فرنسية من بني عثمان (1)

الرئيسية » الأعمدة » أوراق » فرنسية من بني عثمان (1)

إذا كان عمل المؤرخ يقتصر على سرد الأحداث الكبرى فإن عمل الروائي يتجاوز ذلك إلى البحث في الأحداث الهامشية الصغيرة والتفاصيل التي يغفلها المؤرخ لأنه لا يحتاج إليها، وإذا جاز استعمال نوع من الاستعارة فإن المؤرخ حين يكتب عن السفن الحربية ونشاط القراصنة فوق سطح البحر يكتب الروائي عن الحيتان الصغيرة تحت السطح وكيف تتفاعل مع تحرك السفن في الأعلى. هذه المقارنة تصلح مدخلا للكلام عن رواية كينيزي موراد “De la part de la princesse morte”، فقد كتب الشيء الكثير عن سقوط الإمبراطورية العثمانية بجميع اللغات، وقسط معتبر مما كتب بغير العربية نقل إليها، ولكن المعالجة الروائية تظل مدخلا مهما يساعد على قراءة تلك المرحلة، ليس لأنها تعكس الحقيقة بشكل مطلق ولكن بالعكس، لأنها لا تفعل ذلك، وتحافظ على صدقية الأحداث التي يذكرها المؤرخ لكنها تزيد عليها بالغوص في أعماق المجتمع لكي تترجم لنا ما حصل في أعماق المجتمع، من زاوية المعالجة الروائية التي تعتمد عنصر الخيال كواحد من عناصر أخرى، مع أن الكتابة التاريخية نفسها هي نوع من الرواية للماضي.

أثارت الرواية جدلا واسعا وجلبت العديد من القراء وترجمت إلى عشرات اللغات، لأنها تعالج قضية قرأ عنها الغربيون ما كتب لهم عنها بطريقة موجهة، فالغرب هو صاحب تسمية “الرجل المريض” التي أطلقت على الإمبراطورية العثمانية، وهي تسمية أطلقت في وقت دقيق كانت جميع القوى الغربية تتسابق عليها لكي تأخذ حصتها، تماما كما نرى في الأفلام الوثائقية مجموعة من الذئاب تحاول أن تسقط بقرة وحشية لا تريد أن تستسلم ثم يبدأ كل واحد منها في الأكل من الجانب الذي يقابله. لعب ذلك الإسم دورا دعائيا أولا، لأنه كان موجها لإقناع العرب بأن المظلة العثمانية على وشك الانهيار وبأن عليهم أن يضعوا أيديهم في أيدي دول الغرب لإنقاذ أنفسهم، وقد خدع العرب كما بات معروفا اليوم، وقصة الشريف حسين أمير مكة ولورانس العرب معروفة للجميع، فقد خدع الأمير لأن بريطانيا لم تف بالوعد الذي أعطته إياه بتنصيبه ملكا على دولة عربية متحدة رسمها في خياله، ووجد في الأخير أنه حارب إلى جانب الأوروبيين لطرد العثمانيين من الحجاز ونجد ولكنه لم يكسب شيئا. حارب لكي يرجع إلى البيت وتأكل بريطانيا الغلة، والغريب أن حركة الشريف حسين ضد العثمانيين سميت بـ”الثورة العربية الكبرى” عام 1916، أثناء الحرب العالمية الأولى، أي في نفس السنة التي وقعت فيها اتفاقية سايكس بيكو الشهيرة بين فرنسا وبريطانيا من أجل تقاسم النفوذ في المشرق العربي. كانت بريطانيا وفرنسا تحثان العرب على القتال ضد العثمانيين لكي يتم عزلهم في النهاية والانفراد بهم، وهذا ما حصل، ولنا أن نتصور كيف أن تاريخ العرب الحديث مزور إلى أقصى حد، كأن الذي كتبه هم الغربيون، وهنا يمكننا التساؤل: هل هذا تاريخ حقيقي أم رواية كاذبة؟

بالرغم من أن المؤلفة لا تسعى إلى إعادة كتابة تاريخ تلك المرحلة، إلا أنها تسقط في هذا الأمر بطريقة غير مباشرة لدى مصادفتها للأحداث السياسية في الطريق وهي تروي قصتها. فالكاتبة الفرنسية تنتمي إلى الأسرة العثمانية التي حكمت جزءا كبيرا من العالم الإسلامي خلال قرون، وجدها الأعلى، والد جدتها لأمها، هو السلطان مراد الخامس الذي أسقط عن الحكم من قبل عبد الحميد الثاني عام 1909 وعاش تحت الإقامة الإجبارية حتى وفاته عام 1918، بينما بقيت أسرته الصغيرة، أي جدة الكاتبة ووالدتها التي كانت آنذاك في مرحلة الطفولة، تحت الإقامة الإجبارية إلى عام 1922 تاريخ مغادرة السلطان وحيد الدين محمد بن عبد المجيد تركيا إلى سويسرا.

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *