«عيد العرش» بعد عام من إقرار الدستور الجديد

الرئيسية » إبداع وتنمية » «عيد العرش» بعد عام من إقرار الدستور الجديد

سفينة المغرب تبحر في عصر الثورات العربية أكثر اطمئناناً ورسوخاً

haytham chalabiيعيش المغاربة هذه الأيام أجواء الاحتفال “بعيد العرش” الذي يصادف للمرة الأولى منذ عقود الأجواء الروحانية لشهر رمضان المبارك، الذي يحتفي به المغاربة عادة بشكل استثنائي. ما يميز احتفالات “عيد العرش” في المغرب هذه السنة، والتي تصادف الذكرى الثالثة عشر لاعتلاء العاهل المغربي الملك محمد السادس عرش المملكة المغربية، هو استمرار المغرب في تقديم النموذج الاستثنائي في إدارة شؤونه السياسية والعامة في محيط عربي وإقليمي ودولي غاية في الاضطراب والضبابية. فسفينة الثورة السورية لا تزال تبحر في بحر من الدماء، بينما تتخبط نظيرتها المصرية في بحر من العشوائية والارتجال. أما سفينتي الثورة في كل من ليبيا وتونس –مع الفارق بين التجربتين- فلا يزال كم الأسئلة  المعلقة أكبر بما لا يقاس من حجم الإجابات التي نجح الفرقاء السياسيون في وضعها واختبارها وتحقيق حد أدنى من الإجماع الوطني حولها من قبل غالبية أبناء الوطن، وهو وضع لا توجد التجربة الرائعة للشعب اليمني بعيدة عنه. يضاف إلى ما سبق أجواء تسخين متفاوتة الحرارة على الجبهات السودانية والأردنية والجزائرية، وترقب في باقي الدول العربية التي لا تحتل أخبارها صدر نشرات الأخبار.

فبالانتقال إلى إدارة دفة البلاد في هذا الخضم المضطرب، تبرز العبقرية المغربية، التي يشترك فيها للأمانة على حد سواء، الجالس على عرش البلاد، والمواطنون وممثلوهم من قوى سياسية وأهلية. فعبقرية العرش تكمن في إدراكه لأهمية عنصر الوقت في إدارة الأزمات، ونجاحه في خلق توافق عريض حول دستور متقدم ينقل البلاد نقلة جبارة للأمام، بمشاركة ومباركة شعبية قل نظيرها، عبقرية ساهمت في بلورتها القوى السياسية عبر ترجمة هذا الدستور الذي أقر قبل سنة تقريبا من الآن إلى انتخابات حرة ونزيهة جاءت بالإسلاميين إلى دفة تسيير الشأن العام، ليس كطفرة كما يحلو للكثيرين القول، وإنما كسياق طبيعي، وفي حجم طبيعي يعكس تواجدهم وسط المواطنين، مما أهلهم لقيادة تجربة ائتلافية ما تزال تتكرر منذ نهاية عقد التسعينيات. لم يُضع العرش وقته وجهده ورصيده الشعبي في المكابرة والمساومة أمام احتجاجات الشارع –على محدوديتها-، ولم تُضع القوى السياسية نفس الوقت والجهد في مناكفات ومزايدات كانت ستربك المشهد وتعقده كما هو حاصل في الكثير من البلدان العربية في أعقاب ثوراتها التي أطاحت طغاتها دون أن تنجح في إزالة أنظمتها، وأخيرا، لم يُضع المواطنون –وممثلوهم من قوى المجتمع الأهلي- الفرصة من أجل انتهاز اللحظة التاريخية، وانخرطوا بإيجابية في التفاعل مع النقاش الدائر حول الدستور الجديد، والانخراط في تجسيد مضامينه عبر الانتخابات، والمؤمل أن يستمر هذا الانخراط ويتزايد مع الوصول إلى تفعيل تربة “الجهوية الموسعة” عبر الانتخابات المحلية العام المقبل، وهو الرهان الأبرز في الدستور الجديد. صحيح أن مجتمعا في مثل غنى وحيوية المجتمع المغربي لم ولن يعدم الأسئلة التي تشغله في سعيه لتجسيد مضامين هذا الدستور، وتحقيق التطلعات التي يصبو إليها غالبية المواطنين، لكنه نقاش مثمر لا يثير خشية تجاه المستقبل ولا تشكيكا في مآلاته.

إن الفرق ما بين النقاش الحيوي هنا في المغرب، وما هو جارٍ في بلدان أخرى، أن هدف النقاش واضح، أطرافه تتكلم لغة فصيحة، ويعكس تنوع واختلاف الرؤى نحو المستقبل وسبل الوصول إلى مثل هذا المستقبل، بين معسكرات سياسية وأيديولوجية واضحة، مع لمسة براجماتية لا تغفلها عين المراقب لدى جميع الفرقاء. فالإسلاميون في غالبيتهم المعتدلة، تنافح عن ضرورة أن يحمل هذا المستقبل قسمات وملامح الهوية المغربية الحضارية الإسلامية المستوعبة لمفردات عصرها وأدواته، دون كثير اهتمام وانشغال بالمسائل الفقهية الخلافية، وهم في ذلك يواجهون طيفا واسعا من العلمانيين ما بين يساريين وفرانكوفونيين وليبراليين يدافعون عما يعتقدون أنه يضمن لمستقبل المغرب انخراطا في العصر عبر “حداثة مجسدة في قيم كونية” تجمعهم مع باقي دول العالم الليبرالية، مع التنبيه والتحذير من خطورة استيراد بعض النخب الإسلامية لنماذج “إسلامية” خارجية، غريبة عن التربة المغربية المتسامحة، ولا تملك موقفا ناضجا من الحريات الشخصية والعامة، ومن الإبداع والفنون.

نقاش حي آخر، يعرف انخراطا نشطا لأطراف المعسكرين السالفين، عنوانه محاربة الفساد واقتصاد الريع، والذي لا تزال جذوته متقدة منذ ما قبل عصر الثورات العربية، مع ما يلحق بهذا النقاش من عناوين فرعية تهم العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة والتشغيل ومكافحة الفقر، إلى آخر هذه المواضيع التي توجد في صلب اهتمام الناس. صحيح أن من بيدهم تسيير دفة الإدارة العمومية من إسلاميين وحلفائهم القوميين واليساريين لا يزالون يبحثون عن إنجازهم الأول البارز، مع أن هناك إحساسا عاما بين عامة المواطنين بدأ في التبلور والتزايد ببطء لكن بثبات، في أنهم تأخروا في تحقيق هذا الإنجاز بعد مرور قرابة الشهور السبعة على تشكيل الحكومة الجديدة، لكن الأكيد أيضا أنهم يعملون في ظل ظروف موضوعية صعبة لاسيما من الناحية الاقتصادية، مع التدهور المستمر لأوضاع شركائهم في الشمال الأوروبي، وبالتالي تدهور مداخيل السياحة وتحويلات المهاجرين المغاربة هناك، يضاف إلى ذلك كله موسم جفاف حاد لم يشهد المغرب مثيله منذ سنوات، ومع ذلك لا يزالون قادرين على تحقيق نسبة نمو للاقتصاد المغربي تزيد على ثلاثة بالمائة، وهي النسبة التي وإن كانت غير كافية لخلق تنمية وتشغيل وحل المشكلات الاجتماعية، إلا أنها تعتبر حلما لدى كثير من دول الجوار الإقليمي والأوروبي، كما أن الإنصاف يقتضي تسجيل أن المغرب حقق قفزات كبيرة على مدى العقدين الماضيين في مختلف هذه المجالات، بشكل يفوق بمراحل ما يشهده أشقاؤه العرب.

وهكذا، تجاوز المغاربة بشكل نهائي –وكانوا متجاوزين منذ عقود-  الإدارة الدموية لتداول السلطة وإدارة الشأن العام كما جرى ويجري في دول الربيع العربي، وتجاوز العرش –وكان متجاوزا في معظم مراحل تاريخه- سؤال المشروعية، ولا يزال يمثل للغالبية الساحقة من المغاربة –حتى لا نقول بالإجماع المطلق- ضمانة وحدة البلاد والعباد، وشرط التقدم الواثق نحو المستقبل، وتجاوزت القوى السياسية –وهو تجاوز حاصل منذ عام 1997- منطق التشكيك في الاستشارات الانتخابية، وأصبح جميع المنخرطين فيها يقرون بنتائجها بغض النظر عما حصلوا عليه من مكاسب، وتجاوز المواطنون منطق الخشية على مكتسباتهم -التي تجسدت عبر نصوص صريحة وواضحة في الدستور- من حريات عامة وخاصة، وكرامة ووضعية مميزة في مواجهة السلطة. ومما يضع ما سبق في سياقه الصحيح، يجب أن نسجل وبيقين تام أن جملة هذه المكاسب غير متحققة ومجتمعة في أية دولة عربية أو إسلامية أخرى، بالعمق والمدى التي هي متحققة فيه هنا في المغرب.

لكل ما سبق، ولأسباب عديدة أخرى ربما ليس هذا مجال بسطها، يبدو احتفال الشعب المغربي بالذكرى الثالثة عشر لجلوس العاهل المغربي الملك محمد السادس على العرش حقيقيا ومفهوما، ويبدو الاطمئنان تجاه المستقبل –على الرغم من إدراك عظم التحديات- عنصرا مشتركا بين العرش المغربي، النخب السياسية والأهلية، وعموم المواطنين، مما يكسب احتفالات العام الحالي بهجة وروعة مضاعفة، وتجعل هذه المملكة “السعيدة” –كما يحلو للأدبيات المغربية أن تطلق على بلادها- سعيدة بحق، ومصدر إلهام وغبطة لباقي الأشقاء الذين يتمنى الجميع أن لا يطول انتظارهم للاستقرار والأمن والازدهار والأمل..والسعادة.

هيثم شلبي

كاتب وصحفي فلسطيني

عن ديوان أصدقاء المغرب

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *