارة واستغلال الأطفال والانتحار وتفكك الأسرة وتصاعد درجات التلوث وتنامي الهجرة والجريمة المنظمة؛ عبر شعارات سياسة طنانة يروجها أصحابها من أجل كسب الأصوات للاستيلاء على السلطة وبعدها يتم تجاهل هذه القضايا. ولذلك يعتقد دانيال بل [16] بأن الإيديولوجيات فقدت جاذبيتها.

إن واقع الإفلاس الإيديولوجي وموت الحكايات الكبرى كما يقول ليوتار [17] هو السياق نفسه الذي ساهم في شيوع فكر ما بعد الحداثة الذي يعتبر سياقا لفكر ما بعد الإنسان ومصدرا فكريا له.

3- شيوع فكر ما بعد الحداثة [18] / موت الإنسان

وإذا كان سياق التفسخ الإيديولوجي وتصدع الأنساق الإيديولوجية، قد ساهم في تهيئة فكر ما بعد الإنسان، فإن الفكر ما بعد الحداثي منح العدة النظرية للحركة ما بعد الّإنسانية لإرساء مشروعها.

ففكر ما بعد الحداثة هو تقويض للنزعة الإنسانية وإعلان لموت الحداثة ونقد جذري لمنطلقات الفكر الفلسفي الغربي الحديث، ودعوة إلى التشكيك في مقولة العقل والتاريخ والإيديولوجية والتقدم والتحرر والأنوار والتأكيد على نسبانية الحقيقة والأخلاق. فهو إفلاس المجتمع الحداثي [19] وأزمة عارمة أجهزت على مبدأ السمو الأخلاقي، واحتفاء بقيم الفردانية والمباهاة والبحث عن التميز والسعادة الزائفة والنجومية الفائقة والسطحية. وهو فكر كاسح لمجالات متعددة، يعيد النظر في كل شيء ويفسح المجال لتطرف اللاعقلانية والنسبانية. وهو فكر يؤمن باللحظة واللذة والعوالم الافتراضية وثقافة الخيال العلمي. ولذلك ساهم التطور العلمي والتكنولوجي في إفساح المجال لفكر ما بعد الإنسان، لإطلاق العنان لنزواته وهواجسه وطموحاته؛ فتكنولوجيا اليوم والمستقبل واعدة بتحقيق الأحلام الأكثر طرافة والأكثر جنونا.

4- التطور التكنولوجي المتسارع / جموح الخيال أصبح واقعا

يقول العالم الفيزيائي ميشل كاكو “بحلول نهاية القرن العشرين كان العلم قد وصل إلى نهاية حقبة. كاشفا أسرار الذرة وجزيء الحياة ومخترعا الكمبيوتر الالكتروني. وبهذه الاكتشافات الثلاثة الرئيسية التي انطلقت بتأثير ثورة الكم quantum وثورة الـ DNA وثورة الكمبيوتر، ثم أخيرا التوصل إلى القوانين الأساسية للمادة والحياة والحوسبة.

إن هذه المرحلة البطولية للعلم تقترب من نهايتها، فقد انتهى عصر العلم، وبدأت معالم عصر آخر تظهر” [20].

إن العالم مندهش من التحولات التكنولوجية الهائلة [21]، ومن الطفرة الضخمة في مجال المعلومات وإنتاج المعارف والتي تتضاعف بشكل مبهر لا أحد يمكن التكهن بمدى ذلك ولا تأثيره على المستقبل القريب والمتوسط.

والفكر ما بعد الإنساني استفاد من هذا التطور التكنولوجي لبناء تصوره حول المستقبل أو المرحلة التالية من تاريخ البشرية.

ويمكن اختزال أهم التطورات العلمية التي تعتبر بامتياز سياقا لتشكل ما بعد الإنسانية فيما يلي:

منذ عقود حاولت الدول تحديد لوائح متضمنة للمجالات العلمية في سنة 1990 لائحة تضم التخصصات التالية: [22]

  • التكنولوجيات الدقيقة.
  • التكنولوجيا الحيوية.
  • صناعة علم المواد الحديثة.
  • الاتصالات.
  • صناعة الطائرات المدنية.
  • الإنسان الآلي والماكينات التي تدار ذاتيا.
  • الكمبيوتر (البرمجيات والتجهيزات).

وهذه اللائحة هي المجسدة للمجالات العلمية التي تزدهر يشكل هام ومتسارع، ولكن بالنسبة لرواد ما بعد الإنسان، فإن أهم العلوم والمجالات التي تعتبر بالنسبة إليهم ركيزة للوصول إلى العصر الجديد هي: تكنولوجيا النانو والذكاء الاصطناعي والمعلوميات الجديدة وتكنولوجيات علم الوراثة بالأساس؛ وسنقوم باستعراض أهم التطورات العلمية التي ساهمت في التأثير فيهم.

1.4. تطور علم الوراثة.

يعتبر علم الوراثة من أهم العلوم التي تعرف تطورا كبيرا ومذهلا بحيث كل مرة يتم اكتشاف ما، فيثير النقاش بين العلماء والسياسيين وعلماء الدين والفلاسفة والإعلاميين، بحيث يلف علم الوراثة نقاش أخلاقي وديني وقانوني هام. فعلم الوراثة يمكن العلماء من الجرأة على الطبيعة والكون فالعالمة نورين البريطانية في علم هندسة الوراثة عبرت عن ذلك بقولها “إنني بطبيعة الحال مازلت أتكهن بما ستتمخض عنه تجاربي.. هل ستنفع؟ هل قمت بتصميمها وتجهيزها على الوجه الأكمل؟ .. لكنني أستطيع أن أتكهن أحيانا بأنواع الحياة التي أستطيع تخليقها” ! [23].

نعم يمكن لعلماء الهندسة الوراثة، القيام بتجارب في منتهى الطرافة، فالتخليق هو قدرة وكفاءة نقل صفة كائن أو أكثر ووضعها في كائن آخر [24]. هكذا يعبرون عن تكنولوجيا تقليد نظام وراثي قائم وزرعه في كيان عضوي آخر؛ بل هناك حديث عن حق “براءة اختراع” حيث قال أحد الباحثين” “براءة اختراع” هذا الكائن من حقي فقد شاركت في خلقه !” [25].

وقد حكمت المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأمريكية في الثمانيات بأغلبية خمسة أصوات ضد أربعة، بقانونية تسجيل براءات اختراع الميكروبات وورد في حيثيات الحكم” ان إنتاج مكروب جديد بصفات جديدة مميزة في أي مكروب آخر أنتجته الطبيعة، وبغرض استخدامه في أغراض علمية وإنتاجية خاصة، يصبح ملكا لمن أنتجه، وله الحق في [26] تسجيله باسمه، لأنه من ابتكاره هو لا من ابتكار الطبيعة” ! وبراءة الاختراع هاته تشمل حتى الإنسان المعدل مستقبلا أو ما بعد الإنسان !

ليس من السهل على المتتبع والمتخصص اختزال وتلخيص إنجازات علم الوراثة، فكيف بغير المختص؟ ولكن يمكن القول مع ميشيل كاكو أن علم الوراثة هو من معالم الثورة البيوجزئية التي تضافرت فيها جهود جيل جديد من العلماء جمعوا بين البيولوجيا الجزئية والكمبيوتر والتحليل الرياضي. فقد “كان علماء البيولوجيا في الماضي يدرسون الحياة بتحليل ما يوجد داخل العينات الحية (أي في الجسم الحي invivo) وفي القرن التاسع عشر تعلموا أن يدرسوا الحياة في زجاج (أي في أوعية زجاجية invitro) أما في المستقبل فسيدرسون الحياة عبر الكومبيتر أي في السيليكون[27] “insilico”.

وتحدد مراحل تطور علم الوراثة في أربعة: [28]

  • المرحلة الأولى والتي امتدت ما بين 1839 إلى 1941 وكان من بين أهم علمائها تيودر رشوان وماندل والعالم فيلنغ مكتشف الصبغيات والعالم ولسن الذي اكتشف المورثة المسؤولة عن مرض عمى الألوان والعالم مولر الذي بين كيفية حدوث الطفرات الوراثية.
  • المرحلة الثانية الممتدة من 1966 إلى 1969، التي تميزت بفهم آليات التفاعل بين الذرات والجزئيات وتم اكتشاف وإثبات وجود 46 صبغيا في كل خلية إنسان على يد tijo و levan  وساعد ذلك في تشخيص الأمراض الصبغية.
  • المرحلة الثالثة من 1970 إلى 1996 حيث تميزت بتطور طرق تحليل الأحماض النووية وإمكانية قراءة السلسلة الكيميائية التي تتكون منها الموروثات المختلفة.
  • المرحلة الرابعة من 1997 إلى اليوم ويطلق عليها عصر المورثات. وتميزت بتأسيس طب المورثات وتم استنساخ النعجة دولي واكتشاف الخريطة الوراثية وقراءة الجينوم البشري.
  • ويعرف علم الوراثة تطورا هائلا وخصوصا في اعتماده على علوم المعلوميات.

2.4. المعلوميات واكتساح مجالات المجتمع المعاصر والمستقبلي.

ليس هناك من وصف للتطور المذهل الذي يتحقق في مجال المعلوميات إذ “يتنبأ العلماء بانفجار لم يسبق له مثيل في النشاط العلمي من الآن وحتى العام 2020. وفي تكنولوجيتين رئيسيتين هما قوة الكمبيوتر وتسلسل الـ “د.ن.أ” سنرى صناعات بأكملها تصعد وتهبط على أساس تطورات علمية أخاذة، ومنذ الخمسينيات تطورت فكرة الكمبيوتر وتسلسل “د.ن.أ” يتضاعفان مرة كل عامين تقريبا، فيمكن للمرء أن يحسب الإطار الزمني التقريبي الذي ستحدث خلاله اكتشافات علمية عدة. ويعني هذا ان التنبؤات حول مستقبل الكمبيوتر والتكنولوجيا الحيوية يمكن حسابها كميا بدقة إحصائية معقولة حتى عام 2020.

وبالنسبة للكمبيوتر يحسب معدل النمو الهائل كميا بواسطة قانون مور الذي ينص على أن طاقة الكمبيوتر تتضاعف مرة تقريبا كل ثمانية عشر شهرا (وضع هذا القانون لأول مرة عام 1965 من قبل جوردن مور أحد مؤسسي شركة انتيل، وهو ليس قانون علميا بالمعنى نفسه قوانين نيوتن، ولكنه قاعدة تجريبية تنبأت بذكاء بتطور قدرة الكمبيوتر خلال عقود عدة)، ويحدد قانون مور بدوره مصير مؤسسات الكمبيوتر التي تقدر ببلايين عدة من الدولارات والتي تبنى تصوراتها وخطوط إنتاجها  في المستقبل على أساس توقع نمو مستمر. وبحلول عام 2020 ستكون المعالجات الدقيقة ربما برخص ورق المسودات، وستوزع بالملايين في البيئة المحيطة، مما يتيح لنا وضع أنظمة ذكية في كل مكان. وسيغير هذا كل شيء من حولنا بما في ذلك طبيعة التجارة وثروة الأمم والطريقة التي نتصل ونعمل ونعيش بها. وسيقدم لنا هذا بيوتا وسيارات وتلفزيونات وثيابا ومجوهرات وأموالا ذكية” [29].

إن المعلومات الآخذة في الاتساع، مكنت الإنسان من ولوج عصر جديد من معالجة المعلومات وتخزينها وإجراء عمليات حسابية معقدة، تتطلب عقولا جبارة وأزمنة طويلة، كل ذلك في ثواني معدودة وبدون تعب، بل تمكن المعلوميات من التحكم في إدارة مرافق عمومية عادية أو حساسة. كما أصبحت المعلوميات أداة فعالة في الحرب ما بعد الحديثة، حرب قصف مواقع البيانات والمعطيات، وحرب العوالم الافتراضية. وبالطبع ساهم الذكاء الاصطناعي في نمو هذا المجال العلمي.

3.4. الذكاء الاصطناعي / الآلة الأكثر ذكاءاً من الإنسان.

كما هو معلوم فإن الذكاء الاصطناعي: فهو فرع من علم الحاسوب، وعرفه جون ماكارثي والذي بلور هذا المصطلح سنة 1956 أنه “علم وهندسة صنع آلات ذكية” [30] ويقوم هذا العلم على فكرة أساسية هي محاكاة الذكاء البشري ومضاهاته وتجاوزه من خلال صنع آلات أو تصميم العملاء الأذكياء، لهم القدرة على إدراك المهام المنوطة بهم وإنجازها بدقة وبانضباط تام. ويعتبر معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا ( (MIT من أهم المختبرات العالمية الرائدة في المجال ويعد مجال علم الروبوت من أهم تطبيقات الذكاء الاصطناعي، وقد تم تصميم أول روبوت متحرك سنة 1969 والمعروف باسم[31] shaky في معهد البحوث في ستانفورد وهناك حلم يراود علماء الذكاء الاصطناعي وخصوصا في مجال علم الروبوات، يكمن في تخيل إنسان آلي قادر ليس فقط على تجاوز المقدرة الإنسانية في مجال الذكاء، بل محاكاة مشاعره [32] وعواطفه وامتلاك مقدرة عضوية هائلة وذلك بفعل الامكانات المتاحة عبر تقنية النانو.

4.4. تقنية النانو / التحكم في المتناهي الصغر.

إن تكنولوجيا النانو هي المجال العلمي الذي يدغدغ أحلام وطموحات رواد ما بعد الإنسان فكما يقول كاكو “يدعى أنصار تكنولوجيا الأجهزة النانونية أنها قد تعطينا أيضا نوعا من الخلود، فهم يعتقدون بتجميد الإنسان بعد الموت، ومن تم استخدام أجهزة إنسان آلي جزيئية تعكس تلف الخلية المحتم، الذي يحدث عندما تحطم البلورات الجليدية جدار الخلية (وبالفعل فإن الكثير من المروجين لها وقعوا مسبقا على وثائق لتجميد أجسامهم بعد الموت)” [33].

يعتبر العالم الياباني نوريوتا ينغوشي أوّل من صاغ مصطلح تقنية النانو، قاصدا بذلك “التعبير عن طرق تصنيع عناصر ميكانيكية وكهربائية متناهية الصغر بدقة عالية” [34] وقد سبقه ريتشارد فاينمان (1959) في التساؤل حول إمكانية استغلال والتحكم في جزئيات المادة. كما ساهم العالم الفلسطيني منير نايفة في تأسيس تقنية النانو من خلال تقنية (التأين الرنيني) [35] واعتبر اكتشاف “جيرد بيينج و “هنريك روهر” للمجهر النفقي الماسح [36](Scanning Tuneling Microscope) خطوة جبارة لدعم تقنية النانو حيث مكن المجهر من تصوير وتحريك الذرات وتكوين جسيمات نانونية. وفي سنة 1986، كتب “إريك دريكسلي” كتاب محركات التكوين[37] Engines of creation وتحدث فيه عن أسس تقنية النانو والإمكانات الهائلة التي تعد بها. وفي سنة 1991 استطاع العالم الياباني سوميوليجيما اكتشاف أنابيب الكربون النانونية[38] Carbon Nano Tube، وبعد ذلك توالت الاكتشافات والاستعمالات المتعددة للنانو تكنولوجي.

وتقول الباحثة نهى علوي الحبشي بأن استخدام تقنية النانو متعدد وهام وحددت بعض المجالات والأهداف المستقبلية المتوخاة كما يلي: [39]

المجال

الأهداف الطموحة

الصناعة

تصنيع مواد وأدوات أكثر دقة وكفاءة بخواص مميزة

الإلكترونيات

تصغير حجم الأجهزة وزيادة سرعتها وسعتها وتقليل طاقة تشغيلها

الطب

تطوير أجهزة تشخيصية وتحليلية وعلاجية فائقة الدقة والسرعة والكفاءة.

الصيدلية

تحسين الأدوية الحالية وإيجاد أدوية جديدة أكثر فعالية وأخف ضررا

المواصلات

تخفيف وزن المواصلات لتقليل صرفها للطاقة وتحسين الطرق والجسور

الكيماويات

تطوير مواد محفزة حسب الطلب لتسريع التفاعلات وزيادة المنتجات

الطاقة

إيجاد مصادر بديلة ومتجددة للطاقة وتقليل استخدام البترول والوقود

البيئة

صنع مواد ملائمة للبيئة بتقليل مخلفات المواد وبإمكانية إعادة صنعها.

الفضاء

صنع مواد لا تصنع في الأرض ومنع اختراق الأشعة الكونية للمركبات

الزراعة

مواد تتحلل لتغذية النبات وإبادة الحشرات وتعديل جينات النبات

إن تقنية النانو هي ثورة بحق وليس الغرض عندنا هنا الحديث عن تاريخ تشكل تكنولوجيا النانو ومبادئها وأسسها وتطبيقاتها وإنما فقط الإشارة إليها باعتبارها محدد أساسي في سياق تشكل حركة ما بعد الإنسانية.

د. خالد ميار الإدريسي
رئيس تحرير مجلة مآلات، فصلية محكمة تعنى بالدراسات الاستشرافية

الهوامش:

[1] – FUKUYAMA, F : « the World’s most dangerons ideas : transhumanism » Foreirg Policy (144), 2004, 42 – 43

[2] – KIM, Toffoltti : cyborgs and Barbie Dolls. I.B.Tauris, 2007

[3] – Ibid, p : 10 – 11

[4] – Ibid, p : 11

– Badminton, Neil (ed) :[2000] Post humanism, Newyork. Palgrave

– Fukuyama, F :  [2000] Our Posthuman Future : consequences of the biotechnology revolution/ Neww york/ Farrar, stransand Giroux

– Graham, Elaine :  [2002] Representations of the post human.

– Manchester University Press.

– Halberstam, Judith and Livingstone, Ira,(eds) : [1995] post human Bodies, Indiana University Press.

– Hassan, Ihab [1977] : « Prometheus as Prerformer : towars a Posthumanist culture? » in Michael Benamon and charles Carmella (eds) : Performence in Postmoden culture, Milwnker : center for Twentieth centry studies/ university of wisconsin-Milwankee, 201 – 217.

– Terranova, Tiziana : [1996] : «posthuman unbourded : Artificial EVOLUTION AND High-tech subcultures, in george Robinson, melindu Mash (eds) ? Future Natural : Nature, science, culture, London : routledge, 165 – 180

[5] – Ray Kurzweil : The singularity is near. Viking Press 2006. ويمكن الاطلاع على أعمال الباحث من خلال موقعه: www.kurzweilai.net.

[6]  – ميشيل كاكو: رؤى مستقبلية، ترجمة سعد الدين خرفان. كتاب عالم المعرفة عدد: 270 يونيو 2001 ص: 12.

[7]  – أنظر: بورديو (اشراف): بؤس العالم ترجمة محمد صبح. الجزء الأول. دار كنعان 2010.

– بورديو (اشراف): بؤس العالم الجزء الثاني نهاية العالم. ترجمة سلمان حرفوش. دار كنعان 2010.

– بورديو (اشراف): بؤس العالم الجزء الثالث منبوذو العالم. ترجمة رندة بعث. دار كنعان 2010.

[8] – Beck, U : Sociéte de risque. Flammarion.2003.

[9] – أنظر مجلة بيت الحكمة – ملف حول فوكو العدد الأول أبريل 1986 ص: 18.

[10] – الشيخ  محمد والطائري ياسر: مقاربات في الحداثة وما بعد الحداثة. دار الطليعة، بيروت 1996، ص: 43.

[11] – للتوسع انظر: – محمد الجديدي: الحداثة وما بعد الحداثة في فلسفة ريتشارد رورتي، منشورات الاختلاف. الطبعة الأولى 2008.

[12] – فكوياما: نهاية التاريخ، ترجمة حسن الشيخ دار العلوم 1993.

[13] – نفسه، ص: 239 – 240.

[14] – نفسه، ص: 251.

[15] – FUKUYAMA , F : Trust : the social virtue and the creation of prosperity. Newyork Free press 1995.

[16] – ليوتار: الوضع ما بعد الحداثي. ترجمة أحمد حسان. دار شرقيات 1994 ص: 55 – 56.

[17] – للتوسع انظر: خالد ميار الادريسي: خطاب ما بعد الحداثة في العلاقات الدولية – دراسة تحليلية ونقدية لاستراتيجية تفكيك النماذج النظرية – أطروحة لنيل الدكتوراه في الحقوق. جامعة الحسن الثاني 2000. (غير منشورة).

[18] – أنظر: خالد ميار الادريسي: “نقد قيم ما بعد الحداثة نحو ترميم الذات الإنسانية” ضمن عبد السلام الطويل (تنسيق): سؤال الأخلاق والقيم في عالمنا المعاصر. أعمال الندوة الدولية للرابطة المحمدية للعلماء الدار البيضاء 25 – 26 – 27 ماي 2011، ص: 323 – 348.

[19] – Bell, : « the end of  ideologies in the west in, Jeffry Alexander, Seidmen (eds) : Culture and society Contemporary debates. Cambridge University Press .1990

[20] – ميشل كاكو، مرجع، ص: 12

[21] – « Futur : les avancées technologiques 2025, 2050, 2100 » Le monde, Hors-série. Février – Avril, 2013.

[22] – ميشل كاكو، مرجع، ص: 24.

[23] – عبد الحسن صالح: التنبؤ العلمي ومستقبل الإنسان، كتاب المعرفة، عدد: 48، 1981 ص: 115.

[24] – نفسه، ص: 115.

[25] – نفسه، ص: 117.

[26] – نفسه، ص: 117.

[27] – ميشل كاكو، مرجع سابق، 204.

[28] – انظر ثورة الجينوم – علم الوراثة – في موقع أجيال برس  www.ajialpress.com

[29] – ميشل كاكو، مرجع سابق، ص: 25.

[30] – أنظر مصطلح الذكاء الاصطناعي في موسوعة ويكيبيديا www.wikipedia.org

[31] –  ميشل كاكو، مرجع سابق، ص: 107.

[32] – Benoit Helme : “Répliquant ou assistant à chacun son robot”. In le monde Hors-série, Février, Avril p 913 p14 – 17

[33] -. ميشل كاكو، مرجع سابق، ص: 344.

[34] – نهى علوي حبشي: ما هي تقنية النانو؟ نسخة الكترونية، وزارة الثقافة والإعلام في المملكة السعودية 2011، ص: 11.

[35] – نفسه، ص: 12.

[36] – نفسه، ص: 12.

[37] – نفسه، ص: 12.

[38] – نفسه، ص: 13.

[39] – نفسه، ص: 47.

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *