ما بعد الإنسان - 2

الرئيسية » الأعمدة » دراسات استشرافية » ما بعد الإنسان – 2

المنطلقات

ثالثا: المنطلقات والأسس الفكرية.

إن الفكر “ما بعد الإنساني” هو ذلك الخيال الجامح نحو عالم تتلاشى فيه الفوارق بين الإنسان والآلة، حيث يتم الانصهار والاندماج في مكونات تقنية النانو والذكاء الاصطناعي والبيوتكنولوجيا والمكونات العضوية الطبيعة للذات الإنسانية. ويعتبر العالم المتخصص في الذكاء الاصطناعي “راي كرزويل”[1] الداعية الأكبر لفكر ما بعد الإنسان وقد أسس جامعة التفرد[2] التي تهدف تكوين خبراء وباحثين في مجالات الذكاء الاصطناعي والنانو والمعلوميات على التفكير والإبداع لحل مشاكل البشرية القادمة والتمهيد كذلك لعصر ما بعد الإنسان.

فماهي الأسس والمنطلقات التي يستند إليها هذا الفكر؟

1 – المنطلقات والأسس الفكرية / التمهيد للتحرر من “الإنسانية”.

تأسست جمعية عالمية لما بعد الإنسانية، تدافع وتروج لفكر ما بعد الإنسان، وتدعو المجتمع المدني العالمي إلى الانخراط في فكر ما بعد الإنسانية، وتضمن بيان الجمعية المبادئ التالية:

  • المستقبل البشري واعد بتحولات كبيرة ستغير الوضع الإنساني، وخصوصا التطور التكنولوجي الذي يمنح الإنسان إمكانية البقاء في الحياة أكثر، كما يمكن تطوير إمكاناته العقلية والذهنية والعضوية وبالتالي إنهاء حالات الألم والمعاناة التي يواجهها البشر…
  • ضرورة الانخراط في أبحاث معمقة لفهم هاته التحولات القادمة…
  • الاتجاه ما بعد الإنساني يعتقد إمكانية الاستخدام الفعال لهاته التحولات التكنولوجية ولا يرى تحريمها أو منعها…
  • الدفاع عن حق البشرية في استغلال التطور التكنولوجي لتطوير كفاءتهم وذواتهم…
  • للتخطيط للمستقبل يجب الوعي بأهمية هذه التحولات كما يجب تفادي أي حرب معتمدة على التكنولوجيا الدقيقة من شأنها القضاء على العنصر البشري…
  • يجب خلق منتديات لمدارسة هاته القضايا وصياغة وضع اجتماعي عالمي جديد وتبني قرارات مسؤولة…

التيار ما بعد الإنساني يحتضن أفكارا ورؤى متعددة ويتبنى مبادئ النزعة الإنسانية الحديثة ويناصر العيش الجيد لكل من له وجدان نابع من ذكاء بشري أو صناعي أو ما بعد إنساني أو حيواني؛ ولا يدعم هذا التيار أي توجه سياسي.

وقد وقع على هذا البيان الذي اختصرنا أفكاره وتوجهاته، مجموعة من المفكرين، وتمت المصادقة على البيان بعد تعديله في 4 مارس 2002 و 1 دجنبر 2002.

ويمكن تجديد المرتكزات الأساسية للتوجه ما بعد الإنساني أو تيار ما بعد الإنسان فيما يلي:[3]

  • الاعتقاد بالعجز الإنساني.
  • الاعتقاد بضرورة تجاوز النقص البيولوجي والنفسي والذهني للإنسان.
  • تكنولوجيا النانو والذكاء الصناعي والمعلوميات الجديدة وتكنولوجيا علم الوراثة هي العلوم المشكلة للتحول إلى ما بعد الإنسان.
  • الإيمان بإمكانية الوصول إلى التفوق الخارق.
  • القدرة على التحكم في إمكانات الذات وتجاوزها.
  • الوصول إلى تمديد العمر وتحسين مستوى العيش، بل الوصول إلى الخلود والاستمرار المطلق.

إن النموذج النظري الذي يتأسس عليه فكر ما بعد الإنسانية هو التّوق إلى الخلود وتحدي فكرة “الخالق” المتعالي الذي تتحدث عنه الديانات السماوية، وتعويضه بخالق جديد هو الإنسان نفسه. فالفكر ما بعد الإنساني لا يؤمن بمركزية الإنسان[4] فقط بمدلولها العلماني الحداثي، والتي تفيد قدرة وكفاءة العقل الإنساني على تدبير شؤونه بدون واسطة الدين أو غيره، بل يؤمن بفكرة أكثر تطرفا وهي كفاءة “الإنسان الجديد والقادم” على خلق نفسه وغيره، وتجاوز مبدأ القدر المحتوم والنهاية المحتومة.

فالخلود هو الهدف والتطبيق التقني الجامع هو الوسيلة. إذ يقول خوسيه لويس كورديرو، وهو المؤسس المشارك للجمعية الفنزويلية لما بعد الإنسانية “إن مفهوم الخلود يمكن أن نتعامل معه من منظورين: الأول ديني أو فوق طبيعي وآخر علمي أو طبيعي. وكلا المنظورين يفيد في تفهم أحسن للتاريخ، الذي يقف وراء أكثر المسائل الوجودية التي على الجنس البشري مواجهتها: ألا وهي السعي للخلود.

لقد جاء الدين أولا لكن العلم الآن يرينا طريق تحقيق الخلود فعليا”[5].

إن بنية النموذج النظري لما بعد الإنسانية هي العلاقة الوطيدة بين فكرة الخلود إذا الدفع بالعلم ما بعد الحديث لتحقيق ذلك. فكيف تبنى الحجج لذلك؟ أي ما هو النظام الحجاجي الذي يعتمده فكر ما بعد الإنسانية؟

يمكن فهم ذلك أولا من خلال الإنصات إلى تحليل راي كرزويل، الداعية الكبير لما بعد الإنسانية.

يعتقد كرزويل بأن هناك حاجة لإعادة النظر في مفهوم البشرية، حيث يقول “قبل نهاية القرن المقبل، لن تظل الكائنات البشرية، هي أكثر الكائنات ذكاء ومقدرة على كوكب الأرض، ولكن دعني أتراجع عن هذا القول، فالعبارة السابقة تعتمد على تعريفنا للبشرية. ونرى هنا اختلافا عميقا بين قرنين، فالقضية السياسية والفلسفية الأساسية للقرن المقبل في تعريف من نحن”[6]. ويستغرق الباحث في سرد التحول الكبير والبطيء الذي عرفته ساكنة الأرض و”الأنواع” التي انقرضت حيث يقول كان هناك العديد من تحت الأنواع للإنسان العاقل، فقد ظهر إنسان نياندرتال منذ نحو 35 إلى 40 الف سنة. ورغم صورتهم الوحشية، فإن النياندرتاليين  أنشأوا ثقافة معقدة(…) لسنا متأكدين تماما مما حدث لأبناء عمومتنا من سلالة إنسان نياندرتال، لكنهم فيما يبدو دخلوا في صراعات مع أسلافنا المباشرين من سلالة Homo Sapiens الذي ظهر منذ نحو 90 الف سنة. بدأت كثير من الأنواع وتحت الأنواع الشبيهة بالبشر في ابتكار التكنولوجيا. ولم يبق إلا أكثر هذه الأنواع الفرعية ذكاء وعدوانية. وقد رسخ هذا نموذجا سيعيد نفسه في التاريخ البشري. وهو أن الجماعات الأكثر تطورا من الناحية التكنولوجية هي التي تفوز بالسيطرة وهو امر لا يبشر بخير في المستقبل، فالآلات الذكية سوف تتفوق علينا في القرن الحادي والعشرين من حيث الذكاء والتعقيد التكنولوجي.

هكذا لم يبق إلا تحت النوع Homo Sapiens Sapiens وحده من بين بقية الأنواع البشرية منذ نحو 40 ألف سنة”[7].

ويبدو جليا أن راي كرزويل يعيد إحياء الفكر الدارويني والتأكيد على كون “البشرية الحالية” ما هي إلا نوع فرض نفسه عبر التطور العضوي للاحياء وبالتالي فالمنظور ما بعد الإنساني، يرى أن الكائن المقبل هو استمرار للبشرية في شكل آخر.

وباعتبار أن التكنولوجيا محدد أساسي في هذا التطور، فالباحث والداعية لما بعد الإنسانية يؤكد على حتمية تطور الحوسبة والتكنولوجيا.

فالتكنولوجيا ليس فقط حتمية وإنما هي كذلك “عملية متسارعة بطبيعتها، شأنها شأن تطور أشكال الحياة الذي أوجدها، واستغرقت أساسات التكنولوجيا – مثل صنع حافة حادة من الحجر، حقبا حتى تصل إلى حد الكمال، مع أنه بالنسبة للتكنولوجيا التي أبدعها الإنسان تعني الحقب آلاف السنوات بدلا من مليارات السنوات التي استغرقها تطور أشكال الحياة لكي يبدأ.

ومثل تطور أشكال الحياة، تسارع معدل تطور التكنولوجيا إلى حد بعيد مع مرور الزمن…”[8].

ويستدل كرزويل بقانون مور على التطور السريع للحوسبة، والذي يفيد بأن إنتاج الشرائح الالكترونية سيتطور بشكل مذهل إلى درجة لن يزيد سمك الطبقة العازلة في الترانز ستورات عن بضع ذرات[9].

إن هذا التطور المذهل لا يمكن أن يفضي إلا إلى ظهور آلات فائقة الذكاء. ومن هنا يتساءل “هاهو سؤال آخر مهم لفهم القرن الحادي والعشرين: هل يمكن لذكاء أن يبتكر ذكاء آخر أكثر ذكاء منه؟”[10].

كل الدراسات ذات التوجه ما بعد الإنساني تؤكد ذلك، بل تدعو إليه وتحتفي به وتهيء الإنسانية إلى عصر آخر لن تكون فيه هي الأكثر ذكاء. فالتطور المذهل لعلوم المعلوميات والذكاء الاصطناعي والنانوتكنولوجيا والعلوم المعرفية والتداخل فيها يمكن من صناعة وإنتاج الآلات فائقة الذكاء، بل قدرة هذه الآلات على إنتاج نفسها وتطوير مقدراتها وكفاءتها.

إن علم الذكاء الاصطناعي متوجه إلى محاكاة المخ البشري بل تحميل المخ على الكومبيتر الشخصي. فيقول “سيكون السيناريو الأكثر تحديا لكنه في النهاية قابل للتنفيذ هو مسح مخ شخص ما لرسم خريطة المواقع محاور الألياف العصبية axons، والزوائد الشجرية في الخلايا العصبية dendrites، والخلايا الصغيرة ما قبل المشبكية presynaptic vesicles ، والمكونات العصبية الأخرى، ويمكن عندئذ تخليق كل تنظيم المخ على كمبيوتر عصبي ذو قدرة كافية ربما في ذلك محتويات ذاكرته”[11]

فمن سيكون هذا الشخص الذي حمل مخه “عندما نمسح مخ شخص ما ونركب ملف عقله الشخصي في وسيط حوسبي مناسب، سيبدو “الشخص” الناشئ الجديد للمراقبين الآخرين كما لو أن لديه إلى حد بعيد لا نفس الشخصية، والتاريخ والذاكرة مثل الشخص الأصلي الذي تم مسحه، والتفاعل مع الشخص المركب الجديد سيبدو مثل تفاعل مع الشخص الأصلي، وسوف يدعي الشخص الجديد أنه نفس الشخص القديم وسيكون لديه الذاكرة التي تكشف أنه نفس الشخص، الذي شب في بروكلين، وظهر ككائن خارق في ماسحة هنا، وتنبه في آلة هناك. وسيقول “أمر عجيب إن هذه التكنولوجيا تعمل بالفعل..” وهناك الأمر البسيط الخاص بجسم “الشخص الجديد” ما نوع الجسم الذي سيكون لملف المخ الشخصي الذي تم تركيبه: جسم الإنسان الأصلي، أم جسم تم تحسينه، أم جسم اصطناعي، أم جسم تم تركيبه بالهندسة النانونية، أم جسم افتراضي في بيئة افتراضية؟ هذا سؤال مهم”[12].

إن تحليل كرزويل يفضي إلى القول بحتمية الانصهار البشري مع الآلة، لأن المخ الاصطناعي ستكون له مقدرة هائلة، “ومع تحميل أنفسنا، سوف نوسع أنفسنا أيضا بدرجة كبيرة، تذكر أن حوسبة – 1000 دولار في 2060 سوف تكون لها القدرة الحسابية التي تصل إلى تريليون مخ بشري. لذلك قد تضاعف أيضا الذاكرة بتريليون مرة، مما يوسع إلى حد بعيد من قدرات التعرف والتفكير المنطقي، ونصل أنفسنا بشبكة اتصالات لاسلكية ناقدة. وعندما نكون فيها، يمكننا إضافة كل المعرفة الإنسانية، وكقاعدة بيانات يمكن الوصول إليها في الانترنيت بالفعل وكمعرفة تمت معالجتها وتعلمها بالفعل باستخدام نوع الفهم الإنساني الموزع”[13].

إن التطور المذهل كذلك للعلوم الطبية والمتصلة بالتطورات المدهشة في مجال الهندسة الوراثية والنانوتكنولوجيا، أصبحت واعدة بتمكين الإنسان بتحويل جسمه وتمكينه من “قطع غيار” في مجالات متعددة (صمامات القلب، أقدام، يد اصطناعية، أصابع اليد…) ومنذ سنوات هناك زراعة للأسنان والأثداء. كما هناك إمكانية استخدام تكنولوجيا الخلايا الجذعية لإحياء أعضاء متلفة. فإذا كان تحويل الأجسام قد بدأ فإذا تحويل المخ هو كذلك ممكن حسب كرزويل، إنها مسألة وقت فقط.

وحتمية الانصهار مع الآلات، مرتبطة عند كرزويل بحتمية البقاء البشري الذي يفترض إنقاذ البشرية من الانقراض بفعل تطور “الأنواع المخلقة”.

وهكذا فالتطور التكنولوجي حتمي، وقدرة الإنسان على تجاوز حدود قدراته الجسمانية والعقلية “عن طريق التكنولوجيا أمر يعينه على البقاء”[14].

إن تفكير كرزويل يفضي به إلى القول بأن هناك حاجة إلى الخلود وعدم الفناء، فحتمية البقاء تفرض بدورها حتمية الخلود. ففي تقديره فإنه “لن يكون هناك قابلية للفناء مع نهاية القرن الثاني والعشرين. ليس بالمعنى الذي عرفناه، وليس إذا اغتنمت تقنية تحميل المخ في القرن الثاني والعشرين. وحتى الآن كانت الوفيات مرتبطة بطول عمر كياننا المادي. وعندما يتحطم الكيان المادي، تلك كانت المشكلة. بالنسبة لكثير من الأسلاف، يتلف الكيان المادي بالتدرج قبل أن يتحلل (…) عندما نعبر الحد الفاصل لتركيب أنفسنا في تقنية الحوسبة لدينا، ستقوم هويتنا على ملف عقلنا المتطور. سوف تصبح برمجيات software وليس عتادا [hardware” [15 !!

إن الحديث والتفكير حول الخلود، قد فصل فيه الحديث كرزويل في كتاب مشترك حول مسألة الخلود[16]، حيث سعى إلى برهنة قدرة التكنولوجيا الجديدة على إطالة العمر وتجاوز عصر الأمراض. كما بين في كتابه “كيف تخلق دماغا؟”[17] الأفكار التي أشار إليها في كتابه عصر الآلات الروحية.

ويمكن القول بأن كتب كرزويل، تدافع عن الحتميات التالية:

  • حتمية تغير البشرية.
  • حتمية تطور الحوسبة والتكنولوجيا.
  • حتمية الانصهار البشري في الآلة.
  • حتمية البقاء وإنقاذ البشرية من الانقراض.
  • حتمية الخلود.

إن المنطق المهيمن في كتابات كرزويل وما بعد الحركة الإنسانية، عموما. هو ضرورة الاقرار بضعف الإنسان وبأنه في حاجة إلى التكنولوجيا الفائقة بتجاوز ضعفه بل للبقاء إلى الأبد.

بعد خاتمة الكتاب، قام كرزويل بسرد الأحداث المرتبطة بالاكتشافات التكنولوجية، كما صاغ توقعاته المستقبلية ومن ذلك أنه مع عام 2099 يقول:

“هناك نزعة قوية نحو دمج التفكير البشري مع عالم ذكاء الآلة الذي ابتكره الإنسان في البداية.

لم يعد هناك أي تميز واضح بين البشر والكمبيوترات. أغلب الكيانات الواعية ليس لها وجود مادي دائم.

كيانات الذكاء المعتمدة على الآلة والناتجة عن نماذج موسعة للذكاء الإنساني تزعم أنها إنسانية، رغم أن أمخاخنا لا تقوم على العمليات الخلوية المعتمدة على الكربون، ولكن بالأحرى على ما يناظرها من العمليات الالكترونية والفوتونية.

وأغلب هذه الكيانات الذكية لا ترتبط بوحدة لوحدة معالجة حوسبة محددة. وإلى حد بعيد يتجاوز عدد البشر المعتمدين على البرمجيات هؤلاء الذين لا يزالون يستخدمون الحوسبة الطبيعية المعتمدة على خلية العصبون.

حتى من هذه الكيانات البشرية الذكية التي لا تزال تستخدم العصبونات المعتمدة على الكربون، هناك استخدام في كل مكان وكل وقت لتقنية الزراعة العصبية، التي تتيح زيادة ضخمة لقدرات الإدراك والفهم البشرية.

والبشر الذين لا يستخدمون مثل هذه الزراعات عاجزون عن المشاركة المهمة في الحوار مع هؤلاء الذين يستخدمونها. هدف التعليم، والكائنات الذكية، هو اكتشاف معارف جديدة لتعلمها، خطط هندسة الفيمتو (هندسة على مستوى الفمتومتر أو جزء من ألف من تريليون من المتر) تثير الجدل.

متوسط العمر لم يعد مصطلحا قابلا للتطبيق بالنسبة للكائنات الذكية.

بعد ألفيات متعددة منذ ذلك الحين… الكائنات الذكية تشكل رأيا حول مصير الكون”[18].

هكذا يتصور كرزويل مستقبل البشرية أو الكائنات الذكية القادمة !!

إن عصر الفرادة[19] الذي يراه كرزويل قريب، هو عصر تجاوز الإنسان لمقدرته ولحدوده العضوية والنفسية والعقلية. والكاتب مؤمن ومعتقد بشكل كلي في التكنولوجيا فهي “الخالق الجديد” !!.

ويستعمل الباحثون مفهوم cyborgization (يقابلها بالعربية السبرجة) وهي عملية تطعيم أو دمج عدد ووسائل الكترونية في الكائن الحي، للدلالة على بداية التفرد أو الطريق الأول للاندماج التكنولوجي – البشري والمفضي للانصهار الكامل.

لقد ساهم فكر كرزويل في تخصيب النقاش حول ما بعد الإنسانية والدفاع عنها ومنطلقاتها، باعتباره من أكبر المختصين في مجال الذكاء الاصطناعي، وقد تولى مؤخرا مهمة في مؤسسة جوجل التي بدورها مقتنعة بأفكار كرزويل حول التطور التكنولوجي المتسارع والمفضي إلى حضارة أخرى.

إن النظام الحجاجي في فكر كرزويل مستند في كليته على منطق الحتمية التكنولوجية وهو يعرفها كما يلي:

“حيث إن التكنولوجيا هما استمرار التطور بوسائل أخرى، فهي أيضا تشترك في ظاهرة السرعة الأسية، والكلمة مشتقة من الكلمة اليونانية techn التي تعني حرفة أو فن وكلمة logia التي تعني دراسة، لذلك فأحد معاني التكنولوجيا هو دراسة التشكل، ويشير التشكيل الموارد لهدف معين. وأنا استخدم كلمة موارد بدلا من كلمة مواد لأن التكنولوجيا تمتد إلى تشكيل موارد غير مادية مثل المعلومات.

وكثيرا ما تعرف التكنولوجيا على أنها ابتكار الأدوات للسيطرة على البيئة، لكن هذا التعريف ليس وافيا تماما، فالبشر لا ينفردون باستخدام الأدوات أو حتى ابتكارها، فحيوان إنسان الغاب الذي يعيش في سومطرة في مستنقع سواك باليمبينج Suaq Balimbing يصنع أدوات من الفروع الطويلة لفتح فجوة في أعشاش النمل الأبيض (…) الشيء الوحيد الذي ينفرد به البشر فقط هو تطبيق المعرفة – المعرفة – المسجلة – في صنع الأدوات، وتمثل قاعدة الشفرة الوراثية للتكنولوجيا الناشئة، ومع تطور التكنولوجيا تطورت أيضا وسائل تسجيل قاعدة المعرفة هذه، من الوسائل الشفهية في العصور القديمة إلى سجلات التصميم المكتوبة للحرفيين في القرن التاسع عشر إلى قواعد بيانات التصميم بمساعدة الكومبيتر في العقد الخير من القرن العشرين.

(…) ينفرد الإنسان العاقل باستخدام وتشجيع كل ما رآه صورة من صور التكنولوجيا: الفن واللغة والآلات، وكلها تعبر عن التطور بوسائل أخرى…”[20]

إن كرزويل كباقي ما بعد الإنسانيين، ينحاز إلى مفهوم محدد للتكنولوجيا وهي القدرة والكفاءة في إنتاج المعرفة وتطبيقها لخدمة سعادة الإنسان.

واعتبر جاك إيلول[21] أيديولجية السعادة من أهم محددات فكر الأنوار وكذلك في فكر ما بعد الإنسان، والسعادة الإنسانية كامنة في مفهوم التقدم، حيث يعتبر الفيلسوف ماكس مور[22] ما بعد الإنسانية اتجاها فلسفيا ينحو بالبشرية نحو وضع ما بعد إنساني، وهو اتجاه فكري كذلك يشترك مع الحركة الإنسانية في الإيمان بالعلم والعقل والارتباط بالتقدم.

ويعتبر كل من الفيلسوف السويدي بوستروم (N. Bostrom) ودافيد بيرس (D.Pearce) الانجليزي، المؤسسان للجمعية الدولية لما بعد الإنسانية[23]، المدافعان عن التوجه ما بعد الإنساني والداعيان إليه، بحيث أكدا على كون التكنولوجيا قادرة على تمكين الإنسان بقدرات ومهارات لم يخلق بها.

وقد عبر كل منهما على توجهات الجمعية من خلال الإعلان ما بعد الإنساني الذي أشرنا إليه سابقا. وبين بوستروم أفكاره وتعريفه لما بعد الإنسانية في دراسة[24] صدرت سنة 2003.

فما بعد الإنسانية عند بوستروم هي الاتجاه الفكري والثقافي الذي يؤمن بإمكانية الاستعانة بالعقل الأداتي لتنمية الكفاءات والمهارات الإنسانية. ودراسة مختلف مخاطر التكنولوجيا على الوضع الإنساني وتحويل ذلك إلى صالحه وبناء مستقبل بديل للإنسانية. وما بعد الإنسانية في نظره امتداد للنزعة الإنسانية من حيث الإيمان بمركزية الإنسان وتنمية حقوق الإنسان والديموقراطية والتسامح والحرية. والانطلاق من مفهوم الحرية، لتمكين الإنسان من تطوير ذاته، وعدم الانحسار في الإطار الضيق للنزعة الإنسانية، بحيث يمكن تشجيع التفكير والبحث وخصوصا في مجال التكنولوجيا للولوج إلى عالم ما بعد الإنسان[25]. كما يعرف مفهوم ما بعد الإنسان Posthuman بانه الوضع الذي تسعى إليه ما بعد الإنسانية Transthumanism. كما أن مفهوم عبر الإنسان Transhuman، هو وضع ما بين الإنسان وما بعده[26]. ويعرف الذكاء الفائق [Superintelligence [27 بذلك “الإنسان” الذي يمتلك كفاءات ومهارات فائقة في مجال الإبداع العلمي والحكمة والكفاءة الاجتماعية.

وعموما يمكن القول بأن ما بعد الإنسانية تتسم بما يلي:[28]

  • الترابط بين المجالات المعرفية (نانوتكنولوجيا وبيوتكنولوجيا والمعلوميات والعلوم المعرفية والتي تلخص في NBIC. وهي علوم ستمكن الإنسان من تجاوز نقصه وضعفه وتنمية مهارته العقلية والنفسية والعصبية عبر الذكاء الاصطناعي وتحميل المعطيات الرقمية إلى دماغه.
  • السمة الثانية هي التفرد الذي أشار إليه كرزويل والتي تعني توقع عصر التميز الخاص لكائن ما بعد الإنسان، والذي سيعرف بامتلاك الآلات لقدرة خلق نفسها بنفسها وبالتالي سيختفي الإنسان، ليحل محله كائن جديد “ما بعد الإنسان” أو كائن فائق الذكاء سيقرر في مصير الكون بكامله.
  • السمة الثالثة مرتبطة بأهداف وهواجس ما بعد الإنسانية والتي تكمن في الرغبة الجامحة للتحرر من الطبيعة والتي اعتبرها دافيد بيرس مصدرا للضعف  والمعاناة والألم. فالفكر ما بعد الإنساني يدعى حمل هم إسعاد البشرية وهي سعادة مادية بالأساس، تكمن في تمكينه من عيش سهل ومترف بدون الم ولا معاناة ولا مرض ولا شيخوخة بل بدون موت !!
  • ستعرف فيما بعد على مصادر الفكر ما بعد الإنساني الذي يستمد مرجعيته الفكرية وأسسه من عدة تيارات منها الداروينية والنفعية والإلحادية وفكر نيتسه والخيال العلمي.

د. خالد ميار الإدريسي
رئيس تحرير مجلة مآلات، فصلية محكمة تعنى بالدراسات الاستشرافية

الهوامش:

[1]  – Ray Kursweil : Humanité 2.0 – la bible du changement. Seri 1.2007.

[2]  – www.singularityu.org.

تعتبر كل من غوغل ووكالة (Nasa) من شركاء الجامعة التي تتوخى تكوين قادة المستقبل على مواجهات القضايا المرتبطة بالتكنولوجيا وتأثيرها على المصير العالمي.

انظر: www. neohumanitas.org

[3]  – خالد ميار الادريسي: نقد قيم ما بعد الحداثة مرجع سابق، ص: 345 – 346.

[4]  – هناك من يرى مثل نيك بوستروم (N.Bostrom) في دراسته حول ما بعد الإنسانية بأن هذه الحركة هي امتداد للنزعة الإنسانية;

أنظر: N.Bostron : The humanist Faq.(2003) p. 4, Published by the World transhumanist Association. www.transhumanism.org.

[5]  – خوسيه لويس كورديرو: الدين والعلم والخلود. ضمن …… واغنر: الاستشراف والابتكارية والاستراتيجية. ترجمة صباح صديق الدملوجي.

مركز دراسات الوحدة العربية 2009 ص: 145.

[6]  – راي كرزويل: عصر الآلات الروحية . عندما تتخطى الكمبيوترات الذكاء البشري. الطبعة الثانية: دار كلمة 2010 ص: 32.

[7]  – نفسه.

[8]  – نفسه، ص: 33.

[9]  – نفسه، ص: 40.

[10]  – نفسه، ص: 63.

[11]  – نفسه، ص: 168

[12] – نفسه، ص: 169.

[13]  – نفسه، ص:  171.

[14]  – نفسه، ص: 36.

[15]  – نفسه، ص:173.

[16]  – Ray Kursweil : T.Grossman : Serons-nous immortels ? dunod 2006.

[17]  – R, Kursweil : how to create a mind ? Viking Adult 2012.

[18] – راي كرزويل: عصر الالات الروحية ص: 369.

[19] – Ray Kursweil : The Singularity in near. Viking Adult 2005.

[20] راي كرزويل: عصر الالات الروحية ص:  34 – 35.

[21] Jean-Luc Porquet : Jaques Ellul, l’homme qui avait (presque) tout prévu. Le cherche-midi. 2003-

[22]  – www.maxmore.com/transhum.htm.

[23]  – تأسست الجمعية سنة 1938، واستعملت لفظ وشعار  .(Humanity+)

[24]   – Nick Bostrom : The transhumanist Faq. General Introduction. Version2.1(2003) oxford univesity.

Publishd by the World Transhumanist Association. www.transhumanism.org.

[25] – Ibid pp 3-5.

[26]  – Ibid pp 5 -6.

[27]  – Ibid p 12.

[28]  – يمكن الرجوع إلى الدراسات التالية:

– Rémi Sussan : Les Utopies posthumaines. Omnisciences 2005.

– Olivier Pyens : la Condition posthumaine. Flammarion 2007.

– J.M.Besnier : Demain les posthumains. Hachette. 2009.

– J.D.Vincent et G.Ferone : Bienvenue en Transhumaine.rasset 2011.

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *