عصر الرقمية

الرئيسية » الأعمدة » حروف » عصر الرقمية

عرف تاريخ البشرية عدة تصنيفات لمراحل تطوره، وأنواعا مختلفة من التحقيبات التي توخى منها الخبراء بشأنها وضع علامات فارقة بين كل مرحلة وأخرى من خلال معايير تستمد مرجعيتها من حقل الاختصاص الذي ينظر منه إلى طبيعة التحولات التي عرفها الجنس البشري.

ومن ثم كانت هناك تقسيمات من الناحية الجيويلوجية والإيكولوجية والإناسية والجغرافية وغيرها من الفروع العلمية التي أرادت ضبط خرائط التطور الإنساني البدنية والنفسية والذهنية والسلوكية بصفة عامة والإمساك باللحظات والنقلات الكبرى التي عرفها سيره إلى ما بلغه اليوم.

وغير خاف ما اكتساه اكتشاف الإنسان للتعبير عن عوالمه من خلال رسوم ونقوش ومختلف الرموز التي تطورت إلى ما استقر على ما اصطلح عليه بالكتابة، باعتبارها شكلت منعطفا حاسما في تطوره الحضاري اقتدر بها على تجميع تجاربه، ونقل خبراته جيلا بعد جيل، مما جعلها مؤشرا على رقيه الحضاري.

فإذا ما اقتصر المتأمل على المجال التداولي العربي، فإن الانتقال من الشفوية إلى التدوين شكل فصلا تاريخيا متميزا عرف فيها العقل الإسلامي طفرة حضارية جعلت منه برزخا بين الكسب الإنساني في وجهه الفكري من خلال الترجمات المختلفة والاطلاع على المدونات السابقة ، واحتضان مجالات أخرى لاجتهاده عبر عمليات التواصل والمثاقفة، والتي هي بمثابة سنة كونية يتبادل فيها البشر التراكم المعرفي الذي أبدعه الإنسان طيلة تاريخه.

إن الموارد الطاقية المختلفة وآليات الاستفادة منها وتطور وسائل الاتصال هي المحدد للعصور المختلفة منذ اكتشاف الفحم الحجري ثم النفط وصولا إلى الطاقة المتجددة، وما واكب كل ذلك من تطور وسائل الاستفادة انطلاقا من العمل اليدوي إلى اكتشاف الآلة البخارية وصولا إلى التقنية بمختلف تجليات تطورها المتلاحق والتي أثرت في أنماط انتقال البشر والبضائع والمعلومات، إذ أضحت السرعة حافزها الأول، فكل ما كان الإنسان أسرع صار عمله أكبر نفعا وأكثر نجاعة بحسب معايير الربح والخسارة.

لا يخفى بأن الأمية تعتبر عائقا يحول دون التنمية المطلوبة للمجتمعات، ومن ثم رصدت لها ميزانيات ضخمة من أجل تقليص الفوارق المهولة المترتبة عن شيوعها، غير أن مفهومها زاد سعة ليصبح مراتب بعضها فوق بعض: فهناك الأمية التي تعنى فقط بالقراءة والكتابة ، وأخرى تتعلق بمدى معرفة الإنسان باللغات، إذ المنحبس في لغة واحدة اعتبر أميا، لأنه تفوته مواكبة التطور الهائل الذي تعرفه عوالم لغات مختلفة تزداد حدته مع محدودية الترجمة ووتيرتها التي لم تستطع مسايرة السرعة الكبيرة التي يعرفها الإنتاج الإنساني في مختلف المجالات ، ليصير الحديث اليوم في القارة السادسة مركزا حول وسائل الاتصال والتواصل الحديثة، بحيث تعتبر ثورة الإعلاميات وانفجارالمعلومات أساسها، والمفتقد لخبرتها وبنياتها التحتية الأساسية هو في عداد المجتمعات الأمية.

ومن ثم فتحديات دخول العصر الرقمي تستوجب التشمير المضاعف من أجل ردم الهوة السحيقة التي تفصل عن اللحاق بمصاف الريادة الحضارية التي لا تحتاج إلا إلى إرادة حقيقية تعلي من قيمة العمل واستثمار ثروة الوقت والموارد الشابة والتحفيز على الإبداع والابتكار.

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *