حول التغيير

الرئيسية » الأعمدة » حروف » حول التغيير

بات التغيير مطلبا ملحا تتعالى الأصوات في مختلف الفضاءات من أجل تحقيقه، وهو تعبير عن الرغبة القوية التي تسكن جنان كل إنسان في الخروج من حال إلى حال أفضل منه، ولذلك فالتغيير هو دينامية وسيرورة طبيعية لسير الأفراد والمجتمعات. ولقد استطاع العقل الإنساني- بما راكمه من خيرات وما اكتنزه من ذكاء- أن يتعامل مع الواقع الطبيعي للتغيير الذي يشبه الطاقة الاندفاعية القوية للماء، ما أَن تُواجه بأنواع الحواجز  إلا واخترقتها متسللة بين الشقوق، أو مهشمة لها لتبدو حطاما محمولا عبر دفقات المياه نفسها التي كان حائلا بينها وبين جريانها في الأنهار والوديان والشعاب التي هي بمثابة مسارات  نحتتها الطبيعة  من أجل تصريف الطاقة المائية وحماية نفسها من الكوارث، وهو المنطق نفسه الذي حذا بالإنسان إلى تشييد السدود بمختلف أنواعها، للاستفادة القصوى من الماء، وتحويل فيضه وفيضانه إلى نعمة وخير ونماء.

وكذلك الإنسان، فهو المخلوق الذكي الذي استطاع أن يخرج الطبيعة نفسها من الاستيحاش منها إلى الأنس بها ، لا يعرف توقفا في مساره، ومازال يكتشف ويجرب ويطمح إلى  بلوغ آفاق لم تكن لتراود خيال الأجيال التي سلفت، فهو بجبلته يكدح دائما في ارتياد الجديد، وتحصيل ما يراه أنفع وأجدى، فقد يخطئ الطريق في هذا كله، وقد لا ينتبه إلى مضاعفات ما كسبته يده، إلا أنه يبقى قادرا على التقويم والتصحيح والمراجعة بشكل دينامي لا يعرف جمودا ولا ركودا.

لقد ناضل الإنسان بمختلف الأساليب من أجل تحقيق حريته وصون كرامته والاعتراف بحقوقه الإنسانية  كاملة غير منقوصة ، وهي جهود لا يمكن لأي أحد كيفما وأينما كان أن يدعي ملكيتها وتملكها، لأنها ليست في المحصلة إلا نتاج الجهد الحضاري الذي تعاونت على حمل مشعله والسير تحت أضواءه التي تزداد مع تقدم الأيام وهجا ولمعانا، حضارات وشعوب مختلفة، إذ أصبحت طاقة التغيير دينامية مجتمعية تقاوم الجمود والتكلس الذي يمثل في الحقيقة أخطر مرض يمكن أن تبتلى به المجتمعات ، فهو كالبرك الراكدة ذات الماء الآسن الذي يكون مرتعا لمختلف التعفنات ، في حين تكون الحركية مؤشرا دالا على الحياة والحيوية والرغبة في تحسين الأوضاع وتطويرها، وهو شعور لايخص الفئات الفقيرة أو المحرومة كما يتوهم الكثير، بل هو طاقة طبيعية متصلة بالطموح الذي يسكن الأفراد ومختلف الفئات، تقتدر به على المضي في إنجاز ما تتصوره طريقا للأفضل الذي يخصها، فالمطالب والطموحات تختلف، إلا أنها تتوحد كلها في النهج الذي تتخذه من أجل نيلها، والذي عانى الإنسان طيلة تاريخه من أجل الاهتداء إليه وترسيخه في الممارسات المطلبية والتغييرية، وهو النهج المؤسساتي السلمي الذي يقي المجتمعات مختلف الانزلاقات التي تنحرف بمقاصد التغيير الطبيعية المتمثلة في الارتقاء والنمو والتحسين، إلى الفوضى والهدم والعدمية.

فالتغيير طاقة خلاقة يستفيد المجتمع منها إذا أحسن الاستماع لنبضها الحقيقي، وتعومل مع خفقانها بروية وأناة واستبصار واستشراف وواقعية ، وليس بالغوغائية وتجييش العواطف وتسويق الأوهام  وتصفية الحسابات الشخصية ، فمصير المجتمعات أمر جلل وليس بالأمر الهزل.

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *