جاك أتالي يغوص في «التاريخ الاقتصادي للشعب اليهودي»

الرئيسية » علم وحضارة » جاك أتالي يغوص في «التاريخ الاقتصادي للشعب اليهودي»

جاك أتالي يغوص في «التاريخ الاقتصادي للشعب اليهودي»

هل اليهود آباء الرأسمالية؟

علاقة اليهود بالمال علاقة تاريخية متجذرة، فما من كتاب في تاريخ اليهود، أو تراث أدبي إلا ويتعرض لهذه العلاقة في التاريخ الحديث، بعد بروز اليهود على سطح لعبة الأمم خلال القرون الثلاثة الأخيرة في أوروبا ثم في الولايات المتحدة الأمريكية لاعبين أدوارا مؤثرة، جرى أكثرها وراء الكواليس وفي الظل بغية تحريك الأحداث عن بعد، وقد غذت هذه العلاقة القوية بين المال والذهب واليهود فكرة “المؤامرة اليهودية” التي انتشرت في جميع دول أوروبا وخاصة في روسيا في مرحلة من المراحل، عكستها بدقة وتفصيل الكتابات الأدبية في القرنين الثامن والتاسع عشر، إذ يكفي الوقوف مثلا عند روايات الروسيين “غوغول” و”دوستويفيسكي” أو الإنجليزيين “شارل ديكنز” خاصة عمله الشهير “مغامرات أوليفر تويست” والشاعر المسرحي “شكسبير”، وغيرها من الأعمال الأدبية التي لقيت صدى واسعا بين مختلف الشعوب وحاربها اليهود بلا هوادة، لندرك كيف أن اللاوعي الإنساني في العصر الحديث قد احتفظ للشخصية اليهودية بصورة معينة لم تتغير، هي ذاتها في الواقع المصاغة أدبيا. فالشخصية اليهودية في كل هذه الأعمال الأدبية والشعرية والمسرحية شخصية محبة للمال مقبلة عليه، مؤثرة للربا مشرعة إياه، ميالة إلى الغدر متصالحة معه، شديدة البخل قليلة الإنفاق كثيرة الاستغلال للآخرين.

وقد ظلت هذه العلاقة بين اليهود والمال لا يُتعرض لها إلا عرضا في بعض الكتابات التاريخية حول اليهود، أو في المؤلفات الأدبية، لكن الباحث الفرنسي المعروف “جاك أتالي” اليهودي والمستشار الثقافي للرئيس الفرنسي السابق هنري ميتران جعلها موضوع دراسة علمية مستقلة، ضمن كتاب صدر مؤخرا تحت عنوان “اليهود، العالم والمال: التاريخ الاقتصادي للشعب اليهودي” في 638 صفحة من الحجم الكبير، هو الأول من نوعه في هذا الموضوع.

والكتاب مليء بالمعطيات والإحالات والوقائع التاريخية، خاصة وأن صاحبه يهودي فرنسي ومن رجال الأعمال الفرنسيين أيضا. ويقول المؤلف إن العلاقة بين اليهود والمال “بقيت طوال قرون مثل العلبة السوداء التي يعتقد الجميع أن بداخلها ثعبانا ولا يقدر أحد على فتحها، لأن الاعتقاد الشائع أن هذه العلاقة هي مبرر معاداة السامية ومنبع المأساة، وعليه، كان المعتقد هو أنه من الأفضل عدم الحديث عنها”.

ويشير المؤلف إلى أنه انطلق في كتابه من أنه لابد في الوقت الحالي من فهم العلاقات القوية بين الاقتصادي والديني، وأن “تفجيرات 11 سبتمبر ضد مركز التجارة العالمي هي استعارة مأساوية لذلك الترابط بين الاقتصادي والديني”، ويبدو من خلال الكتاب أن جاك أتالي -المعروف بتأييده للدولة الإسرائيلية والحركة الصهيونية- يريد أن يقدم خدمة لليهود بإظهار دورهم الكبير في نشأة النظام الرأسمالي، وأن الرأسمالية مرتع لهم.

يبدأ المؤلف كتابه من بداية ظهور اليهود في التاريخ، متتبعا مسار التاريخ اليهودي والهجرات اليهودية قبل نشأة تجمعاتهم وبداية التعامل بالنقد، ليقول أن اليهود جعلوا من المال منذ وقت مبكر”البديل عن ممارسة العنف”، والمقصود بذلك أنهم جعلوا المال مرادفا لعنف أقل وضوحا وأكثر خفاء، أي وسيلة أخرى للغلبة غير العنف. وفي الحضارة المصرية القديمة لعب اليهود دور تجار وسماسرة الإمبراطورية خاصة في “طيبة”، الأمر الذي جعل الفراعنة يحاربونهم، ويقول المؤلف إن اليهود أثناء خروجهم من مصر إلى الشتات “حملوا معهم ثروات كبيرة نهبوها (المؤلف يستعمل فعل أخذ لا نهب) كتعويض عن سنوات العبودية في مصر”.

بعد أربعين عاما من التيه سيستقر اليهود في أرض “كنعان”، وهنا بدأ التعامل الحقيقي بالنقد كـ”تجريد” في التعامل اليومي بين اليهود وباقي الشعوب، ويرى المؤلف أن علاقة اليهود بالمال تجد جذورها في اللغة العبرية نفسها التي شكلت الوعي اليهودي المبكر، فاللغة العبرية لا تعرف فعل التملك “والشيء المملوك لا يتميز عن الشخص الذي يملكه، والأشياء تعيش في حياة صاحبها، إن كلمة المال تتكرر في العهد القديم 350 مرة بمرادفات مختلفة منها كلمة( كوسّيف) التي تعني الرغبة، والمال يسهل الحصول على جميع الأشياء، فقط السرقة هي المحظورة”، ويرى المؤلف أن اليهودي جعل من المال الوجه الآخر للألوهية على الأرض “لقد جعل الشعب اليهودي من المال الأداة الوحيدة والكونية للتبادل، تماما كما جعل من إلهه الأداة الوحيدة والكونية للمطلق”؟، وقد أصبح المال بالنسبة لليهودي “الوسيلة الممكنة لخدمة الإله”، و”كلما كان اليهودي أكثر ثراء كلما كان أكثر خدمة للإله”، هكذا بدأ اليهود في تغيير شرائعهم بحسب هذه القاعدة الذهبية في حياتهم، فأصبح بإمكان اليهودي “شراء” حق “البكورية” الذي يخول للابن البكر في الأسر المقيمة (غير المترحلة) الحصول على ضعف نصيب إخوته من الإرث. أما التعامل الربوي لليهود حسب المؤلف فقد ظهر في الإمبراطورية الرومانية التي كان يعيش بها 6 مليون يهودي، حيث صار اليهود هم “الحرفيون والتجار والمقرضون والسماسرة”، وفي عام 66 قبل الميلاد سيتعرض اليهود للإبادة على يد الرومان، حيث استولى “نيرون” على حصن “ماسادا” الذي شهد الانتحار الجماعي لليهود.

الربا وتراكم الثروة اليهودية

ويرى المؤلف أن الربا بالنسبة لليهودي أمر مشروع عندما يتعلق الأمر بالقرض الربوي لغير اليهودي “لأن الربح ليس سوى العلامة على خصوبة المال”. حين يدرس المؤلف الوجود اليهودي في الدولة الإسلامية يقول بأن اليهود كانوا هم الوحيدين الذين يعرفون القراءة والكتابة في الخلافة الإسلامية “الأمر الذي جعل الحاجة إليهم قوية”، وقد أصبح اليهود هم المسيطرون على “الشبكة الدولية للسماسرة والتجار والمبادلين بالرغم من أنهم كانوا في مرتبة دنيا قانونيا، لأنه وفق مبدأ الذمية القرآني ينبغي حماية الأدنى”، ويعني الذمي في مغالطة واضحة، ويرى أن “العبقرية اليهودية فرضت نفسها بسرعة” رغم ذلك الوضع الذي أشار إليه، “فوزير المالية للخليفة الثالث في دمشق كان يهوديا”.

وينتقل المؤلف إلى أوروبا بعد شد اليهود الرحال إليها عقب سقوط بغداد والخلافة الإسلامية “وتحول مركز الثقل إلى أوروبا”، فقد كانت هذه الأخيرة تشكو من الحاجة إلى النقد المعدني “ولم يكن هناك ما يكفي من الذهب والفضة لضمان إجراء العقود والمعاملات”، وفي ظل هذه الوضعية مع اقتراب العام 1000م وجد اليهود الذين قدر عددهم في أوروبا بنحو150000 فقط أنفسهم “في وضعية عجيبة بحيث أصبحوا الوحيدين الذين لهم حق منح قروض بينما الحاجة إلى المال قوية”، وكانت هذه المهمة هي الوحيدة المسموح لهم بها “لقد كانوا نافعين والمسيحيون اعترفوا لهم بذلك”، وخلال القرون الثلاثة التالية لعب اليهود أدوارا سياسية من بوابة المال، فقد عايشوا في أوروبا مرحلة إنشاء الدول القومية، فأخذ الملوك أيضا يقصدونهم “وكان اليهود مستعدين للدفع من أجل أي شيء، حتى من أجل المعارك والحروب الصليبية”. ونظرا للتعامل بالربا، فإن اليهود تمكنوا في وقت قصير من جمع ثروات طائلة، وكانوا يقرضون المال لمهلة عام أو أقل ومقابل أرباح كبيرة، مما كان يضاعف أموالهم بنسبة 50 إلى 80 %” فتراكم المال عندهم بسرعة.

اليهود والرأسمالية

يرى المؤلف أن اليهود هم الذين يقفون خلف الاقتصاد الرأسمالي الحديث، ويرد على نظرية الفيلسوف الألماني المعروف ماكس فيبر” الذي قال أن “الأخلاق المسيحية” هي البذور الأولى للرأسمالية، حيث يؤيد جاك أتالي نظرية اليهودي “ويرنر سامبارت” التي تقول أن “اليهود هم المؤسسون الحقيقيون للرأسمالية”، معتبرا أن وظيفة الإقراض التي مارسوها مكنت من زرع بذور الرأسمالية، ويعتبر أن فيبر كان معاديا للسامية من خلال تلك النظرية.

ويكشف المؤلف عن الدور الذي قام به اليهود في البلدان الأوروبية التي شهدت أولى معالم الاقتصاد الرأسمالي كالبلدان المنخفضة وإنجلترا منذ القرن السادس عشر، والدور الذي قاموا به في القرن التاسع عشر في قطاعات حيوية مثل الطيران والسيارات والإعلام، ويقول بأن القلة فقط هم الذين يعرفون أن “وكالة رويتر للأنباء” ووكالة “هافاس” أسسهما اليهود في القرن التاسع عشر، كما أنشأوا البنك الألماني وبنك باريس والبنوك الكبرى في الولايات المتحدة الأمريكية بعد هجرة اليهود الروس إلى أمريكا، لكن تركيز اليهود الأمريكيين في بداية القرن العشرين تحول من القطاع البنكي والمالي إلى مجالات التسلية والإعلام والموسيقى والسينما، حيث أنشأوا أهم الشركات العاملة في هذا المجال مثل “إم.جي.إم” و “فوكس” و”إر.سي. أي” و “إن.بي.سي” و”سي.بي.إس”، والتي تشكلت منها “هوليود”. ويحاول المؤلف من خلال كتابه أن يدفع الغرب إلى الاقتناع بأهمية اليهود للحضارة الغربية الحديثة، ودورهم في الدفع بالعولمة الاقتصادية، فهو يجد نوعا من التخريج الغريب ولكن الذكي حين يقول أن العولمة هي “الترحال” اليهودي القديم ولكن بصورة أخرى متطورة، لأن العولمة هي “ترحال” الأموال والسلع.

إدريس الكنبوري

شارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *