عندما دافع قادة عسكريون من كتامة المغربية على الشام ضد الإفرنج

الرئيسية » علم وحضارة » عندما دافع قادة عسكريون من كتامة المغربية على الشام ضد الإفرنج

يبدو أن الأشقاء في بلاد الشام مافتئوا ينقبون في أمهات الكتب والآثار ليبحثوا في سر توافد مغاربة منهم قادة عسكريون ومستكشفون وعلماء، وعبر التاريخ، إلى هذه البلاد الغالية، وليستقر هؤلاء المغاربة هناك، بل وليؤسسوا لطرق صوفية، ويشيدوا آثارا عمرانية، ويُعلموا ويلقنوا أجيالا من أشقائهم في بلاد الشام، ليقيموا بين تلك الديار إلى أن ماتوا ودفنوا بها، فكانوا خير سفراء لمغرب امتدت أطرافه ذات أيام إلى أقصى الأرض، ويمتد تاريخه وحضارته إلى أبد الآبدين

عندما دافع قادة عسكريون من كتامة المغربية على الشام ضد الإفرنج

العلائق التاريخية بين الأندلسيين والمغاربة وأهل الشام

في دراسة قيمة للدكتور عمر عبد السلام تدمر من الجامعة اللبنانية بطرابلس، نعود لنستحضر ذكريات خلت لرجال مغاربة وأشقاء أندلسيين، لكم تحل تضاريس الجغرافيا ولا بعدها عن الترحال والإقامة بين ظهراني أشقائهم ببلاد الشام العربية، لا بل والذود على ديار هذه البلاد وأهلها عندما اشتد تكالب العدو عليها؛

ويعود الباحث اللبناني الدكتور عمر عبد السلام، ليقف عند آثار هؤلاء المغاربة التي تركوها بالشام، وخاصة بطرابلس الشامية، وفي مقاربة تحمل أكثر من دلالة يقارن بين عمران هذه المدينة اللبنانية ومدينة الدار البيضاء المغربية، حيث برأيه فإن حاضرة المغرب سميت كذلك لطلاء جدرانها بالأبيض، وهو ما تقتسمه وتشاركه فيه مدينة طرابلس اللبنانية.

وحسب الباحث اللبناني فإن العلائق الأندلسية المغربية بطرابلس الشام تعود إلى أكثر من ألف سنة خَلَتْ، وبالتقريب إلى مائة عام وألف من الآن، أي إلى عهد الحكم الإخشيدي (330 – 358 هـ/ 941 – 969 م)، وتنوعت تلك العلاقات ما بين ثقافية وسياسية وعسكرية وتجارية وعمرانية؛ وكانت بداياتها في رحلات طلبة العلم من الأندلسيين إلى المغرب الإسلامي لسماع الحديث على كبار المحدثين والحُفّاظ والمسندين.

وكانت طرابلس الشام منذ القرن الثاني الهجري (8 م) قد أصبحت حاضرة مهمة من حواضر العالم الإسلامي، فأخرجت جماعة موفورة من كبار المحدثين والرواة الإخباريين، يأتي في مقدمتهم أبو مطيع معاوية بن يحيى الأطرابُلُسي المتوفى بحدود 170 هـ/ 785 م.

ويُعتبر خيْثَمَة بن سليمان القُرشي الأطرابُلُسيالمولود سنة 250 هـ/ 862م أشهر من أخرجته طرابلس من رجال الحديث، حيث كان حافظاً، ثقةً، مكثراً في الرواية، عُرف في عصره بأنه مُسند الشام، اشتهر حديثه في بلاد الشام، والعراق، وفارس، وعمت شهرته الآفاق؛ حدَّث في الجامع الأموي بدمشق، وعاد إلى طرابلس، فكان كبير محدثيها، وقصده الطلبة والشيوخ من أقطار الدنيا، فسمعوا منه، وأخذوا إجازته في رواية الحديث، وعُمّر أكثر من 90 عاماً، فكان من بين طلبته الكُثُر طلبة قدموا من الأندلس، ونزلوا طرابلس وارتادوا مجلسه في مسجدها الجامع، وشاركوا في حركتها الثقافية، وكان منهم؛

1) محمد بن عبد الله بن عبد البر التُجيبي الأندلس القرطبي، وهو يُنسَب إلى كُشكينان من قرى قرطبة، ورحل إلى المشرق مرتين. وعندما عاد من رحلته الأولى، كانت له الوجاهة عند الخاصة والعامة في الأندلس، مع العلم والزُهد، وسمع منه الناس كثيراً، وحج في رحلته الثانية، وجاء إلى طرابلس فأقام بها إلى أن توفي سنة 341 هـ.

2) وأبو عثمان سعيد بن نصر بن عمر بن خلف الأندلسي من أهل أستجة بالأندلس، رحل إلى طرابلس فحضر مجلس خيثمة وسمع منه، ثم انتقل إلى بغداد ومكة وأصبهان ونيسابور ومرو، وطوف البلاد إلى أن توفي في بخاري سنة 348 هـ.

3) وأبو الأصبغ عبد العزيز بن عبد الملك بن نصر الأموي الأندلسي من أهل قرطبة، نزل طرابلس الشام وأقام بها مدة حتى أكثر من السماع على خيثمة، ثم رحل إلى الكوفة وأصبهان ومَرو، وصحب عميد الدولة صاحب مدينة بَلْخ فكسب معه مالاً عظيماً، وانتهى به المطاف في بخاري حيث توفي هناك سنة 365 هـ.

4) وأبو جعفر أحمد بن عون الله بن جدير بن يحيى القرطبي الأندلسي، وِلد سنة 300 هـ. وسمع الحديث ببلده قرطبة، ثم رحل إلى مصر والشام والحجاز، وقصد طرابلس فسمع من خيثمة، وبلغ شيوخُه الذين روى نهم اثنين وسبعين رجلاً وامرأتين. وعاد إلى قرطبة فكان يحدث بمسجدها بسنده عن خيثمة الأطرابلسي وغيره، إلى أن توفي سنة 378 هـ.

5) وأبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن يحيى بن مفرج الأموي القرطبيالمحدّث الحافظ القاضي المصنف الفقيه. صنف في فقه الحديث، وفقه التابعين. ولد سنة 315 هـ. وكان يسكن بقرب عين قنت أورية من قرطبة. قام برحلة واسعة لسماع الحديث، فارتاد مصر، وسمع بالإسكندرية والقُلزم والفَرما وغزّة وفيساريّة وعسقلان والرملة وطبرية وصور وصيدا وبيروت، وسمع على خيثمة بطرابلس، ثم رحل إلى دمشق، ومنها إلى جدة ومكة والمدينة، وبلغ شيوخه 230 شيخاً، وعاد إلى بلده سنة 345 هـ. واتّصل بالحَكَم المستنصر، وصارت له مكانة عنده، واستقضاه على أستجة، ثم على المَرِيّة، وصنف “فقه الحسن البصْري” في 7 مجلدات، و”فقه الزُهْريّ” في أجزاء كثيرة، وكان من أوثق المحدثين بالأندلس، وأبصرهم بالرجال، وأصحهم كتباً. توفي سنة 380 هـ.

6) وأبو عبد الله محمد بن صالح بن محمد القحطاني المعافريأحد فقهاء المالكية بالأندلس. طوف في رحلته إلى المشرق طلباً لسماع الحديث بين مصر والحجاز والشام والجزيرة وأصبهان ونيسابور، ووصل إلى مَرُو وبُخارى، وتوفي هناك. وقد نزل أثناء رحلته بطرابلس وحضر مجلس خيثمة وسمع منه. وقد اختلف المؤرخون في سنة وفاته.

7) وأبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن حَصْن الغافقي الأندلسي، رحل إلى المشرق، وسمع بديار مصر والشام والعراق والجبال وطبرستان، ونزل أثناء رحلته بطرابلس، وأخذ الحديث عن اثنين من محدثيها، هما: عمر بن داود بن سلمون (توفي سنة 390 وقيل 395 هـ)، والحسين بن عبد الله بن محمد المعروف بـ”ابن أبي كامل الأطرابلسي ابن أخت خيثمة (توفي سنة 414 هـ). وبعد انتهاء رحلته، عاد إلى دمشق وولى الحسبة فيها سنة 375 هـ وبقي حتى توفي سنة 404هـ.

وقبل أن أختم موضوع العلائق الثقافية بين الأندلسيين وطرابلس الشام، لابد من التنويه بواحد من مشاهير نظار دار العلم بطرابلس، من أهل الأندلس، هو أبو عبد الله أحمد بن محمد الطليطُلي الذي يُعتقد أنه غادر طُليطلة بعد سقوطها في أيدي القشتاليين سنة 478 هـ/ 1085 م. فنزل طرابلس الشام في عهد أميرها جلال المُلك ابن عمار، ثم أصبح ناظراً على دار العلم في عهد فخر الملك ابن عمار، وبقي في منصبه حتى سقطت طرابلس بين الفرنج الصليبيين سنة 502 هـ/ 1109 م. فأحرقوا دار العلم ومكتبتها الذائعة الصيت ذات الثلاثة ملايين مخطوط، وأخذوا الطُليطُلي أسيراً. ونظراً لمكانته وفضله وعلمه، فقد دفع أمير شَيْرز وأخوه مبلغاً من المال للفرنج وافتدياه، واستضافه أمير شيرز عنده ليكون أستاذاً لابنه الأمير أسامة بن منقذ؛ فأقام عندهم عشر سنين يعلمه النحو. وكان من تلامذته الأمير سلطان بن علي بن مقلد بن منقذ، وهو من مواليد طرابلس سنة 464 هـ/ 1072 م.

وكان الطُليطُلي من الحفَظَة المُكثرين، ويتمتع بملكة نادرة وذاكرة قوية في حفظ نصوص الكتب والمتون. وقد

أشار الأمير أسامة بن منقذ إلى ذلك في كتابه “الاعتبار” عندما اختبره في قوة حفظه فقال ما نصه:

 الشيخ العالم، أبو عبد الله الطُليطُلي، النحوي، رحمه الله. وكان في النحو سيبويه زمانه. قرأت عليه النحو نحواً من عشر سنين وكان متولي دار العلم بطرابلس، وشاهدت من الشيخ أبي عبد الله عجباً. دخلت عليه يوماً لأقرأ عليه، فوجدت بين يديه كتب النحو، “كتاب” سيبويه، وكتاب “الخصائص” لابن جني، وكتاب “الإيضاح” لأبي علي الفارسي، وكتاب “اللُّمع”، وكتاب “الجمل”. فقلت : يا شيخ أبا عبدا لله ! قرأت هذه الكتب كلها؟!قال: قرأتها! لا والله إلا كتبتها في اللوح وحفظتها. تريد تدري؟ خذ جزءاً وافتحه واقرأ من أول الصفحة سطراً واحداً، فأخذت جزءاً وفتحته وقرأت منه سطراً، فقرأ الصفحة بأجمعها حفْظاً حتى أتى على تلك الأجزاء جميعها. فرأيت منه أمراً عظيماً ما هو في طاقة البشر.

وممن قرأ على الطُليطُلي وهو في شيْزر الأديب أبو عبد الله محمد بن يوسف بن منيرة الكفرطابيالمتوفى سنة 553 هـ. وعبد القاهر بن عبد الله المعروف بالوأواء الحلبي([23]) المتوفى سنة 551 هـ.

وبقي الطُليطُلي مقيماً في شيْزَر حتى عُرف بنزيلها، إلى أن توفي حول سنة 512هـ/ 1019 م.

وتذكر المصادر التاريخية أن مناظرة فقهية قد جرت في مجلس فخر المُلْك ابن عمار بين ابن أبي روْحقاضي الإمامية وناظر دار العلم، وبين بعض الفقهاء المالكية، وهو ما يؤيد وجود جماعة من الأندلسيين أو المغاربة في طرابلس.

علائق وروابط سياسية

وفي مجال العلائق السياسية، احتل المغاربة المرتبة الأولى بحضورهم، إلى جانب الحضور الديني والعسكري، وذلك في العصر الفاطمي. إذ منذ أن بسط الفاطميون نفوذهم في بلاد الشام بعد سنة 360هـ، أخذوا يولّون القُضاة والوُلاة والقادة على المدن الرئيسة والولايات، وبشكل خاص في طرابلس، لأنها كانت قاعدة أمامية متقدمة على ساحل الشام في مواجهة الدولة البيزنطية التي كانت تهدد الأطراف الشمالية في بلاد الشام. ولذا أضحت طرابلس قاعدة أساسية للدعوة الفاطمية الإسماعيلية من الناحية الدينية، ومركزاً مهماً للأسطول البحري والقوات البرية من الناحية العسكرية، فضلاً عن اتخاذها عاصمة لولاية إدارية متَّسعة الأرجاء تمتد حدودها من نواحي نهر الكلب جنوباً، حتى مدينة اللاذقية شمالاً.

ونظراً لهذه الأهمية، فقد حرص الفاطميون على أن يكون زمام الأمور في طرابلس بيد المغاربة، وهم الذين قامت الدولة الفاطمية على أكتافهم؛ ولذا أعْطيت الولاية وقيادة العسكر للقائد نزّال الغوري الكُتامي، وهو من قبيلة كُتامة المغربية البربرية، ومن صناديد المغاربة، ووُضع تحت إمرته ستة آلاف رجل من عسكر طرابلس، ثم ابنه المظهر محمد بن نزّال، والقائد جيش بن الصمصامة، والقائد أبو سعادة المغربي، والوالي علي بن جعفر بن فلاح الكُتامي، ومختار الدولة ابن نزّال. وحين كلّف الخليفة المعزُّ لدين الله الفاطمي والي طرابلس ريان الخادم بإخراج القائد الفاطمي أبا محمود وابن أخته مقدم العسكر ابن الصمصامة من دمشق، خرج الاثنان في جماعة يسيرة من الجند، وبقي القسم الأكبر مع ريان، فأتى بهم وبمن كان خرج معه من عسكر المغاربة إلى طرابلس للدفاع عنها في وجه الإمبراطور البيزنطي باسيل. وقبل أن تصل حملة الإمبراطور إلى المدينة، اصطدمت قواته بنحو ألفين من العسكر المغاربة كانوا يرابطون عند وجه الحجر، وقد سماهم الإمبراطور بـ”الإفريقيين”.

ولما استولى بنو أبي الفتح على طرابلس، جاءهم الأمير حيدرة بن مُنْزو الكُتامين وتمكن من القضاء على حركتهم بمساعدة ابن قبيلته أيضاً أمين الدولة ابن عمار، وتزوج جلال المُلْك ابن عمار صاحب طرابلس ابنة الأمير حيدرة بن مَنْزر، كما التجأ مُعلَّى الكُتامي وهو ابن حيدرة إلى طرابلس ليحتمي بصهره خوفاً من الخليفة الفاطمي.

وبلغ الحضور المغربي أوجه بإعطاء منصب القضاء للشيوخ من بني عمار الكُتاميين، اعتباراً من أوائل القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي، وهم يُنْسَبون إلى أبي محمد حسن الملقب بأمين الدولة، شيخ كُتامة ووزير مصر، وقد قتله الحاكم بأمر الله سنة 390هـ. ومنهم أبو الحسن عمَّار الملقب بـ”خطير الملك رئيس الرؤساء”، وقد وقع عن الحاكم بأمر الله، وبايع الخليفة الظاهر في سنة 411هـ، وعزل وقُتِلَ سنة 412 هـ.

وممن كان بطرابلس من هذه الأسرة: أبو الكتائب أحمد الذي ألف له الكراجكي، وأبو طالب عبد الله الملقب بـ”أمين الدولة”، وهو مؤسس إمارة طرابلس شبه المستقلة عن الدولة الفاطمية، بعيد سنة 457 هـ؛ وتوفي سنة 464 هـ. وأبو طالب محمد المعروف بالرئيس وكان موجوداً سنة 420 هـ. وأبو علي الحسن وهو قرأ على المؤرخ الخطيب البغدادي بجامع صور سنة 459 هـ، وأبو الحسن علي الملقب بـ”جلال الملك” الذي حكم طرابلس 28 عاماً (464 هـ – 492 هـ) وجدد بناء “دار العلم”، وأخوه أبو علي عمار الملقب بـ”فخر الملك” الذي حكم نحو عشر سنين (492 – 501 هـ) قبل أن تخرج طرابلس من يده، وابن عمه أبو الفرج محمد الملقب بـ”شمس الملك ذي المناقب”، الذي حكم لفترة قصيرة من سنة 501 هـ، وغيره. وفيهم يقول المقريزي:

وكانت الدولة قد حولت الثغر في أيديهم على سبيل الولاية. فلما جاءت الشدائد، تغلبوا عليه. ثم جاءت الدولة الجيوشية فخافوا مما قدموه، فلم يرموا أيديهم في يدها، ولا وثقوا بما بذل لهم من الصفح على ولاتهم. ولبني عمار الكتاميين تاريخ حافل بطرابلس لا مجال للإحاطة به في هذا البحث. فهو يحتاج مجلداً ضخماً؛ فقد كان دورهم متعدد الأوجه؛ سياسياً، وثقافياً، وعمرانياً، وعسكرياً، واقتصادياً، طوال نصف قرن تقريبا؛

وفي أيامهم كانت السفن التجارية تأتي من بلاد الأندلس والمغرب، كما كان للخليفة الفاطمي سفن تسافر من طرابلس إلى المغرب للتجارة.

ومن غير المعروف إن كان بقي بطرابلس أحد من الأندلسيين أو المغاربة إبان سقوطها بيد الفرنج وطوال مدة حكمهم لها، من أواخر 502 – 688 هـ/ 1109 – 1289 م. أما بنو عمار، فقد انقرض وجودهم فيها قبل سقوطها بقليل؛ إذ أرسل الأفضل وزير مصر أحد الولاة فحمل أهل فخر الملك ابن عمار وأصحابه جميعاً إلى مصر في البحر سنة 502 هـ. فيما كان فخر الملك ينتقل بين جبلة وشيزر ودمشق وبغداد والموصل وماردين، قبل أن يعود إلى مصر في سنة 516 هـ/ 1123 م ويعلن ولاءه للخليفة الفاطمي الآمر بالله.

الوجود المغربي في الحروب الصليبية

رزحت طرابلس تحت الاحتلال الفرنجي أكثر من 180 عام. وكان من الطبيعي أن ينقطع كل ذكر للوجود الأندلسي ـ المغربي فيها، فلم يصلنا عن تلك المدة بطولها، وفي كل المصادر على كثرتها، سوى إشارة واحدة إلى استعانة الفرنج بمحاربين من الأندلس أتوا بهم بحراً للمشاركة في قتال المسلمين وحصار دمشق سنة 543 هـ/ 148 م. إذ يقول أبو الحكم الأندلسي ـ وهو مقيم بدمشق ـ من قصيدة له:

أتَانَا مائَتَا ألْفٍعَدَداً أو يزيدونَا

فبعضُهَم من أنْدَلُس وبعضهم من فلسطينَا

ومن عكا ومِنْ صورومن صيْدَا وتبنِينا

إذَا أبْصرتَهُم أبصر تأقْواماً مجانين

ومن غير المعروف إن كانت طرابلس استقبلت أحداً من أولئك المحاربين الأندلسيين. والمرجّح أنهم لم يصلوا إلى مينائها، إذا امتنع كونت طرابلس ريموند الثاني (531 – 546 هـ/ 1133 – 1152 م) عن المشاركة في تلك الحملة خوفاً على عرشه.

ولكن من اللافت للنظر أن عالماً أندلسياً هو علي بن أحمد بن الحسن بن إبراهيم التجيبي الأندلسي المعروف بالحرالي، نسبه إلى حرالة من أعمال مُرسية، نزل طرابلس وسكنها وهي تحت احتلال الفرنجة، وكان صوفياً كبيراً، وإماماً شهيراً في العلوم. صنف تفسيراً أبدى فيه من مناسبات الآيات والسور ما يبهر العقول، فكان هو الأساس الذي بني عليه البرهان البقاعي تفسيره المعروف بـ”نظم الدرر في تناسب الآيات والسور”، وقيل هو رأس مال البقاعي؛ ولولاه ما راح ولا جاء. ولكن تفسير الحرالي لم يتم، ومن حيث وقف، وقف حال البقاعي في مناسباته، حسب قول المناوي.

دخل الحرالي مصر فأقام ببلبيس مدة، ثم سكن طرابلس الشام، وأخيراً انتقل إلى حماة فمات بها، وقيل مات بحلب سنة 637 هـ.

وجود في عصر المماليك

غير أن الأندلسيين والمغاربة يعود وجودهم بقوة في عصر المماليك، وهم يتبعون المذهب المالكي، ويكثر جمعُهُم بطرابلس حتى أصبح لهم قُضاة يفصلون في قضاياهم على مذهبهم، مثلهم مثل الشافعية والأحناف والحنابلة، وكان المالكيون يأتون في المرتبة الثالثة بعد الشافعية والأحناف، وهم يتقدمون على الحنابلة.

كما ظهر ـ ولا يزال زاهراً حتى الآن الأثر الأندلسي المغربي في عمارة طرابلس المملوكية، في الهندسة والتزيينات والكتابة بالخط المغربي، والمظاهر الأخرى.

وبحسب الباحث  فإن جماعة من الأندلسيين والمغاربة كانوا من جملة المتطوعة الذين أتوا من مصر مع جيش المنصور قلاوون وأسهموا في فتح طرابلس وتحريرها من الفرنجة سنة 688 هـ/ 1289 م، ثم نزلوها واستوطنوها، وشاركوا في إعادة بناء مدينة المنصور المستحدثة بعد أن هُدمَت المدينة الساحلية القديمة. وتركوا طابعهم واضحاً على عمارتها المدنية والدينية. وكان لهم مشاركتهم في الدفاع عن المدينة، وإثراء القضاء والحياة الثقافية.

مغاربة يدافعون عن أشقائهم عبر التاريخ

ينفرد النُوَيْرِيّ السَّكَنْدَري دون غيره من المؤرخين بذكر الرئيس البطرني المغربي قاضي طرابلس، ومشاركته في جهاد الفرنج، حين خرج مع نائب السلطة بها أسندمر الكُرجي لحصار جزيرة أرواد سنة 702 هـ/ 1302 م. وكان الفرنجة قد اتخذوها قاعدة لمواصلة اعتداءاتهم على سواحل الشام، والتعرض للسفن التجارية في البحر، واعتنى صاحب قبرس بها وبعمارتها مع جماعة من قادة الفرنج، وبنوا فيها سوراً تحصنوا به، وأسموها عكا الصغيرة. وتم فتح الجزيرة بعد قتال لم يدُم سوى ساعة واحدة. فمن هو الرئيس البطرني المغربي هذا؟

المصادر المعتمدة لم تفدنا عنه شيئاً. بل جاء في “إنباء الغُمْ في أبناء العُمْر” لابن حجر العسقلاني، و”الضوء اللامع” للخاوي، ترجمة لواحد يُعرب بالبطرني هو محمد بن إسماعيل تاج الدين ابن العماد المغربي الأصل، الدمشقي، المالكي. كان في خدمة القاضي عَلَم الدين القفصي، وعمل نقيبه. وبعد موته ولي قضاء طرابلس، ثم ناب عن القاضي المالكي. وكان عفيفاً في مباشرته، يستحضر طرفاً من الفقه. مات بالطاعون في شهر صفر سنة 833 هـ. فيُحتمل أن يكون البطرني المجاهد في أرواد واحداً من أجداد محمد بن إسماعيل هذا.

وفي السيرة الشعبية للظاهر بيبرس يرد ذكر أبي بكر البَطَرني الطنجاوي، وهو بحار يقود غليوناً ومعه 475 بحار يأتمرون بأمره، وهو ابن حاكم طنجة. وتزعم السيرة أنه شارك في موقعة بحرية دارت بين الروم(!) والملك الصالح الصالح بن أيوب، بالقرب من ميناء جنوى الإيطالي، فينتصر أبو بكر البَطَرني على الروم، ثم يدخل الميناء بفضل غرابه البحري. وتروي السيرة عنه أخباراً كثيرة؛ ومن بين تلك الأخبار دخوله جزيرة أرواد مع السلطان الظاهر بيبرس! والقبض على ملك الجزيرة المدعو جمجرين!

وسواء كان البَطَرني الذي شارك في فتح أرواد مع نائب طرابلس هو نفسه الذي ورد في السيرة الشعبية للظاهر بيبرس، أو غيره، فإن تواتر الروايات يدعم وجود المغاربة بطرابلس. ويقال إن قبر البطرني المغربي لا يزال موجوداً على ساحل البحر في مدينة اللاذقية.

وكان بطرابلس جنود من المغاربة يرابطون على ساحلها، وقد اشتركوا في الدفاع عن المدينة وتصدوا لملك قبرس بطرس دي لوزنيان بن هيو الرابع عندما غزاها بآلاف الفرنج وعشرات السفن الحربية في سنة 769 هـ/ 1367م. وحين داهمها الفرنج، كان عسكرها خارج المدينة شمالي بيروت قد خرج مع الحاجب لاستقبال نائب جديد، ولم يبق بها سوى القليل من التركمان والمغاربة. ولذا تمكن الغزاة من الاستيلاء على طرابلس يوماً وليلة، حتى تكاثر أهل المدينة، ومن أتاهم من التركمان المرابطين عند عرقة مع قاضيها، ولحق بهم المغاربة حتى زاد جمعُهم على خمسة عشر ألفاً، ودارت معارك طاحنة في الأسواق وبين البساتين، حتى دُحِر الغُزاة، وكان أول من استشهد اثنان من المغاربة، واثنان من التركمان، وواحد من أهل طرابلس.

ويتكرر ذكر المغاربة مجدداً في حوادث سنة 802 هـ/ 1400م، أثناء الفتنة التي عصفت بطرابلس بين أهلها ونائب السلطنة يونس بُلطا، إذ بادر أجد الأمراء ـ ويدعى ناصر الدين محمد بن بهادر المؤمني ـ إلى الاستيلاء على برج من أبراج طرابلس الساحلية، وهو برج الأمير الأتابك سيف الدين أيتمش البجاسي، ومعه جماعة من المغاربة، وركب من هناك البحر إلى مصر، وعاد ومعه نحو عشرة من قادة المغاربة وغيرهم. والتجأ ثانية إلى برج ايْتْمُش. وعندما ثار أهل المدينة على نائب الغيبة، فر منهم إلى ناحية حمص، فعاث الناس فساداً وكسروا أبواب القلعة ودخلوها ونهبوا ما فيها من حواصل النائب، وخرج المغاربة من البرج وشاركوا العوام في النهب، واستمروا على ذلك إلى آخر النهار حتى نودي بالأمان. ولما عاد النائب يونس بُلطا، اقتحم المدينة وقتل من أهلها 1732 إنسان، وكان بين القتلى مفتيها، وقاضيها الحنفي، وقاضيها الحنبلي، وقاضي المالكية ابن شاشي وهو شهاب الدين أحمد بن إبراهيم الأذرعي المالكي، وكان معزولاً عن منصبه قبل قليل.

مغاربة يحكمون بين شاميين

يعتبر محمد البقاعي المالكي أول من تولى قضاء المالكية بطرابلس بصفة شرعية ابتداء من سنة 776 هـ/ 1374 م. ولم يلبث أن توفي في السنة ذاتها.

وقد أحصيت أسماء عشرين قاضياً تعاقبوا على قضاء المالكية بطرابلس منذ سنة 776 هـ/ 1374 م حتى نهاية دولة المماليك 922 هـ/ 1516 م. وهم من أصول أندلسية ومغربية من تلمسان وطنجة وغيرها. وينسبون إلى بني أمية، ولخم، وصنهاجة، والتجاني، وغيره. ووصل الأمر بأحدهم من بني الناسخ، وهو كمال الدين محمد الناسخ الأطرابلسي المالكي أن أصبح هو الحاكم على طرابلس دون منازع في سنة 862 هـ، بالاستناد إلى نص المرسوم الذي أصدره في السنة المذكورة، ونقش على بوابة مدرسة سبط العطار

وليس هناك ما يؤكد أن هذا المرسوم قد عمل به عند صدوره، إذ أن مرسوماً آخر بإبطال ما على النحيرة في طرابلس صدر بعد حوالي عشر سنين، في نيابة الأمير إينال الأشقر اليحياوي الظاهري (872 – 873 هـ)، ولكن صدور المرسوم عن قاضي القضاة المالكية دون نائب السلطنة، يعطينا انطباعاً بأن القاضي ابن الناسخ كان هو المنفرد في حكم طرابلس.

 ومن أشهر المغاربة الذين زاروا طرابلس في عهد المماليك الرحالة ابن بطوطة، محمد بن عبد الله بن محمد اللواتي الطنجي. فقد زارها في رحلته سنة 726 هـ/ 1326م، وكتب عنها وصفاً رائعاً، إذ وصفها بأنها “إحدى قواعد الشام، وبلدانها الضخام، تخترقها الأنهار، وتحف بها البساتين والأشجار، ويكنفها البحر بمرافقه العميمة، والبر بخيراته المقيمة، ولها الأسواق العجيبة، والمسارح الخصيبة، والبحر على ميلين منها”.

وابن منظور، أبو الفضل محمد بن مكرم الأنصاري الإفريقي، المصري، من ولد رويفع بن ثابت الأنصاري، وهو القاضي، صاحب معجم “لسان العرب” وغيره من المؤلفات الكثيرة. وقد اشتهر باختصار أمهات الكتب كـ”الأغاني”، و”تاريخ دمشق”، و”الذخيرة”، و”المحكم”، و”الصحاح”، و”الجمهرة”، و”النهاية”، و”مفردات” ابن البيطار، وغيره، وقيل إن مختصراته بلغت 500 مجلد.

ومن الأندلس، نزل طرابلس الشام وسكنها مدة شهاب الدين أحمد بن عبد الله بن عبد الله بن مهاجر الأندلسي، الوادي آشي، من مدينة وادي آش من كورة البيرة، بينها وبين غرناطة أربعون ميلا. ثم رحل إلى حلب، وتحول إلى الحنفية، واشتمل عليه ابن العديم قاضيها، واستنابه في عدة مدارس، وفي الأحكام، وكان قيماً بالنحو والعروض، رائق النظم، خمَّس “لامية العجم” تخميساً جيداً. ومدح ابن الزملكاني لما ولي قضاء حلب بقصيدة على وزن قصيدة ابن النبيه التي أولها:

         باكر صبوحك أهنى العيش باكره              فقد ترنم فوق الأيـك طائـره

ومطلع قصيدته هو:

        يمن ترنـم فوق الأيك طائـره                   وطـائر عمت الدُّنْيا بشَائره

وله شعر كثير. وكانت وفاته سنة 739 هـ عن نحو خمسين سنة.

ومن المغرب شهاب الدين أحمد بن البدر بن محمد بن أويس المغربي، الشافعي، نزل طرابلس فأقام بها مدة طويلة إلى أن توفي. وكان عالماً بالقراءات والفقه والنحو والحديث والفرائض. قرأ بالروايات على أبي زيد عبد الرحمن بن سليمان التونسي نزيل طرابلس الشام في سنة 782 هـ. ولبس خرقة التصوف بحصن الأكراد سنة 784 هـ. وقرأ على محمد بن محمد بن سلامة الأنصاري، وبهادر القرمي مسند طرابلس، ومحمد بن هبة الله، وأحمد بن علي بن محمد الأرموي، ومحمد بن المظفر الحسيني، وعلي بن اليونانية البعلبكي.

وجلس للتدريس والإفتاء، فأخذ عنه جماعة من شيوخ طرابلس، منهم: ابن الوجيه، وجود القرآن عليه: علي بن أبي بكر بن أحمد بن شاور العلاء البرلسي البلطيمي الضرير (ت 874 هـ)، وقرأ عليه الحديث: محمد بن عبد الله بن خليل البلاطنسي الشافعي (ت 863 هـ)، وقرأ عليه الفرائض والوصايا: البرهان إبراهيم الشوبيني شيخ طرابلس وعالمها(ت859 هـ)، وأخذ عنه القراءات السبع والد القاضي الصلاح الطرابلسي الحنفي. مات في ذي القعدة سنة 830 هـ.

العمارة المغربية في عمق بلاد الشام

ظهرت تأثيرات المهندسين والمعماريين الأندلسيين والمغاربة واضحة جداً في كثير من عمارة طرابلس، مثل مئذنة الجامع المنصوري الكبير شبه المربعة الأضلاع، ومئذنة مسجد البرطاسي، ومئذنة جامع طينال ذات السلمين اللولبيين فوق بعضهما والتي لا مثيل لها إلا في قرطبة، وفي القاعة العلوية من قصر الأمير عز الدين أيبك الموصلي نائب السلطنة بطرابلس، وهي تشبه بالعقد الذي يتوسطها أقواس قاعات قصر الحمراء في غرناطة، في ألأفاريز الناتئة، والزخارف المتناغمة، على الرخام، والنافذة الشرقية المزدوجة التي تزينها الزخارف فوق أعمدتها وتيجانها، وفي النافذة الصغيرة في أعلى الواجهة الشرقية للمدرسة الطواشية، في وسط سوق الصاغة، حيث يتدلى من وسطها عمود بشكل حبل مجدول أندلسي الطراز، والشعاعات الرائعة في أعلى حنية بوابة المدرسة وهي تخرج من تجويفات هندسية بديعة تشبه المحارة أو الصدفة، وفي العمود الرخامي التي نقشت عليه أشكال حبال مجدولة، وتلتف حول نفسها بأبعاد متساوية داخل حرم مسجد الحجيجية. وفي محراب مقام الشيخ فضل الله المغربي، حيث تبدو التأثيرات الأندلسية ـ المغربية في تجويفة المحراب العليا التي زينها المهندس بتجويفات طولية في الجبس (الجص) على شكل شعاعات متوازية، وتجويفة المحراب نصف كروية شبيهة بمحارة البحر، وهي أشبه بحنية بوابة الطوشية. وليس جامع السيد عبد الواحد المكناسي إلا واحداً من المعالم المغربية البناء بمئذنته الصغيرة، السداسية الأضلاع، ومحرابه البسيط، وقبته المفصصة، ولوحته الرخامية ذات الخط المغربي المميز، وهي تؤرخ لبناء الجامع. وقد وقف السيد عبد الواحد ـ وهو من مدينة مكناس المغربية ـ رواقاً للمغاربة ينزلون في حجراته العلوية، ويستضيف الرواق الحجاج المغاربة في ذهابهم وإيابهم، وجعل للجامع والرواق أوقافاً كثيرة للإنفاق من ريعها على مصالح الجامع ونزلائه. ولا يزال الرواق قائماً حتى الآن وجميع نزلائه من أصول مغربية. وعلى باب الجامع يقوم ضريح عبد السلام المشيشي، وهو من سلالة السيد عبد الواحد المكناسي، ومن أتباع الطريقة المشيشية التي انتشرت في المغرب الأقصى.

ويظهر التأثير الأندلسي واضحاً على الواجهة الغربية لمئذنة مسجد البرطاسي، حتى يخيل للناظر إلى هذه الواجهة لأول وهلة أنه يرى إحدى مآذن الأندلس أو المغرب العربي. ويشتد الإحساس بأن المهندس أندلسي الأصل، هاجر إلى طرابلس وأسهم في بناء معالمها وسجل طابعه الهندسي المميز في زخرفة العقدين التوأمين المنكسرين عند رأسهما، وتتناوب فيهما الحجارة البيضاء والسوداء، ويتركزان على ثلاثة مناكب من الحجارة البيضاء، وتنفتح تحتهما نافذتان مستطيلتان، يفصل بينهما عمود داكن اللون، والنافذتان مع العقدين ضمن إطار مجوف مستطيل الشكل غائر في واجهة المئذنة بحيث يبدو سطح العقدين بمستوى سطح واجهة المئذنة. وفوق هاتين النافذين الأخيرتين مباشرة مقرنصات متدرجة تشكل أسافين لقاعدة برج المئذنة المشرف إلى الخارج بحجم يزيد عن حجم ساق المئذنة، وهي الشرفة التي يقف عليها المؤذن.

وقد لفت نظر المؤرخ الرحالة ابن فضل الله العُمَري في النصف الأول من القرن 8 هـ/ 14 م أن جميع أبنية طرابلس بالحجر والكلس، مبيضة ظاهراً وباطناً. وظاهرة تبييض المباني نراها في مدن المغرب، وليست الدار البيضاء إلا نموذجاً من الطراز المغربي بتسميتها وطابعها، وليست طرابلس الشام إلا انعكاساً لها ببياض مبانيها.

وحين بنى المماليك الأبراج الحربية الستة على ساحل طرابلس، اختص المغاربة بالمرابطة في واحد منها على الأقل. ولذلك عُرف بـ”برج المغاربة”، ويُرجح أنه أحد اثنين: إما برج الأمير أيْتَمُش البجاسي، وإما برج الأمير مَنْكلي بُغا الأحمدي المعروف أيضاً ببرج القناطر، أو الفاخورة، والأرجح لديّ هو البرج الثاني، وكان قريباً من برج الأمير برسباي الناصري المعروف ببرج السباع، وقد هُدم في النصف الأول من القرن العشرين لإنشاء محطة سكة القطار الحديدي مكانه. ولدينا صورة نادرة عنه قبل هدمه. ويتردد ذكره كثيراً في سجلات المحكمة الشرعية بطرابلس العائدة للعصر العثماني. ففي سنة 1079 هـ كان إمام مسجد المغاربة داخل البرج الشيخ مصطفى بن محمد جلبي، وفي سنة 1165 هـ تولى إمامته عمر أفندي قايمقام نقيب السادة الأشراف الابن الصُّلْبي لحاكم طرابلس الشرعي، لانحلال الوظيفة عن محمد بن مصطفى مقابله جي، وفي سنة 1194 هـ تقرر في إمامته عبد القادر بن حسين مفتي زاده لوفاة شقيقه عبد الرحمن، ثم فرغ عبد القادر للشيخ حامد بن الشيخ حسين أبي النصر في الخامس في المحرم. وفي وثيقة عثمانية لسنة 974 هـ/ 1566 م، جاء أن عدد الجُند المرابطين في برج المغاربة كانوا سبعة (7) فقط يعرفون بـ”مستحفظان”. وفي وثيقة أخرى لسنة 1144 هـ ارتفع عدد المرابطين إلى خمسة وعشرين، بينهم بلوكباشي، وأوضه باشي، وطوبجي. وعاد العدد فانخفض إلى عشرة أنفار في سنة 1208 هـ.

وكان المغاربة يتوزعون، منذ عصر المماليك، في أكثر من محلة من محلات طرابلس. فقد ورد في أول وثيقة عثمانية وصلتنا بعد سقوط دولة المماليك بنحو 3 سنين فقط، أن الأسر المغربية كانت تسكن في سبع محلات من أصل 26 محلة، هي: محلة جامع كبير، ومحلة زقاق الأكوز، ومحلة مسجد القرمشي، ومحلة خان عديمي، ومحلة مسجد الخشب، ومحلة الطواحين، ومحلة ساحة الحمصي، وكان في المحلة الأخيرة لوحدها ثلاث أسر مغربية.

وكانت وظيفة المشيخة على طائفة السعاة، المعبر عنها بالمقدمية، توجه على المغاربة خصوصاً، لما هو معروف عنهم من سرعة الجري، وتحمل المشاق في السفر لمسافات طويلة. (والمعروف الآن أن المغاربة هم من أوائل الفائزين في مباريات السباق الدولية للمسافات الطويلة). ولهذا كانت وظيفة الساعي لتوصيل البريد والمراسلات من اختصاصهم، وكانت هي ووظيفة التولية على وقف المغاربة توجه على واحد من مشايخهم من ديوان السلطان مباشرة، لدينا حول ذلك وثيقة مؤرخة في أواخر سنة 1088 هـ. تتضمن ما نصه:

  بالمجلس المشار إليه، بعد أن وجِّهت وظيفة التولية على وقف زاوية المغاربة الكاينة باطن طرابلس، ووظيفة المشيخة على طايفة السعاة المعبر عنها بالمقدَّمية، من طرف السدة العلية الخاقانية، على الحاج إبراهيم بن فتح الله، بموجب ما بيده من البراءتين الشريفتين المودع علمهما بالسجل المحفوظ، وقرره بهما الحاكم الشرعي المشار إليه، وأذِن له بمباشرتهما وتناول معلومهما أسوة من تقدَّمه على الرسم المعتاد، حضر الآن الحاج قاسم ابن الحاج ابن سعيد المغربي تصادقاً شرعياً، محرراً، معتبراً، مرعياً، على أن تشارك معه في تعاطي خدمة الوظيفتين المزبورتين. ومهما تحصل من ذلك من عُلُوفة التولية ورسوم المشيخة، يكون ذلك بينهما نصفين، مصادقة صحيحة شرعية جرت بينهما بالطوع والرضا حسبما تصادقا على ما فيه. ووقع الإشهاد عليه في اليوم العاشر من شهر ذي القعدة الحرام في شهور سنة 1088.

 وقد حدث بعد مدة أن تعدى أحد سكان طرابلس من غير المغاربى على وظيفة التولية على وقف المغاربة، ويدعى عبدي أغا بن أبدال، وكان يترجم المراسلات التركية بديوان المدينة. وبحكم اتصاله بالحكام، انتزع الوظيفة لنفسه دون وجه حق، وبقيت بيده حتى قُتل بيد والي طرابلس إبراهيم باشا بن إسماعيل باشا العظم في سنة 1143 هـ/ 1730 م بعد أن ثار الأهالي على الوالي وأعوانه لظلمهم، وبموت عبدي بن أبدال عادت الوظيفة إلى أصحابها المغاربة، كما أفادتنا وثيقة مؤرخة في أوائل شهر ربيع الثاني سنة 1144 هـ، ونصها الآتي:

قضية تقرير وظيفة

بمجلس الشرع الشريف المشار إليه، حضر فخر الفُضلا السيد إبراهيم أفندي بن المرحوم أحمد آغا، وقرر أن وظيفة التولية على وقف مسجد المغاربة، الكاين باطن طرابلس، المنسوب إلى المرحوم السيد عبد الواحد المغربي ـ نوَّر الله مرقده الشريف ـ كانت مقررة عليه سابقاً مع المشيخة على طائفة المغاربة السالكين في ربع المسجد، بموجب حجة شرعية وبراءة عالية شريفة، وأن عبدي أغا الترجمان بديوان طرابلس، طلب منه فراغها. فبانتسابه للحكام وتقدمه عندهم وقوة جرأته، لم يمكنه إلا الفراغ له عنها، ولم يقم بخدمة الوقف وتعطل مصالح المسجد ووهن بناء مسقفاته.

وأنه في السنة السابقة لما قتل، أخذه محلولاً عنه بموجب حجة شرعية. والآن فرغ عنها بالطوع والرضا، لكل من فخر الفضلا، محمد أفندي بن مفخر الفضلا عبد الحقأفندي، ولفخر الطلبة الشيخ مصطفى بن الحاج عبد اللطيف مكناسي زاده، فراغاً شرعياً. فالتمسا من الحاكم الشرعي المشار إليه أن يقررهما في الوظيفة المرموقة، وفي المشيخة. فقررهما بوجه الاشتراك مناصفة بينهما، وأذن لهما بمباشرة الوقف، من القيام أولاً بتعميره وبفرشه وبتنويره، وما فضل من غلته يقتصا منه معلوم الوظيفتين، أسوة من تقدمهما، ويدفعا مواجب أرباب الجهات، حسب المعتاد بقدر الفائض، سالكين بذلك تقوى الله تعالى في السر والإعلان، تقريراً وإذناً شرعيين، مقبولين منهما فبولاً شرعياً. التمسا بأن يسطر لهما بذلك صك شرعي. فسطر بالطلب، في أوائل شهر ربيع الثاني من شهور سنة أربع وأربعين ومائة وألف. وتم إرفاق ذلك بلائحة شهود جاءت أسماؤهم كالآتي؛ مولانا عبد الحق،  وفخر الفضلاء عبد الرحمن، ومولانا كاتب أصله، وأفندي زيد مجده، وأفندي مغربي زاده، والشيخ محمد مقابله جي زاده، وفخر المحررين محمد أفندي، وا لسيد مصطفى، وعربي كاتبي، وبن إسماعيل باشه.

نورالدين اليزيد-عن “التاريخ العربي” بتصرف

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *