في الحاجة إلى فقه سياسي إسلامي متجدد

الرئيسية » الأعمدة » تأملات فكرية » في الحاجة إلى فقه سياسي إسلامي متجدد

لا ريب أن بلدنا، بالنظر إلى قيام نظامه السياسي والدستوري على مؤسسة إمارة المؤمنين وعلى المرجعية البينة للإسلام في ديباجة ومتن دستوره الجديد، يعد من أكثر البلدان المطالبة بإرساء أسس فقه سياسي إسلامي معاصر، يصدر عن الخصوصية التاريخية والحضارية والدستورية المغربية لينفتح على أحدث ثمرات الكسب الإنساني في مجال الحكامة المؤسسية، والعقلانية القانونية والسياسية..

إن موضوع التطبيقات المعاصرة للشورى يحيلنا إلى أن هذه التطبيقات محكومة بحقل الاجتهاد العقلي المقاصدي، انسجاما مع كون منطقة الفراغ أو العفو التشريعي في مجال النظرية السياسية الإسلامية يعد بالغ الرحابة والاتساع. وهو ما يجعل المقاربة المقاصدية لتدبير الشأن السياسي كنظرية وكممارسة مقاربة بالغة الحيوية والأهمية في بناء وصياغة النماذج والمشاريع والقرارات وفي تنزيلها.. خاصة وأن السياسة ليست مجرد تدبير لاختلاف مكونات الجماعة السياسية على مختلف الموارد المادية والرمزية، وإنما هي، أكثر من ذلك، تدبير لمصالحها وحماية لأمنها الإنساني..

إن مفهوم السياسة، باعتبارها تدبيرا ديمقراطيا للشأن العام، يجد أصوله الواضحة والمتميزة في أولوية الأمة على الدولة، وهي الأولوية التي تجد تفسيرها في كون القرآن المجيد يوجه خطابه للأمة وليس إلى الدولة. كما يجد أصوله في ارتباط تدبير الشؤون العامة للمجتمع بالفعالية الحضارية للأمة من خلال العديد من المؤسسات أهمها: مؤسسة الجماعة، ومؤسسة الوقف، ومؤسسة القضاء، ومؤسسة الحسبة..وفعالية الأمر بالمعروف والنهي على المنكر، في تفاعل مع العلماء وسواد الأمة..

ذلك أن حق وواجب الأمة في المشاركة في تدبير الشأن العام يعد حقا وواجبا أصليا للمجتمع بمقتضى التكليف الإلهي، جاء التعاقد الدستوري ليعززه، وليس أمرا مستحدثا.

في مقاربتنا لموضوع الشورى في مقارنتها بالديمقراطية، يتعين أن نستحضر ونعي مسافة الخلف التاريخية والحضارية، المرجعية والقيمية الحاكمة لكلا المنظومتين السياسيتين الغربية والإسلامية، ولكلا التجربتين دون أن يفضي ذلك إلى خلق قطيعة بين المنظومتين الديمقراطية والشورية.. ذلك أن الطبيعة التجريبية والتاريخية والاجتهادية للممارسة السياسية تجعل النظر في تدبير الشأن السياسي مفتوحا على المستقبل، وقابلا لاستيعاب أهم تطورات الكسب الحضاري للإنسانية انطلاقا من رؤية مقاصدية وظيفية محددة المعالم..

 وتبقى الأهمية المرجعية للنص المؤسس كتابا وسنة، بغض النظر عن نسبية وتاريخية التجربة السياسية الإسلامية؛ فهو يستبطن منظومة قيم سياسية معيارية بالغة الغنى (العدل، المساواة، الحرية، المروءة، الغيرية، التسامح، التكافل..) غير أن التفعيل التاريخي لمنظومة هذه القيم يتوقف على المنظور التأويلي المستلهم لها، وكذا على طبيعة السياق الحضاري الحاضن لها..

ولمعترض أن يتساءل: هل يمكن الحديث عن مجالات تطبيق الشورى في مجتمعات لم تحسم بعد مرجعيتها الحاكمة، ولازالت تعيش تمزقا بين مرجعيتين، وهو تمزق له كلف حضارية باهضة؟ وما السبيل إلى رأب هذا التمزق؟

الواقع أنه رغم الوجاهة الظاهرة لهذا الاعتراض إلا أنه يصدر عن رؤية “مثالية” لا تاريخية؛ تسقط الطبيعة المعيارية المطلقة للنص على التمثل والتنزيل التاريخي لهذا النص، وهو التنزيل الذي لا يمكن إلا أن يكون نسبيا غير مطلق، وأن فلسفة ومقصدية التنزيل الإلهي تقتضي هذه النسبية وتستدعيها..وهو الأمر الذي لم تعن معظم الأدبيات اللإسلامية بإبرازه وتجليته..

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *