في الفعل الثقافي

الرئيسية » الأعمدة » حروف » في الفعل الثقافي

لم يحظ اصطلاح بالتداول والاستعمال والبحث والاهتمام مثل الثقافة، فتجد أمامك العدد غير القابل للحصر من المقاربات والمناهج التي رامت تحديد هذا المسمى الواضح والغامض في الآن نفسه والذي ليس إلا الثقافة، ذلك أنها الحاضر في مختلف مناشط الإنسان النظرية والتأملية، والعملية والميدانية كذلك، إنها مقدمة ونتيجة للفعل الحضاري الإنساني تختمر فيها عصارة تجربته وخبرته وشخصيته لتطفح بأسرار كينونته الواعية واللاواعية، ولذلك تعددت وجهات النظر في الثقافة من الناحية النفسية والاجتماعية والانثربولوجية واللغوية والفنية  والمعمارية والسياسية والاقتصادية، وغيرها من العلوم التي قصدت فهم دينامية الإنسان الحضارية المادية والمعنوية، بغية إبراز معالمها وكيفيات تبنينها وتشكلها.

فالثقافة ليست شأنا من ضمن شؤون أخرى أو جانبا من الجوانب التي يمكن معالجتها بشكل منعزل، لأنها حاضرة في كل شيء بشكل إرادي ولا إرادي، فهي ضمير المجتمع ووجدانه، ومن ثم ينبغي التمييز بشكل جلي بين التدبير والفعل الثقافي، بحيث يصح تنظيم الشأن الثقافي وإحسان تدبيره بما يتطلبه من مواكبة مؤسساتية تراعي تحسين ظروف إنتاجه وجودته، في حين يتميز الفعل الثقافي بنهوض المثقف بأعبائه في مختلف المضامير، حيث تعتبر الحرية مكونا من مكوناته الأساسية التي تحفز على الإبداع والابتكار والاختراع، وهذا الفعل هو مجلى الرؤيا الجامعة التي ينهل منها ويصدر عنها مما يعكس الشخصية الثقافية لأمة ما، وخصوصا منها ذات التاريخ التليد والتي انصهرت مكوناتها المختلفة عبر القرون، لتشكل فسيفساء لا تكتمل جماليتها إلا بالأخذ بعين الاعتبار بكل جزئياتها التي إذا ما انخرم منها جزئي إلا وافتقدت إلى جاذبيتها الملهمة للعطاء المتجدد، بحيث تكون تلك الخصوصية الثقافية نابعة في الأصل من التراكم العملي للجهود المبدعة السابقة، ومنفتحة على الكونية التي ليست في  حقيقتها إلا تظافر الذكاءات الإنسانية  المختلفة، وليس مجرد استنساخات تجنح إلى المطابقة، وتنبذ الاختلاف الذي هو سنة الحركية الكونية.

إن الثقافة شأن جماعي يغتني بتنوع أفراده وتعدد مشاربه، وتظهر ملامحها في العلاقات الإنسانية البسيطة، وفي الإنتاج بمظاهره المختلفة سواء منها “التقنية “المحض أو الأكثر تعبيرا عن مكنون الإنسان وتطلعاته وبنائه للعوالم الممكنة وغير الممكنة، فلا يمكن اختزال  الفعل الثقافي في  أنشطة دون غيرها، كما ترسخ في بعض الأذهان، بل هو أوسع وأوعب  يعكس درجة الوعي والتمكن من الاختيارات الحضارية الكبرى التي تختطها وترتضيها أمة لنفسها، فهو  بمثابة الوعاء الذي يؤطر أوجه الفعل الإبداعي بتجلياته المتنوعة سواء البسيط منها أو المركب، الشفهي أو المكتوب، العالِم والعامي، … إلى غير ذلك من التقابلات التي تصبح بفعل الثقافة وحدة متجانسة ومتواشجة ومتكاملة تعود بالنفع على المجتمع كله، بحيث تلمس آثاره في التمثلات المختلفة للمشروع المجتمعي الذي اختار وجهة إجماعية يجد كل فرد فيه، أي فرد، مكانه ومكانته، والتي تجعله مساهما بشكل فعال في هذا الفعل الثقافي العام والمصاحَب بمؤسسات تتقن فنون التفاعل الإيجابي مع إبداعية المثقف واستشرافيته.     

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *