في العلاقة بين الديمقراطية و التنمية

الرئيسية » الأعمدة » تأملات فكرية » في العلاقة بين الديمقراطية و التنمية

بدعوة كريمة من جمعية البحوث والدراسات لاتحاد المغرب العربي أسهمت بدراسة حول بناء “الدولة الوطنية الحديثة وصعوبة الانتقال اديمقراطي في الوطن العربي”، وذلك ضمن فعاليات الندوة العلمية الدولية التي نظمتها الجمعية يومي الأربعاء والخميس الموافق لـ 27و 28 نوفمبر 2013، بمقر مؤسسة الأرشيف الوطني التونسية. بمشاركة نخبة من الباحثين المغاريين حول موضوع : أية تنمية وأية ديمقراطية في مرحلة الثورات العربية

 انطلقت في مداخاتي من التأكيد على أن عمليات الانتقال الديمقراطي رغم أنها تختلف باختلاف التجارب التاريخية، إلا أن هناك العديد من الفرضيات التي تحاول أن تفسر صعوبة الانتقال نحو الديمقراطية.. غير أن التفسير الذي يهمنا أكثر من غيره في هذا المقام هو الذي يعلل صعوبة الانتقال نحو الديمقراطية في المجتمعات العربية بإشكالية بناء الدولة الوطنية الحديثة باعتبار أن هذه الدولة تعاني، في كثير من الحالات، من عدم اكتمال بنائها المؤسسي، وعدم رسوخ شرعيتها، وخضوعها لمنطق العصبيات التقليدية.. مما يجعلها غير مؤهلة لاحتمال التعددية السياسية وتكريس  قيم المواطنة وسيادة القانون التي تقع في صلب العملية الديمقراطية.

كما انطلقت من فرضية مفادها أن التنمية الإنسانية الشاملة في أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، وفي ضمانها لجميع الأجيال المتعاقبة من الحقوق والحريات الإنسانية، لا يمكن تصورها إلا في كنف دولة ديمقراطية؛ تضمن التداول السلمي على السلطة بناء على الشرعية الانتخابية القائمة على سيادة الأمة وسمو القانون.

 وهو ما يضمن تفعيل المنافسة بين مختلف الأحزاب والقوى السياسية على أساس البرامج الإصلاحية، ويعزز شرعية الأداء. ويعيد الاعتبار لإرادة الأمة التي تتحقق حريتها من خلال تعدد الخيارات أمامها. كما أن الدولة الديمقراطية من خلال تمثلها لقيم ومبادئ وآليات الحكامة الجيدة تسهم في تفعيل آليات محاربة شتى مظاهر الفساد، وتعمل على حماية المال العام خاصة فيما يتصل بإجراءات وشروط إبرام الصفقات العمومية..

وبناء على هذا المنظور التفسيري فقد دللت على أن نجاح المغرب في الاستيعاب الإيجابي لمضاعفات الحراك الثوري العربي يعود بالأساس إلى توافره على النصاب الضروري من تماسك البناء المؤسسي القانوني والدستوري لدولته. وهو ما تعزز بمسلسل من الإصلاحات السياسية والتنموية والحقوقية التي تم الانخراط فيها انطلاقا من تسعينيات القرن الماضي..

وهي الإصلاحات التي تم تدشينها بتعديلين دستوريين خلال حقبة التسعينيات؛ الأول سنة 1992 والثاني سنة 1996، وهي التعديلات التي جاءت تعبيرا عن التفاعل المثمر بين الإرادة الملكية والمذكرات المطلبية الإصلاحية لأحزاب الكتلة الديمقراطية؛ حزب الإتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية وحزب الإستقلال وجزب التقدم والإشتراكية.

وهي التعديلات الدستورية التي تم تعضيدها بجملة من المكتسبات الحقوقية وبوجه خاص تجربة العدالة الانتقالية التي قادتها هيئة الإنصاف والمصالحة في مرحلة دقيقة ومهمة في سيرورة التطور الذي عرفته بلادنا، منذ بداية التسعينات..

وتعتبر هيئة الإنصاف والمصالحة، كآلية للعدالة الانتقالية، ثمرة من ثمرات هذا التطور التدريجي، الصعب والمركب في حل المشاكل والملفات المرتبطة بماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، ومحصلة التفاعلات والمناقشات على مستوى الطبقة السياسية والقوى الفاعلة في المجتمع المدني، للبحث عن أحسن السبل لتسوية نزاعات الماضي وحلها بشكل عادل ومنصف، وبذلك شكل نموذجا فريدا في فضائنا الحضاري العربي والإسلامي وتجربة متميزة على الصعيد الكوني.

فمن ضمن حوالي أربعين تجربة عبر العالم، تم اعتماد أول تجربة للإنصاف والمصالحة على هذا النمط، في ظل استمرارية النظام السياسي الملكي القائم باعتباره نظاما دستوريا وديمقرطيا وبرلمانيا، وفي سياق مراجعة تاريخية بالغة الجرأة والثقة في الذات الحضارية.

وهو النظام الذي يتمتع فضلا عن شرعيته الدينية والتاريخية، وشرعية الأداء في تدبير السياسات العامة والإستراتيجية للدولة في مختلف المجالات التنموية، بشرعية نضالية تجد ترجمتها في ملحمة الملك والشعب في مواجهة كل المآمرات الاستعمارية، وهي الملحمة التي تم تتويجها باختيار السلطان محمد الخامس للمنفى إلى كورسيكا تم إلى مدغشقر بدل الإذعان إلى المخططات الاستعمارية الرامية إلى إغراء الأسرة المالكة بامتيازات خاصة مقابل التفريط في السيادة الوطنية. وهو الاختيار الذي يفسر كيف أن زعيم اليسار في المغرب، وأحد أقطاب الفكر الماركسي على الصعيد العالمي الأستاذ المهدي بن بركة هو من تكفل بتنظيم عودة السلطان وأسرته الملكية من المنفى.

وهي الشرعيات التي تم تكثيفها في الشرعية الدستورية الحديثة القائمة على فصل السلطات وتعاونها، وسيادة الأمة، وسمو القانون، واستقلال القضاء، وضمان الحقوق والحريات كما هو متعارف عليها دوليا، وبما لا يتعارض مع روح الإسلام ومقاصده السمحة. وفي هذا السياق فقد أبرزت أن الوثيقة الدستورية الحديثة تعد، في عمقها، امتدادا عصريا لعقد البيعة القائم تاريخيا وشرعيا على الشورى واختيار الجماعة من خلال أهل الحل والعقد لأولي الأمر.

كما أبرزت في الورقة كيف أن هذه الأضرب من الشرعية والفاعلية التاريخية هي التي جعلت المؤسسة الملكية القائمة على إمارة المؤمنين تمثل قطب الرحى بالنسبة للإجتماع السياسي المغربي، وتتمتع بقدرة لافتة على استيعاب مختلف القوى الوطنية؛ سواء تعلق الأمر باليسار مع حكومة التناوب التوافقي، أو الإسلاميين المعتدلين مع حزب العدالة والتنمية..

كما أوضحت كيف أن منطق التراكم التدريجي الذي حكم هذه الإصلاحات هو الذي يفسر استجابة المغاربة، في سوادهم الأعظم، للمضمون الإصلاحي التي استبطنه دستور 2011، الذي عرض خطوطه الكبرى جلالة الملك محمد السادس في خطابه التاريخي تزامنا مع هذا الحراك الاجتماعي المغربي الذي راهن على الملك في إحداث الإصلاحات ولم يطالب برحيله كما رأينا في دول أخرى.

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *