فلسفة التذكر

الرئيسية » الأعمدة » حروف » فلسفة التذكر

يعلم الجميع أن الشعور بفقدان القدرة على التذكر الجيد والسليم والإحساس بتلف الذاكرة يعتبران من المخاطر التي تهدد صحة الفرد، وتنذره بضياع جزء حيوي يمكنه من الاتصال بالعالم، فالإنسان يحيى زمنه بأبعاده كلها ماضيا كانت أو حاضرا أو مستقبلا.

فالذاكرة هي المخزون الذي تتجمع فيه التجارب والخبرات، وتختلف وجوه التعاطي معه من خلال التمكن من الآليات والمناهج التي بها يستطيع المرء أن يحسن الاستفادة منه بمعرفة وجوه تصريفه وتكييفه مع المستجد والمتحول من الأحوال.

وإذا كان مسمى الإنسان يتضمن النسيان باعتباره طبيعة بشرية تدل على الضعف والنقص الذي يميزه من حيث هو كائن بشري، فإنه يبقى في حاجة دائمة إلى التذكير والتذكر، حتى لا تنفلت منه خيوط الانتباه والتركيز على مقصدية سيره وإبحاره على سفينة الوجود التي لا تعرف صحوا وهدوءا دائما ولا غيوما واضطرابا أبديا، فإن اشتغال آليات تفعيل الذاكرة المذكرة تعتبر إنجازا مركزيا تفاوتت الحضارات المتعاقبة في إتقان فنونه وعلومه، وهندسة معالمه، من أجل تحقيق الحضور والاستمرار في الوجود في التاريخ  الذي لا يرحم من نسي أو تناسى أو تعرض لمحو ذاكرته بطريق أو آخر. فالمتأمل لصفحات التدافع الحضاري، يرى كيف أن درجة الإنسانية والوحشية تقاس بمدى الحفاظ على الإرث البشري الذي نحتته قرون طويلة من المعاناة من أجل بنائه، ليأتي التالي ليمد جسور الامتداد به ودفعه إلى الأجيال اللاحقة، لتبلوره وفق شروطها الحاضرة، من خلال تنمية ملكة التملك الإنساني العام، والذي يعترف بإبداعية الإنسان كائنا من كان، لتتحقق بذلك الطفرات الحضارية التي بلغت ما بلغته اليوم. غير أنه في سياقات تطفح بتدني منسوب الآدمية، وتضخم نوازع البهيمية، تجد أن الإجهاز بشكل همجي يطال الذاكرة بمختلف مكوناتها المعنوية والمادية، لتكتشف فظاعات إحراق الخزائن والمكتبات وإغراقها، وهدم المعالم والمنشآت والمشاهد التي تخلد الرموز والتواريخ، مما يجعل من مثل هذه الأعمال التخريبية نوعا من السعي إلى البدء من الصفر، والعودة بالإنسان إلى بدائية يفتقدها هذا النوع من التدمير للحضارة والتمدن.

إن الذاكرة واشتغالها ليست استظهارا وإتقانا لفنون الببغاوية التي لا تستلذ شيئا إلا تكرار نفسها، وتخلد إلى كسل استنساخي يوهم نفسه بالحفظ والحفاظ، فهذا لا يمكن إلا أن يحيل نوع إلى من الثقافة الجامدة التي تهدد بالانقراض. إذ بالتحفيز على الإبداع والابتكار، وعدم الجمود على ما رسمه الأولون والسابقون، يتجدد ويدوم هذا المنجز الذي لم يقنع المتقدمون باستصنامه، بل عملوا على بث الروح فيه من خلال اجتهاداتهم المتنوعة.

وهكذا عبر مختلف الذكاءات والإلماعات والعبقريات الفردية والجماعية حتى استوى معمارا حضاريا في حاجة ملحة عبر الأزمان لهذه الروح الوقادة التي تحفظ الذاكرة من التآكل والنسيان والطمس والمحو، عبر وعي كبير بتمفصلات السياق المعاصر، والإمساك بتشعبات الحاضر، وتمثل عميق لأسرار الذاكرة التي تتمنع عن أشكال التحنيط والتجميد وتستفز العقلاء للإحياء والتجديد.

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *