جرثومة السعادة 2/1

الرئيسية » الأعمدة » أوراق » جرثومة السعادة 2/1

أصدر المعهد العالمي في جامعة كولومبيا الأمريكية قبل أيام تقريرا عجيبا وفريدا من نوعه. أفهم أن تصدر تقارير من مختلف الجهات والمنظمات الدولية حول التنمية والديمقراطية وغيرها من الأمور القابلة للقياس، والتي تخضع لمؤشرات مادية يمكن التحقق منها، لكن  ما لا يمكن فهمه هو أن يصدر تقرير عن مؤشر السعادة السنوي لعام 2012. هذا هو عنوان التقرير الصادر عن جامعة كولومبيا.

يقول التقرير إن الدنمارك هي الدولة التي احتلت رأس قائمة دول المعمورة الأكثر شعورا بالسعادة، تليها فنلندا ثم النرويج، أي الدول الاسكندينافية، وجاءت هولندا وكندا وسويسرا فى المرتبة الرابعة والخامسة والسادسة، ولحقت نيوزيلندا واستراليا وايرلندا في الترتيب الثامن والتاسع والعاشر بقائمة الدول العشرة الأكثر سعادة فى العالم.

وكما هو متوقع، وكما يحصل في جميع التقارير، فإن البلدان الإفريقية احتلت القائمة الأخيرة بين الدولة الأكثر سعادة، وجاءت جمهورية الطوغو في رأس قائمة الدول الأقل سعادة في القارة السوداء ـ لم تعد سمراء الآن ـ تليها جمهورية بنين وجمهورية أفريقيا الوسطى، فيما احتلت المرتبة الرابعة والخامسة سيراليون وبوروندي. أما المغرب فقد احتل الرتبة 115، في رتبة متأخرة بين قائمة الدول التي شملها التقرير، وهي 156 دولة.

الأمر المهم في التقرير بداية هو أن كلمة السعادة التي ارتبطت بالدين والفلسفة دائما أعيد لها الاعتبار في تقرير عالمي يزاحم التقارير الأخرى في الواجهة الإعلامية. إنه تقرير مختلف يضع هذه الكلمة في قلب الاهتمام ويعيد إحياء الكلمات ذات الظلال الروحية التي هجرت في هذا العصر وتركت مكانها للقياسات المادية والمؤشرات الاقتصادية الجامدة. حولت الرأسمالية العالمية البشر إلى كتل جامدة تحدد نطاق التحدي والاستجابة لديها في الأبعاد المادية الخارجية وضربت صفحا عن الوجدان الداخلي للإنسان، ففي المجتمعات الأوروبية التي تجاوزت الاهتمام بالدين ـ من دون أن تتجاوز التدين ـ لم يعد هناك ما يثير الفضول للبحث في القضايا الوجدانية للإنسان الذي جرى اختزاله في مجرد أرقام ومؤشرات، اختزال تنبأ به في الستينات من القرن الماضي فيلسوف الوجودية جان بول سارتر وهربرت ماركيوز الذي ألف كتاب”الإنسان ذو البعد الواحد” الذي عرى فيه الحضارة الغربية الحديثة.

المثير للانتباه أن المؤشرات التي بنى عليها التقرير نتائجه لا تبتعد كثيرا عن تلك التي يتم اعتمادها في التقارير الأخرى المتعلقة بالتنمية البشرية، مثل حرية العمل السياسي وغياب الفساد والصحة العقلية والجسدية، إضافة إلى وجود شخص يمكن الاعتماد عليه، والاستقرار الوظيفي والأسري، وهذا ما يطرح بالنسبة سؤالا: هل يتعلق الأمر فقط بتغيير كلمة التنمية البشرية بكلمة السعادة، بهدف الترويج العالمي للتقرير الذي يعرف أصحابه أن مطلب السعادة أصبح عزيز المنال بسبب زحف الحداثة التي حولت الإنسان إلى آلة تدور بين سرعتين هما الإنتاج والاستهلاك، واللتين خلقتا للإنسان وهما بالسعادة وجعلت الإشباع المادي بديلا للإشباع الروحي ويقوم مقامه؟.

لو أن معدي التقرير خرجوا قليلا عن المؤشرات الشائعة في المجتمع الرأسمالي الذي يحسب كل شيء بالأرقام لخرجوا باستنتاجات مختلفة تماما، لكن هذه الاستنتاجات من شأنها أن تقلب الحساب وربما قد تثير انتقادات في الغرب، خصوصا في غياب الفلاسفة الغربيين الذين كانوا يقدرون الاختلاف وفي ظل التسطيح الشامل الذي باتت تمارسه العولمة، التسطيح الذي يرمي إلى التنميط بحيث تصبح حاجات أحمد هي حاجات جورج، وحاجات مواطن إفريقيا هي حاجات مواطن نيوزيلاندا، أي تتوحد الحاجات التي تحلق فوق الخصوصيات الدينية والثقافية والبيئية والنفسية، فالإنسان ذو البعد الواحد الذي تحدث عنه ماركيوز في الستينات داخل أوروبا هو الذي نجحت العولمة اليوم في فرضه على مستوى العالم.

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *